جابرييل جارثيا ماركيز.. ماذا يفيد الواقع لو ألهمنا أدبًا رديئًا؟ | مارك أمجد

جابرييل جارثيا ماركيز.. ماذا يفيد الواقع لو ألهمنا أدبًا رديئًا؟ | مارك أمجد

17 Apr 2019
مارك أمجد دقائق نت
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

ذات صباح، لملم الشاب الكولومبي المُعدم تقريبًا، من بلدة أراكاتاكا، جابرييل جارثيا ماركيز – الذي يعيش على فتات ما يقبضه نظير ما يكتبه بالقطعة لإحدى الصحف الصغيرة غير المعروفة – أوراق مخطوطة أول رواية يكتبها.

عرضها على أستاذه في مقر الصحيفة، في مشهد مألوف في حياة كُتاب كثيرين انتهى بهم المطاف إلى أن يصيروا أدباء مشهورين، في حين لم يتذكر أحد “الأستاذ” الذي أسندوا له تقييم بواكير أعمالهم.

نجيب محفوظ مثلًا ذهب في ليلة من الليالي لأستاذه سلامة موسى ومعه أوراق “عبث الأقدار” حسب رواية أحد حرافيشه، ولما عاد له النجيب بعد مدة، أخبره سلامة موسى أن يأخذ الأوراق معه وهو خارج ويرميها في أقرب صفيحة قمامة.

ظل الشاب الكولومبي يرمق رئيس التحرير يعبث بملف الرواية، الذي يحمل عنوان تساقط الأوراق. عنوان لا يختلف عن الطريقة التي يختار بها الكتّاب أسماء أعمالهم الأولى، لا يتضمن معيارًا واحدًا من معايير البيست سيللر، مشحون بهاجس مسيطر على المؤلف وحده، لكن هذه لم تكن المشكلة الحقيقية.

أقرأت حضرتك؟

نعم، لكن هناك أحداث كثيرة غير متناسقة مع العمل، كأنها أُقحَمت عليه؟

لكني استلهمتها من الواقع!

صدقني، حتى الواقع يكون بلا قيمة لو أنتج أدبًا سيًئا!

وكان هذا أول درس يتعلمه الشاب جابو: الواقع ليس دومًا رفيقًا جيدًا للكاتب، لكن في الحين ذاته ليس كل ما هو مُتخيَل يكون بالضرورة رائعًا! فهم جابو الدرس جيدًا، لدرجة أنه بعد زمن بعيد من تلك الواقعة، وبعد أن ينال شهرته، سيعرج عليه صحافي صديق أثناء إقامته في نزل، فيجد في حجرته بعض الأوراق مرمية في سلة القمامة، وحينما يسأله عنها سيجيبه ماركيز أنها مسودة واقعية لدرجة الملل.

أخرجها الصحافي وقرأها، لكنه لم يتحمل إعادتها للسلة مرة أخرى، وترجّى صديقه “المازوخي” كي يعيد الالتفات لها في أي وقت آخر، وبالفعل استعان بها ماركيز في كتيبه اثنتا عشرة قصة مهاجرة.

هذا لا يعني أن الواقع شكّل أزمة له، فأثناء عمله على مخطوط الحب في زمن الكوليرا سيشعر بصعوبة في رسم تفاصيل علاقة الحبيبين اللذين يستعر حبهما كلما تقدم بهما العمر، وعلى مائدة العشاء صارح جابو بحسه الطفولي أفراد أسرته في المشكلة التي يقابلها بصدد عمله الروائي الجديد، فأجابه واحد من الأبناء بمنتهى البساطة أن عليه اللجوء إلى علاقات زوجية حقيقية من الواقع، كي يكمل عالمه غير الحقيقي. هذه المرة أيضًا أنصت جابو لابنه مثلما أنصت لرئيس تحريره قديمًا.

رأى أمه في كل نساء المسكونة

يحكي ماركيز في كتاب سيرته عشت لأروي عن غرائبية المنزل الذي خرج منه؛ كيف كان متخمًا بالعلاقات المعقدة بين قاطنيه الذين يتحاربون ويتآلفون بنفس الطاقة، وبالأخص والديه. كما يسند فضلًا كبيرا في تكوينته الحكاءة لقصص جدّته التي روت له كثيرًا حول أمور لم يعاصرها، وحتى لما كبر، شعر بحدسه الأدبي أنها أميل لأن تُكتب من أن تُصدّق.

لكن من وسط كل شخصيات المنزل، ورغم تجنبه التحدث عن ذلك بوضوح حتى في أوراقه الذاتية، ظلت هناك علاقة مقدسة تربطه بالأم التي تحملت مشاقّ كثيرة أمام عينيه.

الطفل جابو ستنحفر في ذهنه صورة أمه كلما كتب كلمة عن امرأة، حتى لو كانت تلك المرأة أقل قدرًا من أمه.

أي كاتب مسّ البشرية قاطبة برهافة ما كتبه، نجد مساره مقرونًا بالصراعات الفرويدية ومحاولة أسر الأم في قمقم أوديب، ذلك القمقم الذي يتركه الأديب خلفه ولو في عمل واحد من أعماله. مثل كافكا في التحول وجونتر جراس في الطبل الصفيح ونجيب محفوظ في السراب.

لنأخذ جولة في غرفة تقف بداخلها كل نساء روايات ماركيز بنفس ملابسهن وزينتهن التي خلقهن بها: ها هي “إيرينديرا” البريئة، وها هي “ريميديوس” في مئة عام من العزلة التي لم يتخيل جابو مع جمال ملائكي مثلها أن تموت مثل بقية البشر، فجعلها تصعد بجسدها إلى السماء مُمسكة بشراشف الأسرّة على مرأى من أفراد أسرتها الواقفين حولها في حديقة المنزل، وها هي “فيرمينا” في الحب في زمن الكوليرا التي أحبت عامل التلغراف، لكن والديها رفضا زواجها منه وقدماها لطبيب ثري لم تحبه لكنها ألفته، وتحول مع السنين قلب فيرمينا لمحارة صلبة، فلم يعلم أحد ما تكنه لحبها القديم. حتى التقت بعد ممات زوجها بعامل التلغراف وهما في سن الشيخوخة وتقدم بطلب الزواج منها مجددًا، تعتبر عرضه جنونًا وبعد إلحاح تستسلم، ولا يمنعهما سنهما من قضاء شهر عسل دافئ في قمرة صغيرة على ظهر سفينة سياحية.

على الجانب الآخر من القصة نجد الحبيب وقد جعله جابو طوال تلك السنوات التي حُرم فيها من فيرمينا، لا يكفّ عن مضاجعة عشرات البنات والمومسات في مكتب التلغراف، ومع ذلك ظلت فيرمينا متربعة على قلبه وفي مخيلته.

كما نرى، الرجال عند ماركيز أكثر هشاشة، والنساء هن المحور الذي يلف على سِنّه العالم بأزيز مسموع.

النساء عند ماركيز دومًا جميلات وعنيدات، يتمتعن بمخيلة شبقية مريبة لا يحاسبهن عليها، بل يصغي السمع لهن ويكتب ما يحكينه في أذنه دون مغالاة أو حذف. مثل الأم التي نجدها تشتهي للحظة الفتى نحاسيّ البشرة المتقدم لخطبة ابنتها، والابنة التي نضجت لتوها وتريد إخبار الأسرة أنها فائرة لدرجة تستطيع معها إقحام آلة “الكلافسان” في شرجها. والجدة التي بعد أن جاوزت السبعين تمسكها حفيدتها وتحمّيها في الحمام وتزين وجهها أمام المرآة، حتى تبدو مثل دمية ملونة ضخمة. والفتاة التي يقتحم عليها الحمّام في نادي السباحة أحد الصبيان لاغتصابها، فتخبره بكل وقاحة أنها موافقة على حركته التالية، فقط إذا تسنى له فعلها على طريقة زنجي همجي، فيستسلم الفتى ويبكي عند عتبة الحمام، في انهيار كامل للبلطجة الذكورية بقصد من جابو.

وحتى منْ يُطلق عليهن الساقطات في أي مجتمع، قدمهن ماركيز بلمسات مختلفة، فنجد المومس التي ترقد داخل خيمة من خيم كرنفال شعبي، ويبلغ عدد الرجال الذين يدخلون إليها ويضاجعونها في اليوم الواحد ربما المئة، حتى أنها في نهاية اليوم تمسك بشراشف السرير وتعصرها لتنزف عرقهم جميعًا، وهي لا تفعل ذلك غير خضوع لسطوة رب عملها. ونجد الساقطة التي تهرب لحانة في السادسة صباحًا بعد أن قتلت زبونها الذي عاملها معاملة وقحة، وتظل طوال مدة انتظار بحث الشرطة عنها، تثرثر مع نادل الحانة الأبله كي تفرغ توترها، وبين حين والآخر تسأله: ماذا على امرأة أن تفعل تجاه رجل عنّفها، حتى لو كانت داعرة؟

ينسب البعض اتسام كتابة ماركيز بهذه النسوية لكونه خرج من بيئة أمريكا اللاتينية التي تمنح الهيمنة والمرح للمرأة، وهي صفة دارجة فعلًا في الأدب اللاتيني.

نلحظ ذلك بقوة في روايات أخرى مثل حكايات من ضيعة الأرامل ووقائع من أرض الرجال لكاتبها جيمس كانيون، حيث تدور الرواية حول فكرة اختفاء الرجال من القرى بسبب الحرب، فتتولى النساء مسؤولية كل شيء، حتى البحث عن رجل يلقحّهن جميعًا. لكن عند ماركيز كان الأمر مصطبغًا بشيء مختلف.

في رواية مئة عام من العزلة متعددة الأجيال ومتناسخة الأحداث، يرسم جابو لحظة ما اختلى أحد الأبطال بحبيبته التي تفوق عمره، ولوهلة يتخيلها الشاب قبل أن يضاجعها، أمه.

أهي مصادفة أوديبية؟!

جابو.. رفيق البطاركة والجنرالات

للمفارقة، إن كاتبًا مثل ماركيز، توحي أسماء كُتبه بأنه روائي يميل للمواضيع الخفيفة كالرومانسية والفتيات والموت، تورط في الحياة السياسية والتحم بها بعنفوان لا يقل عن عنفوان فيدل كاسترو وتشي جيفارا وهما صديقان له بالمناسبة، وقال عنه كاسترو في أحد تصريحاته: ماركيز هو الرجل الأكثر نفوذًا في أمريكا اللاتينية! ويروي جيفارا على سبيل المزاح في إحدى المقالات، أنه لما سأل جابو عن رأيه في مشروب الكوكاكولا، قال أن مذاقها يشبه طلاء الجِزم!

اعتبر ماركيز السياسة مكونًا ذا أهمية من مكونات توليفة “الواقعية السحرية” التي اُعتبر واحدًا من روادها. فنرى في رواية مئة عام من العزلة كيف يستخدم الإبادة الجماعية كحادثة نسبية يراها كل فريق من الشعب من مخيلته الخاصة، حتى أن البعض ذهبوا في تكهناتهم إلى أن المجزرة لم تتم من الأساس. واستطاع ماركيز من واقعة دموية كهذه أن يتباهى بألاعيبه السردية في تمييع كل ما هو ظاهر للعين، لدرجة تجعل القارئ يتمنى لو أن يحظى بفرصة الإمساك برأس المؤلف بعيدًا عن نصه، وشطره نصفين كي يعرف أي حقيقة من الحقائق المراوغة التي طرحها، يؤمن بها في أعماقه!

الروائي الذي عُرف بآرائه الواضحة في تقاريره وتحرياته الصحافية، لم يتبين أحد على وجه الدقة ما أراد أن يرمي إليه في متاهاته الروائية.

العجيب أنه رغم التصاقه أغلب الأحايين بجانب النضال الشعبي، لم يتورع عن إفراد أعمال بأكملها لمواساة الكولونيل الذي لم يجد من يكاتبه وهي رواية قصيرة جدًا تصوّر حياة جنرال بعد تقاعده لا يملك سوى بذلته الموشاة بالنياشين وابن يقُتل على يد عصابة بسبب اشتراكه في رهانات مصارعة الديكة. ثم خريف البطريرك التي تلامس فيها جابو العنيف بضربات رقيقة من مبضعه الروائي الخبير في جسد البطريرك المُستلقي أمامه عاريا على طاولة التشريح.

الرجل الذي أعاد كتابة التوراة

من يقرأ روايات جابرييل جارثيا ماركيز من أجل المتعة بوسعه التخمين أنه يقرأ لكهل كولومبي يضيء شمعة في حجرته أمام أيقونة العذراء مريم، وعند هذا الحد يتوقف تدينه. لكن من يقرأ رواياته بالتمحيص يتكشف له أن ذلك الماكر عرف من أين يأتي بمادة من التراث تغذي نصوصه التي صارت مُحيرة، لا بفعل التلقائية، ولكن لأنه أرادها كذلك. من أسفار موسى الخمسة استمد جابو محاكاته، وبدأ يبني عوالمه التي راهن نفسه أن يجعلها أكثر أسطورية من التوراة ذاتها، كأنه يتحدى “يهوه” نفسه.

وعلينا أن نضمّن مقالتنا هنا قول إحدى شخصيات الحب في زمن الكوليرا لما قالت، أو جعلها ماركيز تقول: لقد صدقوا التوراة، فلِم لن يصدقوني؟!

هناك قاعدة أدبية يعرفها بالممارسة الكتّاب المحترفون ويعرفها بالفطرة الموهوبون: تقول أعلى درجات المحاكاة هي أولى درجات الإبداع! وما أراده ماركيز تم له، فاليوم تُصنف التوراة، بغض النظر عن أي اعتبارات دينية، كأهم كتاب أدبي عرفته البشرية، نظرًا لما تتضمنه من قصص ملحمية ولغة شاعرية، والمفاجأة أن الكتاب الأدبي الذي يأتي في المرتبة الثانية بعد التوراة ليس سوى مئة عام من العزلة.

لكن التوراة لن تكون الوحي الأوحد لحاصد نوبل. فآخر رواية لماركيز ذاكرة غانياتي الحزينات والتي سيصرّ على نشرها مع نفس دار النشر المتواضعة التي أصدرت له أعماله الأولى، سيعترف جابو في مقدمتها أنه استلهم فكرتها لما قرأ رواية الجميلات النائمات للأديب الياباني ياسوناري كاواباتا.

وعلى ذكر الأدباء اليابانيين، الروائي هاروكي موراكامي رغم هوسه بالأغاني والسيمفونيات، وهو ما يظهر في عناوين كتبه وحوارات شخصيات رواياته، صرّح ذات مرة في أحد لقاءاته المُصورة أنه يمتنع تمامًا عن الاستماع لأي شيء وهو يكتب حتى لا يتعرض ذهنه للتشويش.

أما جابو فقد باح في مذكراته أنه دائمًا ما أحب الاستماع لسيمفونيات أثناء كتابته، وهو يقول أنه حينما اعتلى منصة الأكاديمية السويدية ليتسلم جائزة نوبل عام 1982 صدحت في القاعة وسط التصفيق، نفس السيمفونية التي كتب على ألحانها بعضًا من مسوداته، وتساءل جابو في نفسه وهو يتسلم الجائزة إن كانت الأكاديمية على علم بكل شيء كان يفعله في حجرته!


في ذكرى معروف الرصافي.. هل حان الوقت لمراجعة قرار منع كتابه الشخصية المحمدية؟ | مارك أمجد

مان بوكر العالمية في دقائق: لماذا فازت قصة فتاة ورجل كبير متزوج على منافساتها

طه حسين وعباس العقاد.. من هو عميد الأدب العربي حقًا؟

اللقاح الفكري.. ما تحتاجه لتكون قارئا واعيا (إنفوجرافيك)


رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

التعليقات (2)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك