معركة الشحاذ.. ماذا خسرنا بتنحية الفن انتصارًا لأبناء شكري مصطفى؟ | عمرو عبد الرازق

معركة الشحاذ.. ماذا خسرنا بتنحية الفن انتصارًا لأبناء شكري مصطفى؟ | عمرو عبد الرازق

16 Feb 2020
عمرو عبد الرازق
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

يذهب بنا الفن دون قصد – وربما دون رصد – إلى ساحة المناقشة والمباحثة لإبداء الرأي والتعليق على المادة المقدمة، والتباحث فيما يعنيه هذا العمل أو ذاك، فتدبج المقالات وتصاغ الآراء لمناقشة أبعاد العمل ونقده إيجابًا وسلبًا.

في حين يصر البعض – ورأيهم الاجتماعي مؤثر- على الذهاب بالفن وبالحياة بأكملها إلى مسرح الدين، لوضع كلمة قاطعة تبتر كل مناقشة، وتبقي على مناقشة وحيدة جادة هدفها ترجيح بإباحة أو بتحريم؛ لإيقاف المسار ما أمكن، أو تلجيمه ووضعه داخل إطار خانق، يفقده مزية التفاعل!

ربما كان ذلك لطبيعة الدين من حيث القول الفصل وحسن الخاتمة، المرتبطة بالمصير الأبدي للإنسان، التي جعلت من فكرة الحسم المبكر لدى الكثيرين بديلًا عن انسيابية التفاعل الإنساني المطمئن، الذي يحتاج بدوره لفسحة من الوقت والمرور بالتجارب دون عجلة، ودون خوف من عواقب التفكير أو تخيل لإله يتربص لك الهنات!

فكان ما نعانيه..

أيهما مثير للغرائز؟!

وتجاربنا الإنسانية حتى في أفقر حالاتها، مكدسة بالمواقف والخبرات والتفاعلات والإبداعات، التي تتجاوز في أغلبها حدود قضية المباح والممنوع.. حتى أنه عند محاولة حصر مواقف الحياة اليومية داخل هذا الإطار، خاصة عند التقيد بظاهر النصوص، تنتج لنا تشعبات لا نهائية من الأسئلة التافهة والإجابات الأكثر تفاهة، تفرز في مجملها قضايا ساقطة مبتذلة لا معنى لها، تلتحف برداء الفتوى، وتضعنا في مستقر أتون من التخلف والتأخر.

أصحاب هذا النهج يقفزون دومًا على النتائج، فيذهبون إلى نهايات لا علاقة لها بالمقدمات، وكأنهم لا يرون ما أمامهم، لكنهم يسعون دومًا لإثبات الأحكام المحددة سلفًا، وإظهارها في رداء علمي وكأنها نتائج منطقية لمقدمات تباحثوها.

فينتفضون بقوة لأثر الموسيقى الضار كما يعتقدون على الأفراد، خاصة الصغار، في حين لا يزعجهم بنفس القدر صليل الصوارم وأناشيد الحماسة أو أثر قصص القتل التاريخية والعنف المقدس على النشء، بل يسعون لغرسها في نفوس هؤلاء الذين يخشون أن تلين أحاسيسهم للحن شجي!

الموسيقى مثالًا حجتها إثارة الغرائز، مع أن العنف الدموي هو الأقرب بشدة لغريزة سفك الدماء عند الإنسان، وأقرب من المسافة بين الموسيقى والجنس إن وجدت! حتى أن المعزوفات التي يقبلونها على مضض، وتُدبج لها الأسانيد، هي الأناشيد الحماسية التي تثير هرمونات النشاط القتالي لديه، أي أكثرها غرائزية.

تزعجه لقطة غرام، لكنه متصالح للغاية مع حيازة وتبادل الجواري وشرعنة اغتصاب أسيرات الحرب، ويجد للفعل ألف مبرر، لا يمنح منها نصيبًا لأفعال أبسط بكثير، فواقع صادم خلف جدران الزمن أفضل لديه ألف مرة من محاكاة تمثيلية!

صناعة الإرهاب| كيف يتحول المسلم العادي إلى إرهابي؟ | (١) العقل النصي | عبد السميع جميل

صراع المحاكاة والواقع

وفي الرياضات العنيفة كالملاكمة والمصارعة وما شابه، حيلة لحصر وتفريج غرائز وطاقات الإنسان الوحشية، داخل حلبات ومسارح محكومة تحت السيطرة. وتفرغ الجماهير أيضًا طاقاتها للتباري في مدرجات تحيط باللاعبين، وهي محاكاة صغيرة تبعد بالإنسان ما أمكن عن العنف البدائي والصراعات الواقعية، وبدرجة مقاربة سائر الرياضات والمباريات!

لكنهم أطلقوا على مثل هذه الأمور باختصار لفظة “اللهو” ودبجت حولها الأحكام ما بين آثم ومباح، يرعونها فقط بنية إعداد بدني قتالي، أما كهواية أو كرياضة، فلا حاجة!

هنا اللهو، فما الجد لديهم إذًا؟! مجموعة طرق تهدف لتزكية الصراعات داخل النفس الواحدة، وبينها وبين النفوس المختلفة تحت عناوين خادعة مسالمة!

يقوم الفن بأمر مشابه، يحيل صراعات الإنسانية الكبرى، وأزمات الإنسان ومشكلاته الحياتية وقضاياه الفكرية، إلى شاشة أو مسرح محدود أمامك، أو لوحة تتخللها بلحظك، أو دفتي رواية تقلب خلالها المقصودات والمعاني ووجهات نظر الفنان المبدع، وكيف ارتأى القضية ونقلها إليك برؤيته. فيرتقى الفن إلى درجة من المحفزات الدافعة للتدبر والفهم والبحث والمناقشة، حتى يصل بالمتلقي إلى مدارك أعلى، يستطيع أن يكون عبرها رؤيته المستقلة والخاصة للأمور!

بينما الملتزم بحدود المعرض الديني، فيحيل المحاكاة الفنية إلى واقع، ويبدأ بمحاصرتها هي ذاتها افتراضًا وواقعًا، ويحاول أن يجعل من قضية الخيال قضية واقعية، يطلب لها النبذ أو العقاب ما أمكن، يحاصر مبدعيها، محاولًا الوصول للنهاية المصيرية التي يرتكز عليها محور فكره، حيث الحكم بالتأثيم.

على الدوام يستدعون أحكام الخاتمة وإن لم تأت بعد، فلا طاقة لهم على ممارسة الحياة، يتعجلون خاتمة ما تبعًا لما أملته عليهم تدوينات الأسلاف، يدفعهم طولُ الرحلة إلى الملل، لا قِبل لهم بحركة الفكر ولا براح الحياة.. تمامًا كما شاهدت استدعاء بعضهم لحروب نهاية الزمان من بطون الكتب القديمة، فيتشوقون أيضًا لإنهاء مصائر الأفراد وحتى الحياة البشرية ككل!

جرائم السلطة الاجتماعية في حارتنا .. الحلقة الغائبة بين الحكم والقانون

شحاذ نجيب محفوظ.. وتكفير شكري مصطفى

في الفن يهجر عمر الحمزاوي بطل “الشحاذ” لنجيب محفوظ، أسرته وعمله وأصدقاءه وثروته، بعد تعرضه لحالة من التشتت، فيخوض تجربته الخاصة في البحث عن أصل الوجود، يخوض البحث عبر ملذات الجسد ويفشل، فيتركها كما ترك الشعر والنضال السياسي في شبابه، يخوض المغامرة متخبطًا، لا يجد شيئًا.. ينعزل بحثا وأملًا في التقاط إشارة كونية إلهية تلهمه..في الواقع تجد الأمر أكثر حدة.

الحمزاوي لم يصطدم بأحد، بينما في الواقع كانت هجرة شكري مصطفى مثالًا مرتبطة بالتكفير قبل الهجرة، واتخاذ قرار إنهاء تجارب الآخرين، بما فيها – للمفارقة – قامة دينية كبرى كالشيخ الذهبي.. فلا مجال لديه ولا براح لخوض تجربته سوى بالدماء..

الحمزاوي آثر البعد أملًا في الوصول لسبب الوجود، بينما في الواقع كانت دماء الناس قرابينهم للوصول، تجربة ذاتية آثر فيها قدر الإمكان حماية الآخرين من وعثات ما سيلاقيه، فانعزل عنهم وطالبهم بنسيانه وغفران عزلته، بينما في الواقع كان الصعود على جثامين وأرواح كثيرة، هو الوسيلة الوحيدة لخلاص الفرق الناجية!

فكان انحدارًا وليس صعودًا! الفنان أوسع أفقًا!

في الفن يقدم الأديب المفكر ألف طريق غير اقتراف إثم التعدي على الغير، أما في رحلة الحسم العقائدي جولة عابرة يعقبها تقديم القرابين البشرية فداء لمعتقده وذاته!

يخرج بك الفنان، لمدارات كثيرة ويفتح لك أبوابًا عديدة، تقلل من فرص التصادم، على عكس ما قدمه لك صاحب الأفق الضيق، لم يجعل لك سوى اختيارين؛ أرض الإيمان تستدعى الاختصام، وأرض الكفر تستدعي التقاتل أو إخفاء الطوية.. الأبعاد كثيرة لكن رحلتها طويلة، وضيِّق الأفق لا طاقة له بها، فيسعى لحسم الأمور دون اكتمال الإدراك، ويتوهم أن قصر أنفاسه ثبات إيماني وليس انغلاقًا، فينهي رحلة العقل ويبدأ صراع البقاء!

متاهات التفكير الإنساني والبحث في الكون، والكتابات التي تتناول القضية لديهم ضالة، ليس لكونها كما يروجون ترفض الاعتراف بالإله، بل لكونها تستعرض رحلة الإنسان الذي لجأ للمسالمة، وزهد في بضاعتهم.. كثير من أحاديثهم تتناول الإنسانية باستخفاف وسخرية لهذا السبب!

الوجودية المسيحية بين بولس ونجيب محفوظ: قراءة في رواية “الطريق” | مينا منير

امتداد الفن ومحدودية الاعتقاد

الفن تطور إنساني، ومركب كالنفس الإنسانية، وامتداد زمني وعقلي، لا يميل لبتر التواصل والتفاعل، بينما الحسم الاعتقادي فقير ومحدود.. تتسع الرؤية فتضيق العبارة، جملة فنية مصاغة من خلال تجربة عميقة، تحمل ذائقة الفن في باطنها.. ليس غريبًا أن تصدر من داخل أكثر المناهج الدينية تصالحًا مع الحياة وتخاصمًا مع المنغلقين..

الشحاذ صاحب عوز التجربة، الساعي في البحث مر بحالة، وصفها بالمرض، جعلته يراجع حياته ووجوده، كل من حوله يمثلون جانبًا من جوانب حياته في مرحلة منها:

أصدقاؤه. الطبيب الذي آمن بالعلم وسيلة خلاص للمجتمع وهجر النضال.. السياسي السجين حيث المصادرة وكبت التجربة وثورة النفس المستمرة.. الصديق الكاتب الهازل دائمًا، الذي ترك جدية التجربة السياسية لأهل الحكم بعد ثورة يوليو، وتفرغ لكتابة التسلية..

البيت المستقر بما يحتويه من سكينة وزوجة محبة مخلصة، وأيضًا رتابة الحياة. ابنته الشابة الشاعرة امتداده في مرحلته الفنية وبِكارة التصوف النقي..

الصحراء للانطلاق نحو قنص الملذات بعيدًا عن صخب المدينة، وأخيرًا حديقة الاعتكاف التي هرب إليها، بأسوارها التي تمنعه عن الوصول لمراده، وتحجبه عن الوصول لمبتغاه..

جميع شخوص الرواية تمثل مراحل من حياة البطل أو جوانب من تكوينات ذاته.. هو الإنسان محور الوجود الكوني..

بينما النقيض الآخر في الواقع متعال للغاية على قلة ما لديه، وبفقره الفكري وخواء منهجه، لا يرى في نفسه صاحب عوز، لا يقبل أن يكون شحاذًا ساعيًا، هو مُكتفِ بما معه بعناد، ولا يترك حتى حرية السعي لغيره إلا لمستقرات آسنة، ويرى نفسه أهلًا لقيادة باتساع الأرض!

يرى في صناع الفن ضعفاء مخنثين ويرى الفن تخنثاً ودياثة، لأنه يحيله من همجية البداءة إلى ترقق الحضارة، التي ليس له بها مساهمة..

فماذا يمكن للفن أن يقدم لو مُنح مكانة مستقرة في نفوس المجتمع؟! وإلى أي مدى يمكنه أن يطور في الأفهام، وكيف يمكن أن يحول مسار البعض إلى نحو أكثر أمانًا وأقل خطورة!
في الفن سعى محفوظ لمحاكاة التجربة وهمًا، بينما في الواقع نصب الواهم كمينًا لقتله بقلب العاصمة!

مشكلتنا مع المقدس

الإطار الفكري ومخاطر إهماله


هيثم أحمد زكي.. الشخصية التي لم يكتبها نجيب محفوظ في بداية ونهاية | عمرو عبد الرازق

مراسلات السلام | ساسون سوميخ.. الإسرائيلي الذي صنع عالمية نجيب محفوظ | مينا منير

RAMY .. كوميديا الهوية في منزل أسرة مهاجرة | أمجد جمال


رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك