احتجاجات فرنسا.. دليلك لفهم ما يحدث في بلاد الغال

احتجاجات فرنسا.. دليلك لفهم ما يحدث في بلاد الغال

18 Dec 2018
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

منذ بداية الجمهورية الخامسة وحتى 2012، اختار الفرنسيون رؤساءً ينتمون لليمين القومي (باستثناء ميتران). رغم هذا، كانت السياسات “اشتراكية المظهر” من حيث بسط مظلة واسعة من الخدمات الاجتماعية، التي أثارت حسد أقرانهم في القارة العجوز!

أما النجاحات السياسية للأحزاب اليسارية، فاتجهت إلى المحليات والجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ، بجانب النقابات العمالية طبعًا.

من القمة للقاعدة.. نسخة اليسار الفرنسي

الشعب الفرنسي بتلك الصورة متشبع تمامًا بالأفكار اليسارية بصورتها الغربية؛ نتيجة للسياسات المتبعة على مستويي القمة والقاعدة.

السياسات اليسارية (حتى في المحليات) اتبعت المانيفستو التقليدي دومًا؛ ضرائب على أي نشاط رأسمالي؛ للإنفاق على التأمين الصحى، وإعانات البطالة، ورعاية الشيخوخة والأسر، بينما لم تمثل مكافحة الفقر أولوية على ما يبدو في النسخة الفرنسية من اليسار!

تبعات السياسات اليسارية

نتيجة لتلك السياسات، عانى الاقتصاد الفرنسي من عدة مشكلات مزمنة:

  • ضرائب شديدة الارتفاع “إيرادات الضرائب الحكومية تبلغ في المتوسط 34.2% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي النسبة الأعلى تاريخيًا بين دول العالم المتقدم”.
  • نمو اقتصادي متدنٍ “في أفضل أحواله لا يتجاوز متوسط منطقة اليورو”، ولا يعبر عن ثاني أكبر اقتصاد في تلك المنطقة، بينما أغلب جيرانها كثيرًا ما يحققون معدلات نمو أفضل!
  • معدل بطالة مخيف يتراوح بين 9 – 10% “يتجاوز متوسط منطقة اليورو البالغ 8.1%، ويبلغ ثلاثة أضعاف المعدل في ألمانيا مثلًا!”
  • عجز واضح في الموازنة “بمعايير الاتحاد الأوروبي”.

العوامل السابقة أنتجت دائرة مفرغة من الاستدانة، وفرض الضرائب المرتفعة على الأنشطة الرأسمالية وغيرها؛ للانفاق على الرعاية الاجتماعية “نشاط غير إنتاجي”، فتقل الربحية، ويتأثر النشاط الرأسمالي سلبًا، وبالتالي ينخفض النمو الاقتصادي، ولا يقدم وظائف كافية، فتصرف الحكومة إعانات بطالة، وتدفع حوافز للتوظيف دون حاجة عمل حقيقية، بما يؤدي لمزيد من التكاليف، وضعف الربحية، وضعف التنافسية للشركات الفرنسية، فتخسر أسواقها، ويقل الإنتاج، وبالتالي تقل حصيلة الضرائب، فتضطر الحكومة لرفع الضريبة أو ابتكار ضريبة جديدة، وهكذا!

الأمور ازدادت سوءًا مع الأزمات المالية العالمية.

اختيارات تقلبها أسعار النفط

فإذا كان الهوى الفرنسي لاختيار الرؤساء يمينيًا، وهؤلاء الرؤساء ينتهجون سياسات تشبه سياسات اليسار، فلماذا جنح الفرنسيون للرؤساء الاشتراكيين مرتين، الأولى في 1981، والثانية في 2012 وحتى اليوم؟!

هناك ملاحظة مهمة:

انظر إلى الشارت الخاص بأسعار برميل البترول، ستجد أنه في المرتين كان سعر برميل البترول يتجاوز المائة دولار!! مع انتخابات أبريل 1981، سجل سعر البترول 107 دولارات، ومع انتخابات أبريل 2012، وصل سعر البترول 114 دولارًا.

نجا ساركوزي من ارتفاع أسعار النفط في أواخر 2007؛ لأن الانتخابات جرت في أبريل 2007، بينما كان سعر النفط 80 دولارًا تقريبًا. هذا الربط يصعب تجاهله؛ الفرنسيون يتجهون لليسار أكثر مع ارتفاع أسعار الوقود، وما يتبعه من أرتفاع أسعار السلع، طلبًا لمزيد من الرعاية الاجتماعية!

لنحتج أولًا.. ثم ننظر ماذا نرى!

وليس غريبًا على مجتمع تربى على الأفكار اليسارية أن تكون أدوات الاحتجاج جزءًا أساسيًا في ثقافة شعبه. الاحتجاج أولًا، ثم يأتي التفاوض لاحقًا.

كانت أعمال العنف والاحتجاج في الثمانينيات والتسعينيات تعود في الغالب لحوادث فردية وعرقية، لكن الاحتجاجات التي حركتها دوافع اقتصادية تصاعدت بشكل كبير في العقدين الأخيرين.

وعود هولاند.. وليذهب الاقتصاد للجحيم

وصل هولاند في 2012 مع ارتفاع قياسي لأسعار النفط، محملًا بوعود مسرفة في التفاؤل كعادة اليسار التقليدي، لكنه فشل في تحقيق ما وعد به، سواء على مستوى النمو الاقتصادي وما يتبعه من توظيف، أو البعد عن التقشف، الذي اضطر إليه في النهاية، أو حتى في الحفاظ على التصنيف الائتماني لفرنسا!

بل إنه اضطر إلى تعديل قوانين العمل بإصلاحات شبه نيوليبرالية. أمر غير مستغرب؛ لأن السياسات اليسارية السابقة أنتجت فشلًا على مستويي الاقتصاد الكلي والجزئي.

القاعدة الشعبية تركن لمزيد من “الرعاية” بأقل عمل، والقمة تبذل جهدها لإرضاء الشعب، وليذهب الاقتصاد والإنتاج للجحيم!!

ماكرون الذي فهموه خطأ

ما الجديد هنا مع ماكرون؟! وهو في الوعي الفرنسي امتداد شاب لهولاند، الذي قدمه للفرنسيين!

ظهر ماكرون مع الحزب الاشتراكي، لكنه عمل في الوقت نفسه في مصارف روتشيلد “الذي لا يذكر إلا مصحوبًا بالحديث عن المؤامرات.

ماكرون مصرفي براجماتي، قرر أن يؤسس حزبًا جديدًا في 2016، ليقدم نفسه بشكل أزعم أن الفرنسيين “فهموه خطأً”.

فهم الفرنسيون أن ماكرون سياسي يساري؛ بحكم الحزب الاشتراكى، وشاب؛ أقرب للشباب ومشكلاتهم المتعلقة بالبطالة وصعوبة المعيشة، وله خبرات اقتصادية؛ كوزير اقتصاد في عهد هولاند، فيكون الأقدر على حل مشكلاتهم الاقتصادية المزمنة.

بينما ماكرون لا يهتم بتوصيف سياسته يمينًا ولا يسارًا. يهمه فقط القرار الفعال، بمعنى أنه لا توجد مشكلة فى لون القط مادام سيأكل الفئران!

وجد ماكرون أن السياسة اليسارية ستغرق البلاد أكثر. رأى حتمية خفض الإنفاق، بما يشمل خدمات الرعاية الاجتماعية، وخفض الضرائب على الرأسماليين؛ لضخ مزيد من الاستثمارات، ومن ثم النمو، وبالتالي التوظيف.

فرض ضرائب على المعاشات، وألغى الضرائب على الثروة؛ باعتبار أن الأولى لا تنتج نموًا ولا فرص عمل، بينما الثانية مصدر كل هذا، كأي اقتصادي ليبرالي عتيد!

وعندما بدأت أسعار النفط تتحرك نزولًا، وهو ما اعتاد الفرنسيون على اعتباره مؤشرًا لتحسن الأحوال المعيشية فتنفسوا الصعداء، صدمهم ماكرون برفع الضرائب على الوقود؛ كمزيد من الالتزام بالمعايير البيئية الأوروبية والعالمية، ولتعويض انخفاض حصيلة الضرائب.

ففعلوا ما يجيدونه دائمًا!

رغم أن المواصلات العامة جيدة في باريس والمدن الكبرى، ما قد يخفف تأثير قرار رفع ضرائب الوقود، لكن بقية المناطق لا تتمتع بنفس كثافة خدمات النقل العام، ولهذا فإن امتلاك سيارة يصبح ضرورة لبعضهم، ما جعل القرارات الأخيرة “غير عادلة فى رأيهم”، فكانت سببًا للمشاركة القوية لسكان الأقاليم في الأحداث.

أراد الفرنسيون قرارات اشتراكية أكثر، لكنهم حصلوا على توليفة أغضبت شقي الجدل الأيديولوجي، ففعلوا الشىء الذى يجيدونه دائمًا.. الاحتجاج وبكل عنف!!

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك