السينما الإيرانية بين ثورة الخميني وأوهام العالمية | حاتم منصور

السينما الإيرانية بين ثورة الخميني وأوهام العالمية | حاتم منصور

13 Feb 2019
حاتم منصور
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

كأي عنصر آخر متعلق بالثقافة والحياة في إيران، فللسينما حكاية غريبة ومسلية يمكن تقسيمها لما قبل/ بعد ثورة الخميني في 1979.

ما قبل الخميني

في بلد يملك تراكمات حضارية وفنية وتاريخية ضخمة، مثل الحضارة الفارسية بكل مكوناتها البصرية والزخرفية، وفي عصور حكم أسر الشاه المرتبطة ثقافيًا بالغرب، لم يكن من الغريب أن تشق أجهزة العرض السينمائي طريقها مبكرًا إلى إيران؛ لعرض الأفلام الأجنبية. لاحقًا، وفي 1930 تحديدًا، عُرض آبي ورابي، أول فيلم ايراني صامت.

عام 1933 شهد ظهور شريط الصوت في السينما الإيرانية، وشهد أيضًا بداية نجاحاتها الواسعة تجاريًا، بفضل فيلم واحد هو دختر لر (قصة رومانسية مقتبسة من الحدوتة الشعبية جعفر وجلنار). في المقابل، جاءت الحرب العالمية الثانية (1939) كطعنة قوية لهذه الصناعة الوليدة، وبسببها اتجهت أغلب القاعات لعرض الأفلام الأجنبية.

في هذه الفترة، استهدفت دور العرض بالأساس شريحة ثرية نسبيًا، ومتأثرة بالثقافة الغربية. شريحة أقرب ما تكون لشريحة البشوات والبكوات في مصر أثناء العصر الملكي. ومع انتهاء الحرب وانتشار دور العرض تدريجيًا، توسعت شرائح المتفرجين.

اعلانات مطبوعة لـ (آبي ورابي – دختر لر).

الستينيات كانت عقد ارتفاع متواصل في عدد الأفلام المنتجة سنويًا، بفضل انتعاش اقتصادي عام للبلاد، ومالت أغلبها للقصص الرومانسية، وللحبكات البوليسية.

سعت السينما الإيرانية وقتها لمحاكاة نماذج ناجحة تجاريًا مثل السينما الأمريكية والهندية، وصاغت دومًا نموذج البطل المتحضر، باعتباره شخصًا غربي الطباع. رؤية تتفق إلى حد كبير مع توجهات الحاكم وقتها (الشاه)، الذي انتهج الثقافة الغربية فيما يخص التعليم وقضايا تحرير المرأة وخلافه.

ليس الحجاب فقط.. المرأة الإيرانية قبل ثورة الخميني | الحكاية في دقائق

عام 1969 شهد مولد نوع جديد مغاير من السينما، والطريف أن ذلك حدث بفضل فيلم أنتجته حكومة الشاه نفسها! اسم الفيلم البقرة، ودارت أحداثه عن فلاح متعلق ببقرته جدًا، يغادر القرية لمشوار في المدينة. أثناء غيابه تموت البقرة، ويخشى الكل من تأثير الخبر عليه.

مشهد من الفيلم الإيراني “البقرة” – إخراج داريوش مهرجوئي

في الفيلم ولأول مرة، شاهد المتفرج الإيراني البسيط العادي نفسه في دور البطولة. وبسبب ما أثاره الفيلم من ردود فعل قوية وقتها، سحبته الحكومة من العرض؛ بحجة أنه يقدم صورة سيئة عن إيران، لكن نسخة منه تسربت لاحقًا لمهرجان فينيسيا عام 1971 ونالت جوائز، وأصبحت حديث المهرجان وقتها.

اعتبر النقاد الغربيون الفيلم بداية موجة سينمائية إيرانية، متأثرة بالموجة الواقعية في السينما الإيطالية، حيث البسطاء محور الأحداث، والتصوير دومًا في أماكن طبيعية بعيدة عن الاستوديوهات، وبمشاركة ممثلين غير محترفين. بالفعل شهدت السبعينيات انتشارًا لهذه النوعية، إلى أن جاءت اللحظة الفارقة للسينما الإيرانية، مع ثورة الخميني الإسلامية، ونجاحه في انتزاع السلطة 1979.

خيانة الخميني الأولى بدأت بصورة ولم تتوقف بعدها. ٤٠ عاما على الثورة الإيرانية | س/ج في دقائق

اعتبر الإسلاميون عامة السينما الايرانية أداة تغريب وعُهر وإفساد للمجتمع. ومع موجات المد الثوري الأولى، تعرضت عشرات القاعات للحرق والتخريب. الأسوأ والأسوأ أن بعضها شهد كوارث كبرى، كان أفظعها حريق سينما ركس، الذي راح ضحيته 400 شخص على الأقل، مُحاصرين بالنيران والدخان من كل ناحية.

حطام سينما ركس بعد الحريق

ما بعد الخميني

مع تولي الخميني السلطة تغيرت الأمور تمامًا. دهست الثورة الإسلامية المحاولات السابقة لبناء وجة حضاري عصري لإيران، ودشنت بدلًا منه وجهًا يحارب الحداثة والتطور، ويُعادي الغرب. السينما كانت طبعًا ضمن أولى ضحايا فتاوى التحريم، وتعرض نجومها وصُناعها فورا للاضطهاد، وهو ما أدى لهجرة العديدين منهم.

يُشاع أن هناك فيلمًا واحدًا شهيرًا، راق جدًا للخميني سابقًا، وكان السبب في عدم منع صناعة السينما بالكامل بعد توليه السلطة.

هل خمنت ما هو الفيلم؟ فكر جيدًا؛ لأن الاجابة هنا ستدهشك غالبًا.

نعم، هو فيلم “البقرة” بالتأكيد! ماذا توقعت؟!

أيًا كانت الأسباب، فقد أدرك نظام الخميني أن السينما يمكن أيضًا أن تكون أداة لترويج أفكاره الإسلامية السياسية، وبدأ إنتاج مجموعة أفلام تحت اسم الدفاع المقدس، أهدافها الأساسية هي:
1- الإشادة ببسالة ونبل الجنود المشاركين في الحرب ضد العراق.
2- الدفاع عن القضية الفلسطينية، وعن ضرورة اعتبار إسرائيل العدو الرئيسي.
3- تربية الأجيال القادمة على الإيمان التام بنظام ولاية الفقيه القائم، وتصنيف أي بديل آخر ككفر.

أدرك نظام الخميني أن السينما يمكن أيضًا أن تكون أداة لترويج أفكاره الإسلامية السياسية، وبدأ إنتاج مجموعة أفلام تحت اسم الدفاع المقدس

بالتوازي مع ذلك، أطلق الخميني الممنوعات الجديدة على صناع السينما:
1- لا ظهور للنساء إلا بملابس محتشمة بالكامل وبتغطية الشعر.
2- لا مشاهد جنسية، ولا قبلات، ولا أحضان، ولا تلامس باليد.
3- لا لانتقاد (النظام – الدين الإسلامي).

المعطيات العامة سوداوية إذًا لسينما ما بعد الثورة، ولأي مخرج، لكن أسماءً مثل (عباس كياروستامي – مجيد مجيدي – محسن مخملباف) نجحت في تدشين سينما تتوارث موجة الواقعية التي بدأت قبل الخميني، وتخضع لشروطه وممنوعاته أيضًا أغلب الوقت.

أساطير هوليوود يخوضون الحرب العالمية بسلاح الكاميرا 

بصياغة أخرى كانت هذه الشروط والممنوعات، سببًا في اكتساب شريحة من السينما الإيرانية خصالها الثابتة حتى اليوم:
1- الأحداث في قرى أو شوارع بسيطة، لتسهيل التصوير، وللتوفير في الميزانيات.
2- الشخصيات بسيطة واعتيادية وقريبة من المواطن العادي.
3- الأطفال تظهر كشخصيات رئيسية أو أبطال، لأن حواديتهم أبسط، ولا تحمل نفس تعقيدات وممنوعات الكبار.

مشاهير السينما الايرانية في المهرجانات السينمائية. من اليمين: إبراهيم حاتمي كيا – مجيد مجيدي – داريوش مهرجوئي – أصغر فرهادي – عباس كيارستمي

هذه الشريحة من السينما الإيرانية، على عكس ما يدعي النقاد والصحفيين، لا تمثل القاعدة الكبرى في الانتاج، ولا يجوز اعتبارها قالبا للسينما الإيرانية. نجاحاتها التجارية محدودة أيضًا. بصياغة أخرى، المواطن الإيراني نفسه لا يراها عظيمة أو مهمة للدرجة.

في المقابل، نالت أفلام كياروستامي وتلامذته – ولا تزال تنال – الاهتمام الإعلامي والتكريم المتواصل في مهرجانات السينما. ومع أواخر التسعينيات تحديدًا، أصبح لهذه الشريحة مكانة شبه ثابتة في دورات أغلب المهرجانات الشهيرة. مكانة تم تدعيمها مؤخرًا بحصول فيلمين للمخرج أصغر فرهادي، على أوسكار أفضل فيلم أجنبي عامي (2012 – 2017).

لماذا تحتاج الأوسكار ونحتاج معها إلى فوز “مولد نجمة” بجائزة أفضل فيلم؟‎ | حاتم منصور | دقائق.نت

يروق للبعض الادعاء بأن السينما الإيرانية عالمية بسبب هذه المكاسب، وهو ما أراه تعريفًا مخلًا بالعالمية. العالمية هي امتلاك قاعدة جماهيرية واسعة وسط جمهور كل قارة، وليست بالتأكيد امتلاك قاعدة متابعة صغيرة، تتضمن بالأساس نقاد المهرجانات والصحفيين.

ربما تجدر الاشارة هنا لفيلم الكل يعرف الذي أخرجه فرهادي مؤخرًا، وحاول فيه للمرة الأولى صناعة فيلم غير متعلق بإيران، مع نجمين في شهرة (خافيير باردم – بينيلوب كروز). فيلم يبدو نظريًا كمحطة انتقال للعالمية.

إعلان فيلم “الكل يعرف” Everybody Knows

لم يلق الفيلم التجاوب المعتاد من النقاد. سيبرر البعض ذلك بالتأكيد باختلاف نظام الإنتاج، أو اختلاف الهوية أو خلافه، لكن بالنسبة لي السبب بسيط. عندما نشاهد أفلام فرهادي الأخرى، يصبح التقييم بمعايير الأفلام الإيرانية وسينما العالم الثالث. عندما نشاهد نجومًا من هذا النوع، تصبح المقارنة إجبارية بالسينما الأمريكية والأوروبية. الفارق في هذه الحالة أكبر من أن نتجاوزه.

ينقلنا هذا لسؤال مهم: هل تنال هذه السينما الإيرانية – سنتوقف من الآن عن تكرار كلمة شريحة – تكريمات سينمائية وتغطيات إعلامية، لأسباب غير فنية؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما هي تلك الأسباب؟

كيف ربحت إسرائيل حرب أشرف مروان بجدارة في فيلم الملاك؟

يصعب نفي وجود عشاق حقيقيين لهذه السينما؛ بفضل خصالها الفنية فقط، لكن يستحيل أيضًا إنكار عوامل أخرى مؤثرة في كم الجوائز، وفي حجم الاهتمام الإعلامي المتواصل. عوامل يمكن تلخيص بعضها في الآتي:

1- هذه سينما يتعرض بعض صُناعها للسجن والقمع والملاحقات الأمنية. التعاطف إذًا مضمون هنا مع فنان أو مخرج السينما الإيرانية؛ لأن قضيته الأساسية تلمس أي فنان (الحرية).

أصغر فرهادي أثناء استلامه أوسكار أفضل فيلم أجنبي عام 2012 عن فيلم “انفصال”.

2- على عكس الخصال المتنوعة في سينما الدول الأوروبية مثلًا، بلورت السينما الإيرانية المشاركة في المهرجانات خصال ثابتة نسبيًا، وأصبح مصطلح (فيلم إيراني) له دلالة مرجحة.

3- تقدم هذه السينما النموذج الذي يرغب أغلب النقاد في تزكيته لباقي العالم (سينما مستقلة بعيدة عن سيطرة الشركات – ميزانيات منخفضة – شخصيات عادية – حواديت بسيطة غير مرتبطة بالإبهار أو العنف.. إلخ). تكريم وتلميع السينما الإيرانية هو دعاية لهذه المدرسة.

يوم الدين .. سينما خارج “الكمفورت زون”

4- الرغبة المستحدثة في اختلاق قيمة لأي منتج ثقافي يخص منطقة الشرق الأوسط؛ كمناهضة للأفكار العنصرية ضد المسلمين، وكإثبات أن كل البشر والمجتمعات تملك حضارة وثقافة وحسا فنيا وخلافه.

5- قصة صناعة كل فيلم تصلح دومًا كمادة صحفية مسلية مهما تكررت. ها هو حوارنا مع المخرج (س) الذي تحدى كل المصاعب في إيران، وصنع الفيلم (ص) العميق والمؤثر جدًا!

إعلان فيلم “انفصال” – أول فيلم ايراني يفوز بأوسكار أفضل فيلم أجنبي

6- بمرور الوقت، بدأت بعض الجهات الثقافية الغربية، في تمويل أفلام وصناع سينما إيرانيين. عندما تصبح الجهة المنتجة، هي نفسها الجهة المنظمة لمهرجان، والمالكة أيضًا لأجهزة إعلامية، يمكننا بالتأكيد تخيل تأثير ما على النتائج، أو على الأقل على فرص هذه الأفلام في المشاركة في المهرجان، وفي الحصول على تغطيات إعلامية واسعة.

بالنسبة للنظام الإسلامي في إيران، لا يخلو هذا التلميع الإعلامي من مكاسب أيضًا:
1- خلق متنفس سياسي للقوى المعارضة عبر التغاضي عن بعض المخرجين والأفلام. هذه النقطة تتضح مثلًا من نجاح مخرج مثل جعفر بناهي في تصوير أكثر من فيلم سرًا، خلال فترة الحظر المفروضة عليه. يستحيل مع أجهزة أمنية بهذه القوة أن تفعل ذلك سرًا. المسألة ببساطة تغاضٍ متعمد. شيء أقرب للصحف أو البرامج التي تتركها الأنظمة القمعية عمدًا، كمتنفس للمعارضة، بدلًا من الكبت الكامل الذي يولد الانفجار.

2- خلق إيهام على المستوى العالمي، أن النظام الايراني يفقد سيطرته تدريجيًا، وأن هناك حراكًا فعالًا ناحية الحريات، وبالتالي لا داعي لأي تصعيدات، خصوصًا على المستوى الدولي.

س/ج في دقائق: “العقوبات مقبلة”.. كيف يحكم ترامب الحصار على إيران؟

يبقى سؤالان: هل السينما الإيرانية الموجودة في المهرجانات، أداة فعالة للحشد ضد النظام الإيراني السلطوي القائم فعلًا، أم أنها مجرد مخدر للمتفرج غير الإيراني؟ وإلى أي مدى ستتغير إذا سقط هذا النظام؟

لن يتفق الكل على إجابة واحدة للسؤال الأول، أما الثاني فالزمن وحده سيتكفل باجابته.

مصادر المعلومات والتواريخ الخاصة ببدايات السينما الايرانية:

السينما الإيرانية – تاريخ وتحديات

Iranian Cinema: Before the Revolution

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (3)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك