بنت الجيران.. أغاني المهرجانات تكسب شوطًا فنيًا جديدًا | أمجد جمال

بنت الجيران.. أغاني المهرجانات تكسب شوطًا فنيًا جديدًا | أمجد جمال

12 Feb 2020

أمجد جمال

ناقد فني

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

أغاني المهرجانات نوع موسيقي ظهرت إرهاصاته مع نهاية عقد الألفية الأول، وظل مستمرًا حتى الآن، أي أن عمره يزيد على 10 سنوات! مدة كافية تنزع منا حق تصنيفه بالموضة التي “ستأخذ وقتها وتنتهي”، فهو متدفق ولا يعطي أية إشارات عن توقف قريب.

على العكس، فرغم الهجوم الكاسح والتنظيرات ضد أغاني المهرجانات تزداد انتشارا، وتكسب أرضًا جديدة عند كافة الطبقات الاجتماعية، بل تخطت النطاق المحلي وغزت العالم العربي، ومؤخرًا باتت تروج له الشخصيات العامة، ويلقى قبولًا وتبريرًا من بعض المثقفين، خاصة في العامين الأخيرين.

انتقادات وجيهة..

الانتقادات لها أسبابها؛ سواء الظالمة مثل الخوف من المنافسة، أو الهواجس الطبقية، أو حماية “الآداب والأخلاق العامة”، أو سطحية الكلمات وبذائتها.

لكن لا شك أن بعض النقد كان يتمتع بأسس فنية وجيهة، متعلقة بالتردي الواضح لجودة الأصوات وهندسة الصوت، ولفقر الأداء الغنائي واتسامه بـ “الزعيق” والتطجين وتشوّه مخارج الألفاظ، والمبالغة في استعمال مؤثر الأوتوتيون (autotune) الذي يحول الصوت البشري لصوت أشبه بالروبوت.

والأهم أن أغاني المهرجانات افتقدت لعناصر موسيقى أساسية كالهارموني، وهو يعني تداخل النغمات المختلفة بثراء وانسجام في مقابل الأحادية أو سيطرة النغمة الواحدة.

أغاني المهرجانات اعتمدت بصورة كاملة على الآلات الإيقاعية الصاخبة وفقط، والمشكلة أن الآلة الإيقاعية هي الوحيدة بين بقية آلات الموسيقى المحايدة في نغماتها ولا تخضع لسلم موسيقى، بالتالي فهي – وإن كانت تنظم الهارموني – لكنها لا تشارك في صناعته.

أيضًا، عاب أغاني المهرجانات اعتمادها على الأصوات المخلقة آليًا دون توافق مع الصوت البشري؛ فتجد اللزمة الموسيقية في مكان وغناء المطرب في مكان آخر بشكل نشازي لا يقبل المجادلة.

عمرو دياب.. الحُب وَحدهُ يَكفي جدًا

.. لكنها تسقط بالتقادم

المثير للتوقف هنا أن تلك الأسباب نفسها كانت سببًا للهجوم على كل تيار موسيقي مختلف عن الذي سبقه. موسيقى الروك لاقت اتهامات مشابهة بعدما حلت محل الموسيقي الكلاسيكية والجاز والبلوز الذين كانوا أغنى في تركيب الهارموني وتعقيد النوتة الموسيقية.

فرق الروك في الستينيات كالبيتلز اتهموا بجعل صناعة الموسيقى أسهل مما ينبغي؛ يمكنك أن تصنع الموسيقى دون حتى أن تتعلمها، طالما أن اللحن (التون الواحد) يقود. موسيقى الهيب هوب والآر إن بي والراب نالوا التهم نفسها، خاصة الاعتماد على صخب الآلات الإيقاعية.

وفي مصر، هوجم تيار الثمانينيات والتسعينيات (أو المقسوم) بقيادة حميد الشاعري لأسباب مشابهة.. سموها الأغنية الشبابية أو “الهبابية”، والأغاني الإيقاعية، وأغاني “التنطيط”، والأغاني السريعة: رغم أنها لم تكن كلها سريعة، لكن صخب الإيقاعات ما أوحى لهم بذلك، وبالطبع كان هناك قسط للسخرية من طبيعة أصوات المطربين واختلافها عن خامة الصوت الكلاسيكية.

لننحي صراع الأجيال جانبًا، ونركز في المهم: الانتقادات غالبًا ما تسقط بالتقادم أو بالنجاح الجماهيري، والأهم استنتاج أننا أمام نمط حتمي لتطور الموسيقى مع الزمن.

العجيب فعلًا أن الموسيقى بصفة دورية لا تجد مسارًا للتطور إلا بالتوجه نحو “اللاموسيقى”! سموها “البساطة” أو “التبسيطية”، كل الطرق تؤدي إلى نغمات أقل وإيقاع أكثر، وكأنه رفض عام وقديم لتقاليد الموسيقى التي فرضتها الحضارة الغربية في عصور النهضة والثورة الصناعية، وجزء من تجلياتها الذي انتقل إلينا فيما يعرف بموسيقى التخت العثمانية.

سالمونيلا.. هل أصبحت الأغاني أذكى من الجمهور؟ | أمجد جمال

عودة للأصول والحرية المطلقة!

بالمقابل هناك عودة متواصلة لموسيقى التعبير الفردي غير المشذب، أقرب لموسيقى العصور الحجرية والقبائل البرية التي قامت على الصراخ والأهازيج الجماعية ودق الطبول وعزف الآلة الواحدة، لذا فهناك بعض الوجاهة بوصف موسيقى المهرجانات بموسيقى العشوائيات، وإن كان نظريًا لا توجد موسيقى فقراء وموسيقى أغنياء، فعمليا هناك موسيقى ارتبطت بسياق أرستقراطي وموسيقى ارتبطت بسياق همجي، وربما انعكس هذا السياق على تكنيك صناعة كل موسيقى، فالمجتمع الهمجي لا يؤمن بتعدد الأصوات بل الصوت الواحد، أو الأعلى صوتا!

بجانب أن الموسيقى تتأثر بخصال سامعيها وصانعيها، وبروح العصر، فيبقى للتفسير ما بعد الحداثي وجاهته في هذه القضية.. قد لا تكون أغاني المهرجانات ردة حضارية، بل مجرد رد فعل متمرد على نمط الموسيقى السائد، عودة للجذور والأصول بالمعنى الإيجابي، ومؤشر على الحرية الإبداعية التي تزداد يومًا بعد آخر بمعادلة الإنترنت، والانفلات من قبضة ملاك أدوات الصناعة ومن سلطة الرقابة والمتحكمين في النشر ورؤساء هيئات الإذاعة والتلفزيون، وموزعي الكاسيت ولجان الاستماع والتحكيم، وشرطة الذوق العام.

بالتأكيد هناك عوامل إيجابية عديدة في سهولة صناعة الموسيقى، ومن ثم سهولة التعبير عن النفس. وشئنا أو أبينا فموسيقى المهرجانات هي النمط الموسيقي الوحيد على الساحة الفنية الذي يكرس للحرية المطلقة.

بيت الجيران.. نقطة الفصل

نقطة الفصل كانت أغنية بنت الجيران للمطربين حسن شاكوش وعمر كمال، وقد وصلت لأرقام جنونية على مواقع المشاهدة والاستماع.

الأرقام ليست مقياسًا بالطبع، إلا لو كانت مدعومة بدلائل قاطعة من الشارع والحيز العام، وهو الأمر المتحقق. إن كنت تعيش في المدن والقرى المصرية في الفترة ما بين يناير وفبراير 2020، فالمؤكد أنك تسمع بنت الجيران في الشارع المصري أكثر من أصوات الكلاكسات ورفع الأذان.

ويبدو أنه بقدر ما تأذى وحورب صناع أغاني المهرجانات من نقد بعضه ظالم، بقدر ما استفادوا من قدر النقد الموضوعي.

صارت أغانيهم تتطور مع الوقت في جودة الأصوات وفي هندستها. صار الكلام أكثر تهذيبًا وإن احتفظ بالحد الأدنى من الجرأة التي تميزه عن أغاني البوب والأندرجراوند والمثقفين بكلماتها الأكثر تحفظًا وخضوعًا لأنظمة قيمية مختلفة، وباتت ألحان المهرجانات أكثر من مجرد وصلة من الزعيق حتى أنهم صاروا يستعينون أو يسطون على ألحان مصرية مشهورة ويضعونها في القالب الخاص بهم.

ولا شك أن دخول الممثل المصري محمد رمضان بثقله في هذا النوع أحدث به نقلة كبرى؛ فقد استعان رمضان بموزعين ومهندسي صوت وصناع صورة محترفين، أنقذوا هذا الشكل من العشوائية الكاملة، وفرضوا حدًا أدنى جديدًا للمنافسة.

بنت الجيران توزيع إسلام ساسو معتمد على القالب المهرجاناتي التقليدي لكن بلمسات شجية من آلة الناي الملعوبة بالكيبورد، جاءت منسجمة مع ما يقوله عمر كمال في القرار، إضافة للزمة إلكترونية محببة ترد على حسن شاكوش أثناء الجواب المنطلق بخامة صوته العريضة.

لحن بنت الجيران هو تحوير شعبي لأغنية محمد حماقي الرومانسية “حاجة مستخبية” من ألحان “مدين”، والأصلية كانت حققت أرقامًا لا بأس بها في نسب المشاهدة والاستماع، ما يعني أن جزءًا من نجاح بنت الجيران نبع من ألفة اللحن على أذن المستمع، لكن مع تطعيم الكلمات بمصطلحات جريئة في حسيتها وإيحاءاتها الجنسية: “تلاقيني لسه بخيري”، “احنا الاتنين قاطعين”، “كعبك محني والعود عليه القيمة”، “بهوايا انتي قاعدة معايا”، “هزي وسطك ميلي”.

ربما كانت تلك مشكلة الأغنية الأصلية، أنها منشغلة بالروح والأفلاطونية الكاذبة الخاضعة للمحاذير أكثر من اهتمامها بالجسد والحب بشكله المكتمل كما في بنت الجيران.

موسيقى المهرجانات كسبت شوطًا من خلال بنت الجيران. لكن المباراة كاملة لا تفوز بها قوالب موسيقية كاملة، بقدر ما تفوز بها أعمال متميزة نجحت في الاستفادة الأكبر من قالبها الموسيقى وتلافي معظم ثغراته.


5 تيمات سينمائية دمرتها تطبيقات الهواتف | أمجد جمال

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك