أفّاق بدرجة مستشار: إسرائيل بير تجسس على بن جوريون فتجسست عليهما مصر | مينا منير

أفّاق بدرجة مستشار: إسرائيل بير تجسس على بن جوريون فتجسست عليهما مصر | مينا منير

27 Jan 2019
مينا منير دقائق

مينا منير

باحث بجامعة لوزان - سويسرا

إسرائيل مصر
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

تقرير سري للاستخبارات الأمريكية، رُفع وسم السرية عنه منذ وقتٍ قريب، يضع تقديرًا لموقف وقدرات جهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد) ويرصد أهم خمسة نجاحات وخمسة إخفاقات في عملياته حتى منتصف الثمانينيات.

في قائمة الإخفاقات، يدرج التقرير:

  • فضيحة لافون.
  • فشل توقع إجراءات جمال عبد الناصر في غلق مضيق العقبة، ما أدى لنشوب حرب الأيام الستة (النكسة).
  • كارثة عملية ميونخ عام 1972.
  • خروج عملية الهجوم على لبنان عن السيطرة أثناء الحرب.
  • اختراق إسرائيل بير.

يعرف القاصي والداني الأحداث الأربعة الأولى، فماذا عن اختراق إسرائيل بير التي وضعها الباحث ضمن الإخفاقات الخمسة الكبرى للموساد؟ في هذا المقال ستجد قصة غريبة، يتجاوز واقعها أكثر مراحل الخيال جموحًا.

البداية من الهاجاناه

في 1938، ظهر شاب ممشوق القوام في حيفا. قدم نفسه للجميع على أنه يدعى إسرائيل بير (ישראל בר – وأحياناً تُنطق بار).

أبهر الجميع بلكنته النمساوية الرفيعة، ومعرفته الموسوعية بأمور واستراتيجيات الحرب، حينما كانت الجماعات اليهودية هناك في أمس الحاجة لمثل تلك المواهب.

الشاب إسرائيل بير

قال إسرائيل بير إنه حاصل على الدكتوراه في الفنون والأدب من جامعة فيينا المرموقة، وقال إنه شارك في الحرب الأهلية بإسبانيا، ما أكسبه القدرة والمعرفة الكبيرة والمبهرة بأصول القتال وعلوم الحرب، والتي طغت على مقالاته، بدرجة لم تشعرهم بالحاجة لمحاولة التيقن من تاريخه.

في 1940، انضم المفكر المبهر للهاجاناه، الميليشيا العبرية التي ستتحول لاحقًا إلى ما يُسمى بجيش الدفاع الإسرائيلي بعد تأسيس الدولة. ومن هنا، صار صعوده الصاروخي لمركز صناعة القرار السياسي والعسكري غير قابلة للتوقف.

لم يمضِ كثيرًا حتى صار إسرائيل بير نائبًا لرئيس العمليات في الميليشيا، وباتت مقالاته في التخطيط لضربات خاطفة ضد العرب، وتغيير الواقع على الأرض قبل الدخول في مفاوضات سياسية هي المبادئ التي ترسخت عليها استراتيجيات العسكرية الإسرائيلية: اضرب أولًا ثم ناقش.

وبالفعل، باتت خططه وأفكاره متجسدةً في معارك 1948 “حرب التحرير”.

في نهاية 1947، كتب إسرائيل بير مقالًا واضحًا، قدم فيه طرحًا خطيرًا ألهم بمعارك “حرب التحرير”.

أما رؤيته تحديدًا عن عدم وجود جيش نظامي يُعتد به في المنطقة العربية، باستثناء مصر والعراق، فكانت مهمة للباحثين؛ فقد نجح في وضع أرقام خطيرة في مقاله المذكور عن الوضع المهلهل للجيش الملكي المصري، جرأت الباحثين على تأمل فكرة حرب التحرير، الأمر الذي رسمه في صورة عراب الدولة اليافعة.

مع اقتراب ترك بريطانيا لمواقعها، يجب أن ننظر نحو قدرات العرب، وكيف يمكن اقتناص الأرض قبل أن يبادر العرب في ملء فجوة الانتداب البريطاني.

دائرة بن جوريون الضيقة

رغم كل هذه النجاحات، عطلت ميوله السياسية نحو أقصى اليسار وصوله لقمة هرم جيش الدفاع الإسرائيلي، الأمر الذي أشعره بالضيق، فقرر تجميد نشاطه العسكري، والانتقال لتولي هيئة التخطيط والعمليات؛ موقع حساس يفتح له خزائن ملفات الأمن القومي لإسرائيل، مع الاحتفاظ بتوجهاته السياسية التي جعلته ينضم إلى الهستدروت، وحزب مباي برئاسة الأب الروحي لدولة إسرائيل ديفيد بن جوريون، الأمر الذي سيشكل نقلة كبيرة في حياته.

حضوره الفكري الطاغي فتح له أبواب الجامعة العبرية. قرر التفرغ لتدوين أول كتاب عن تاريخ حرب 1948، ما أهله للإطلاع على ملفات سرية للغاية.

لم تكن هناك مؤسسة أمنية تجرؤ على رد طلب بير الاطلاع على ملفاتها. كان بن جوريون يحميه ويدعمه، ويفتح له حتى مكتبته الشخصية.


فوضى على ضفاف النيل.. كتاب عن دونالد ماكلين يكشف صراع المخابرات في مصر الملكية


إثارة الشكوك

هنا أثار ظهوره فضول شخصيات كانت تتساءل عن هوية هذا النمساوي الذي حقق كل هذا في عشر سنوات، وكسب ود وثقة بن جوريون بهذا الشكل؟

كل محاولات أجهزة الأمن ومنافسيه لمعرفة ماضيه بشكل موثق باءت بالفشل، فقد كان بير يلتف عليها كالثعبان، كما وقته حماية صديقه بن جوريون الشديدة من كل محاولات مساءلته.

هنا قرر النجم الصاعد موشيه ديان ألا يتركه حتى يعرف قصته الحقيقية. وبمساعدة رئيس الموساد إيزر هارل بدأ ديان ينغص حياة بير.

بقرار ديفيد بن جوريون إقحام بير في دائرة صناعة القرار الضيقة بتعيينه مستشارًا عسكريًا له، ورئيسًا لقسم العمليات في الجيش، فاض الكيل بديان، حتى قيل أنهما تشاجرا بشكلٍ عنيف بعيد نبأ التعيين. فدار الحوار التالي:

إسرائيل بير: يا أخرق، كل مؤهلاتك عين فقدتها في الحرب برصاصة طائشة، أتفقه أي شيء في الحروب يا مقاتل الصدفة؟                                                                موشيه ديان: أعرف أنك أفاق، وسيكشفك هارل آجلًا أم عاجلًا. أيًا كان سرك، سنكشفه قبل أن تصل إلى كرسي المستشارية، وحينها لن ينفعك بن جوريون

أما هارل، فكان أكثر اتزانًا من العصبي ديان. وضع بير تحت المراقبة، ليكتشف مقابلاته مع عدة أسماء معروف أن لها اتصالا بالمخابرات السوفييتية، لكن حماية بن جوريون حالت دون اتخاذ إجراء حاسم، فقرر هارل الإيقاع به عبر مراقبة جواسيس روس بعينهم، فإن التقاهم لن يكون هناك مفر.

أحد أهم رجال الكي جي بي كان دبلوماسيًا روسيًا يُدعى فلاديمير سوكولوف. لم يكن هناك شك في أن سوكولوف جاسوس، تركه الموساد لفضح شبكة الروس في تل أبيب. في مارس، رصد رجال الموساد دخول سوكولوف وخروجه من مبنى يمتلك فيه بير شقة فاخرة، فقرر هارل تركيز المراقبة على سوكولوف. وفي زيارة ثانية لبير، تأكد أنهما يتواصلان لنقل مظاريف إلى موسكو عبر كنيسة روسية مهجورة في حي أبو كبير (الفلسطيني).

السقوط

في الثامنة من صباح 29 مارس 1961، اقتحم تشكيل من رجال المخابرات شقة بير، وكانت الصدمة الأولى وجود صناديق كاملة من الأوراق المؤشر عليها بوسم “سري للغاية”!

تاريخ ووثائق إسرائيل السرية منسوخة بشكل مهين لكل جهاز سري. مذكرات وأوراق بن جوريون السرية كانت بين المستندات المنسوخة.

كان الاكتشاف صادمًا بما يصعب استيعابه، حتى أن هارل قرر “خطف” الرجل، حتى لا يمكن اقتفاء أثره.

في سرداب الشاباك، وفي سرية كاملة، بدأ التحقيق مع إسرائيل بير. وهنا قرر الرجل بعد أسبوع من الضغط عليه أن يعترف بكل شيء.

خروج بير لأول مرة من الشاباك ووصوله للمحكمة، وتظهر أوراه زهافي في الصورة – معاريف 30 أبريل 1961

لم يكن حجم التجسس الذي قام به بير قابلًا للتصديق. لم يتجسس لصالح الاتحاد السوفييتي على إسرائيل فقط، بل على دول الغرب في سفرياته الدبلوماسية والرسمية، حتى قيل: هل بقي شيء لا يعرفه بير؟

لم يتم إعلام بن جوريون مباشرةً. انتظروا حتى انكشاف الأمر تمامًا؛ حتى لا يمارس أي ضغوط لصالح صديقه. كانت صدمة بن جوريون عنيفة، منعته من الحديث ثلاثة أيام.

يقول أحد تقارير المخابرات الأمريكية أن ضربة بير أجهزت على حكومة حزب مباي، وأفقدت بن جوريون كل ما بقي له من هيبة في الأوساط السياسية.

المفاجآت تتواصل

هل هذا كل شيء؟ لم تقف المفاجآت هنا. ذهب هارل إلى إسرائيل بير، وسأله بشكل مباشر: هل أنت بالفعل من تدعي أنك هو؟ ليكتشفوا أن بير لم يذهب يومًا إلى إسبانيا، ولم يحمل أية شهادة عليا، وأنه لم يكن أكثر من أفاق تلاعب بإسرائيل على مدار عشرين سنة.

كان الغضب الرهيب في المحكمة ظاهرًا على ملامح القاضي، الذي حكم عليه بعد جلستين فقط بعشر سنوات مشددة.

المفاجآت تواصلت حتى بعد مدةٍ طويلة من وفاته، حين كشف جاسوس إنجليزي عمل لصالح الكي جي بي يُدعى هاري هوتون (Harry Houghton) أحد أبرز أفراد خلية بورتلاند، أنه كان زميل بير في سنواته الغامضة بالنمسا.

الجاسوس الإنجليزي هاري هوتون، شريك بير

الجاسوس الإنجليزي هاري هوتون، شريك بير

الجاوسوس قال إن بير لم يكن يهوديًا، وأن اسمه الحقيقي كان Kurt (دون ذكر اسم العائلة) من أسرة كاثوليكية، وأنه تبنى الفكر الشيوعي، وجنده الكي جي بي في فيينا.

لم ينكر هوتون الوثائق الأصلية عن وجود شخص اسمه اسرائيل بير في النمسا؛ كان شاب ناشط يحمل الاسم بالفعل، وكان على معرفة ببير، لكنه “قُتل” (لم يحدد القاتل ولكن يمكن الاستنتاج!) وحصل كُرت على هويته التي رحل بها إلى إسرائيل.

لم تكن هذه كل المفاجآت. جانب آخر من الرواية لا تعرفه إسرائيل بعد، أو على الأقل لم تعلن عنه.

مصر تدخل المشهد

في أقل من عام على الحكم الأول، صدر قرار المحكمة في طعن بير، وزادت سنوات السجن إلى 15 سنة مشددة؛ لما رآه القاضي من وقاحة بير في طعنه على الحكم بعد كل ما اقترفه.

بير يوم المحاكمة

أما ما اقترفه، فقد أوضحت الصحف الإسرائيلية أن أخطر المعلومات العسكرية التي سربها للروس كانت حول تخطيط إسرائيل لهجوم حرب 56 منذ شهر مارس، نقل بعدها تقارير دقيقة حول مواقع وتحصينات الجيش الإسرائيلي على الجبهة المصرية بعد الحرب.

المشكلة الأكثر فداحة بحسب التقارير الصحفية أن تلك المعلومات الخطيرة قد وصلت مصر.

أما عن كيفية وصولها مصر، فقد رأى حينها المحققون والباحثون أن الاتحاد السوفييتي قد مرر على الأرجح تلك المعلومات إلى القاهرة.

استوقفني هذا التخمين كثيرًا؛ لغياب الدليل على قوة العلاقات المصرية السوفييتية في تلك المرحلة، حيث لم تكن لمصر فيها بوصلة أيديولوجية واضحة نحو الشرق أو الغرب، ليجري إمدادها بوثائق استخباراتية حساسة كهذه.

هنا تدخل مصر في المشهد المعقد لقصة إسرائيل بير بمعلومات جديدة يمكن التحقق من غالبيتها من أكثر من مصدر يشهد لمنطقيتها وتاريخيتها، وفيها يظهر رفعت الجمال.. مرة أخرى.

فريسة رفعت الجمال

ربيع العام 1958 كان مميزًا للجاسوس المصري جاك بيتون (رفعت الجمال)، فقد شهد الانطلاقة الحقيقية لشركته وعلاقاته.

فبعد عودته من لقاءٍ حاد مع السيد محمد نسيم، حدد بيتون أهدافه بوضوح، وفي وقتٍ قصير حصل على ترسية مناقصة كبيرة، تتعاون بموجبها شركته (سيتورز) وخطوط طيران العال الإسرائيلية، لتنفيذ واحدة من أضخم عمليات نقل يهود من الدول العربية لإسرائيل، وكانت في بيروت، حيث جرى مد جسر جوي ناجح بين لبنان وإسرائيل، أفرغ الأولى من يهودها تقريبًا.

بالإضافة إلى المكاسب المادية الكبيرة، كانت أسهم بيتون بعد نجاح العملية في السماء لدى القيادة السياسية. في ذلك الوقت انضم بيتون، بدعوة من أصدقائه، لحزب مباي والهستدروت، مع إسرائيل بير.

قيل أن التعارف بينهما جرى في لقاء مشترك، على الأرجح في منزل السيدة بيبا إندلسون (التي أعتقد أنها خلف شخصية سيرينا أهروني في مسلسل رأفت الهجان) إحدى زعماء الهستدروت حينها.


ألكسندر يولين.. بطل إسرائيل الذي خدم المخابرات المصرية | مينا منير | دقائق.نت

نازيون بين القاهرة وتل أبيب: (1) أولريخ شنافت | مينا منير | دقائق.نت


“مبروم على مبروم”

إن كان بير أفاقًا ناجحًا خدع الإسرائيليين ببراعة، فإن الأمر استلزم أفاقًا مثله بتاريخ إجرامي مميز في تزوير الأوراق الحكومية والشخصيات واللهجات مثل رفعت الجمال لكشفه، مصداقًا للمثل المصري “مبروم على مبروم مايلفش”.

يبدو أن الجمّال توسم فيه مصدرًا للمعلومات فتقرب منه، إلا أن الصداقة مع ديان جعلت اللقاءات غير يسيرة.

فهم الجمال بير من الناحية السيكولوجية، فرأى نقاط ضعفه التي تعمل عليها أجهزة المخابرات عادة؛ كان محبًا للنساء، والرفاهية الشديدة في الملبس وأنواع الخمور.

هنا رصدت أعين الجمال افتتان بير بصديقته ومساعدته أوراه زهافي (אורה זהבי(. كانت أوراه تصغره بشكل كبير في السن، وقد افتتنت بأستاذها ذي الكاريزما المميزة، الذي تركت زوجها من أجله، فقام الأخير بضرب بير أمام الناس وكسر أنفه).

تجنيد أوراه

كان تقرير رفعت الجمال للمخابرات المصرية يشمل ملاحظاته التي اقترح فيها تجنيد بير وأوراه، فوصلته الأوامر بالتركيز على أوراه، وقد كان.

صارت الصداقة بين أوراه والجمال وطيدة، حتى عرف الأخير بالمشكلات المالية التي يواجهها بير بسبب بذخه، وصار الأمر ضاغطًا على العلاقة بشكل كبير، فاقترح عليها أن تتعرف على أصدقاءٍ له في فرنسا يمكنهم توفير المال مقابل بعض الخدمات.

أرسل بيتون أوراه إلى باريس بتذكرة مجانية من خلال سيتورز، وهناك يبدو أنها التقت برجل محدد في المخابرات المصرية، قدم نفسه كفرنسي، وأقنعها بدوره بشدة. تذكره الرواية المصرية في موضعين مختلفين ولكن بأسماء مزيفة طبعاً.

كان النجاح في تجنيد أوراه فعالًا بشكل يصعب تصديقه. حالة فريدة من نوعها تتجسس فيها دولة على شخص في وظيفة من أعلى خمسة مناصب بدولة العدو، في حين أن هذا الشخص نفسه جاسوس لدولة ثالثة؛ فالتجسس على جاسوس في دولة ثالثة أمر شديد التعقيد، ولا أعتقد أنه تكرر كثيرًا في عالم المخابرات بأكمله.

نسخة إلى موسكو.. ومثلها إلى القاهرة

بير يبرئ أوراه، التي سخرته للمخابرات المصرية دون علمه

كانت كل وثيقة ينسخها بير لأصدقائه الروس تصل منها نسخة مايكروفيلمية لمكتبة قديمة في باريس، تعمل واجهة للمخابرات المصرية، وبالتالي فكل إنجاز حققه بير للروس كانت هناك نسخة منه في كوبري القبة، أي أنه فعليًا صار جاسوسًا لمصر دون معرفته.

ليلة القبض عليه، قيل أن أوراه وجدت بحوزته ثلاثين كيلوجرامًا من الوثائق قامت بنسخها قبل زيارة سوكولوف التي أعطت الموساد الضوء الأخضر لاقتحام المبنى.

من الطريف أنه بعد سقوط الرجل، وظهوره لأول مرة بعد اختفاء لمدة شهر في أقبية الشاباك، تظهر أوراه ببراءة في إحدى الصورة التي التقطها له مراسل معاريف، فهل كان يعرف أنها جعلته جاسوسًا لمصر؟ وهل كان يعرف أن صديقه بيتون قد كان وراء ذلك؟ يستحيل أن نعرف، لكنني أميل إلى أنه لم يكن يعرف بنشاط أوراه التي برأها في التحقيقات.

من الطريف أن أوراه كانت تنتظره في كل محاكمة بأفخر أنواع الخمور والسيجار. في إحدى المرات زارته بزجاجة ويسكي فاخرة، فقيل لها إنها تحاول سمه بعد انكشاف أمره، فحاولت أن تشرب من الزجاجة، لكنهم منعوها، فخرجت غاضبة واختفت من حينها.

الرواية المصرية، وهي مستقلة، تكمل الصورة، لتقول إنها طالبت مشغليها المصريين بأن يرتبوا لها حياة جديدة بعيدة عن إسرائيل، فانتهت في بلد أوروبي (قيل إن البلد هو إسبانيا، لكن بالطبع البلد الحقيقي غير معروف للعامة).

كانت هذه العملية من أبرع وأعقد ما قرأت؛ فتنفيذ عملية مثلثة التجسس بهذا الشكل لا يمكن أن يحققها جهاز عادي أو أفراد لديهم قدرات متوسطة.

دان رابينوفيتش وكلارا في دراما الهجان

بعد إتمامي للبحث، دعاني فضولي لمشاهدة بعض حلقات مسلسل رأفت الهجان، وهي بطبيعة الحال عمل درامي تتخلله ملامح تاريخية محدودة كما شرحنا سابقًا.

دان رابينوفيتش وكلارا – دراما رأفت الهجان

استرعى انتباهي دور القائد العسكري المسن دان رابينوفيتش (حسن مصطفى) ومعشوقته الصغيرة كلارا (لمياء الجداوي)؛ فالتشابه بين حالة إسرائيل بار وحالتهما في الدراما يصعب أن تكون من قبيل الصدفة، ليس فقط في فارق السن ولكن أيضًا في طريقة التجنيد و”الشخصية المصرية” الفريدة التي التقى بها دان في أوروبا يصعب أن يكون مصادفة.

مارس صالح مرسي بالطبع حرفته الأدبية في تغيير التفاصيل لإخفاء الشخصيات التاريخية، فيجعل دان هو الذي تم تجنيده، بينما كلارا تحمل اسمًا من مقطعينTwo syllables، المقطع الثاني فيهما مطابق لمقابله في الاسم الحقيقي (أورا)، وقد قام مرسي بذلك في أسماء أخرى في المسلسل.

وبالتالي، أعتقد أن الملحمة خُلدت بشكل غير مباشر لملايين المشاهدين.

كلمة أخيرة   

بهذه العملية الرائعة، أكون قد اختتمت سلسلة الجاسوسية التي ترتبط بحقبة نشاط رفعت الجمال، بعدما استنفذت كل المعلومات المتاحة خارج الملف السري، الذي يحوي بالتأكيد أكثر من ذلك بكثير، لكن يستحيل معرفته والتحقق منه.

أود أن أستخلص من هذه السلسلة نقطة أساسية، وهي تفرد تجربة المخابرات المصرية التي لم تتخذ أي هيكل أو شكل من الأشكال المخابراتية النمطية التي توارثتها دول كثيرة من الأجهزة الكبرى (روسيا، بريطانيا، ألمانيا، أمريكا) في العالم بعد الحرب العالمية الثانية.

يكمن تفرد تجربة الجهاز في اعتمادها الأساسي على قوة وذكاء الفرد، وبالطبع ليس أي فرد، وإنما أشخاص بارعين على كل قياس إنساني، مثل رفعت الجمال الذي أعتقد أنه لم يحصل على حقه من التكريم بعد.

أحيانًا تكون الظروف والتحديات صعبة، لدرجة تُفقد البعض إيمانهم بتاريخ محترم ينتمون إليه، وكان بحثي قد أفضى إلى إنصاف تاريخ وبراعة رجال أسسوا هذا الجهاز من الصفر، وحققوا به في غضون سنوات بسيطة ما يجعل المصري فخورًا به جدًا، وليس هذا من قبيل الانحياز لكوني مصري، وإنما إنصافًا للتاريخ والدراسة النقدية للمتاح من المصادر، التي سعيت لفحصها بكل اللغات التي أقرأها، وبكل الأدوات التي تمرست عليها كأكاديمي ومؤرخ.


الحرب الدائرة على أرضنا ولا نراها | خالد البري | رواية صحفية في دقائق

كيف دخل إلى هناك وكيف خرج إلى هنا.. جمال خاشقجي المفقود في الترجمة


رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (2)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك