سعر الحياة الحلوة | خالد البري | رواية صحفية في دقائق

سعر الحياة الحلوة | خالد البري | رواية صحفية في دقائق

17 Jan 2019
خالد البري رئيس تحرير دقائق نت
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

سعر الخطيب

قرار شبكات التليفزيون الأمريكية بإذاعة خطاب الرئيس دونالد ترامب الخاص بالجدار الحدودي مع المكسيك على الهواء قرار مكلف. الفقرات الإعلانية في هذا التوقيت – برايم تايم – تساوي ملايين الدولارات في الإجمال. نيويورك تايمز لاحظت أن مثل هذه الخطابات السياسية صارت نادرة ويحتفظ بها لأوقات تحظى باهتمام وطني، كخطاب باراك أوباما عن مقتل أسامة بن لادن في ٢٠١١. أحيانا يتقدم رئيس بطلب إلى شبكات التليفزيون لتخصيص وقت لإذاعة خطابه على الهواء، لكنه يقابل بالرفض، ويسجل الخطاب ليذاع لاحقا، كما حدث مع خطاب أوباما عن الهجرة في ٢٠١٤.

هذا الوصف سبق إذاعة الخطاب، لم نكن بعدُ نعلم القيمة التحريرية الخبرية لما سيقوله ترامب، لكننا نعرف الطريقة التي فكرت بها هذه المحطات التليفزيونية وهي تقرر هل تذيعه أم لا: السعر.

كم سيدفعون لقاء إذاعة خطاب الرئيس. هذا سعر الشراء.

وكم سيحصلون جراء بيع مساحات إعلانية أثناء التحليلات اللاحقة له. هذا سعر البيع.

هذا السعر الأخير يعتمد على تقدير شركات الإعلان لحجم اهتمام الزبائن بخطاب الرئيس. أي أن شركات الإعلان هي الأخرى ستقيم خطاب الرئيس من داخل طبيعته كمادة إخبارية.

قرار تحريري صحفي، يظن الظان أنه أبعد ما يكون عن “التسعير” بينما القرار كله يتمحور حول التسعير.

الموضوع لا يختلف كثيرا عن اهتمام شريحة من الأفراد بمنتج ملابس، أو اهتمام شريحة من الأفراد ببرنامج طبخ. سلعة سيدفع الأفراد من أوقاتهم ثمنا (سعرا) لشرائها. وستدفع شركات سعرا للسماح لهم بالإعلان عن منتجاتها لدى هذه الشريحة المهتمة.

يأتي الخاطب إلى بيت أهل العروس طالبا يدها. يسأل عن “المهر” وعن “القائمة” المطلوبة. يرد عليه أهل العروس: “إحنا بنشتري راجل”.

لنفترض أنهم جادون، وأن العبارة لم تقل من باب المجاملة.

أهل العروس وضعوا الأسعار المثبتة على الأثاث في كفة، ووضعوا السعر الذي يمكن أن يدفعوه في “راجل” – في طموحه ومستقبله وأخلاقه – في كفة. ثم قرروا أي الكفتين يرجح.

هذا السعر الثاني، سعر الرجل، تقديري. هناك جزء يأتي من خبرة أهل العروس الحياتية عن “قيمة الراجل”، وعن صفات “بضاعة الراجل الجيدة”، وعن خبرات آخرين اشتروا “راجل” سابقا.

لذلك فالسعر الذي يضعه كل أهل عروس مختلف، باختلاف القيمة التي يعطونها لكل صفة. خفة الدم عند بعض الناس تساوي -مثلا –  تسع وحدات، وعند آخرين هذه مجرد صفة جانبية لا تساوي أكثر من وحدتين. وهكذا الثقافة، القبول الاجتماعي، الخجل، الجرأة مقابل الخجل …

ثم نسمع بعد ذلك قصصا من الطرفين، الذين سعروا بالأثاث، والذين سعروا بالأخلاق والطموح، وقد ثبت لهم أن هذا كان الخيار الأفضل أو العكس: سيقول كل منهما “لا تغرك السلعة المهم الراجل”، أو “أوعي تقولي بنشتري راجل وتبيعي نفسك رخيصة”. إلخ.

لن تتدخل أبدا سلطة عليا في تحديد سعر لعملية التداول هذه. والمبرر سيكون واضحا لأي شخص فينا. هذه حياة الناس وهم مسؤولون عن جودتها.

لكن هل القميص الذي تشتريه، ونوعية الطعام، ومكان السكن، ووسيلة المواصلات، ترسم هي الأخرى جودة الحياة التي تعيشها؟

نعم.

السعر، إذن، عنصر مهم للغاية في تمكيننا أو منعنا من الحصول على جودة الحياة التي نريد. والتدخل فيه من سلطة عليا لن يتعلق بسلعة معينة. الاقتصاد لا يعمل بهذه الطريقة. تحديد سعر سلعة واحدة سيكون له أثر على غيرها.

تعالوا إذن نتعرف أكثر على السعر..

الملك = شربة ماء

هناك حكاية تراثية لطيفة عن هارون الرشيد ورجل ناسك، سأل فيها الناسك هارون الرشيد: لو منعت شربة ماء بكم كنت تشتريها؟ أجاب الرشيد: بنصف ملكي. سأله الناسك: لو مُنعت خروجها من جسدك بماذا كنت تشتري خروجها؟ أجاب الملك: بنصف ملكي.

فقال الناسك لا خير في ملك لا يساوي شربة ماء.

المُلك، في لحظة ما، يمكن أن يكون سعره شربة ماء. (البلد دي رخيصة أوي)

شربة ماء، في لحظة ما، يمكن أن يكون سعرها الملك. (البلد دي غالية أوي)

متى؟ إن تهددت حياتك كلها وكان هذا ثمن إنقاذها.

لكن الماء نفسه رخيص في الأحوال العادية. والملك باهظ الثمن في الأحوال العادية.

القيمة الذاتية المطلقة لا تساوي السعر. وإلا لصار الهواء أغلى ما في الوجود. السعر معادلة رياضية لا نهائية العوامل. تتداخل فيها الوفرة والجودة والقدرة على البقاء والأهمية والميول الاجتماعية. نجمع كل هذه العوامل تحت عنوان ذكي وسهل: العرض والطلب. أي الوفرة. ومقدار الطلب عليها.

السعر هو تصويت الناس بأموالهم على أولوياتهم تصويتا مسؤولا لأن المرء يدفع ثمنه، ويفكر فيه قبل أن يتخذه. ويتمتع بنتائجه أو يعاني منها بصورة فردية. تصويت حر تتمناه القرارات السياسية.

هذا السعر يترجم ألجوريذم فيه ملايين القرارات، والأمزجة، والقدرات الشرائية، وبدائل السوق، ومنافسة الجودة.

على بساطته، فالخلاف بين القيمة والسعر مبدأ أساسي وعميق في الاقتصاد.

الاقتصاد – تعريفا – هو إدارة الندرة والوفرة. حين ترى ثمرة برتقال في بلد تزوره لن تعرف إن كانت هذه السلعة متوفرة في البلد أم لا. لكن حين ترى سعرها ستعرف. وعلى هذا الأساس ستتخذ – كفرد – قرارك الاقتصادي بشأنها. لن تشتري منها كثيرا. وغيرك لن يشتري منها كثيرا. سيتكرر هذا الاختيار ملايين المرات. وسيرسم موقع البرتقال في المعادلة الاقتصادية.

كل هذا بشرط ألا يتدخل أحد في سعر البرتقال. لو قررت سلطة عليا أن البرتقال غني بفيتامين سي، ولا بد من دعمه، لكي يتوفر للأفراد بسعر يساعدهم على شرائه، يعني هذا أنها ستدفع من “المال العام” فارق السعر لملايين من ثمار البرتقال. ستجبر دافعي الضرائب على دفع مساهمة في سعر البرتقال وإن كانوا لا يريدون.

الفرد، حين يرى البرتقال رخيصا، سيشتري منه أكثر. هذا يعني أن البلد التي كانت تتداول عشرة ملايين ثمرة برتقال يوميا ستتداول أربعين مليونا. وأن فارق التكلفة سيدفع من المال العام. سيدفع من أجل البرتقال على حساب بند آخر. أو سيعوض النقص بسحب مزيد من الضرائب من جيوب المواطنين. مبالغ ربما استخدمها كل فرد بطريقة مختلفة، تتناسب مع أولوياته، ربما اشترى بها قميصا، أو كتابا، أو أرزا.

الآن، استبدل بكلمة البرتقال كلمة الخبز. بمجرد أن يصير سعر الخبز أرخص، سيزداد الإقبال عليه. لن يبذل الفرد الواحد وقتا طويلا في حساب كم رغيف بالضبط يحتاج. سيستهلك منه أكثر من حاجته. سيجعله محور وجبته، ويزداد الاعتماد عليه غذائيا. لن يبالي بالفائض منه وهو يذهب إلى سلة الزبالة. بالنسبة له سعره هو ما دفعه فيه. ما دفع فيه من المال العام، المأخوذ منه هو شخصيا، لن يخطر على باله.

في الريف سيتوقف الناس عن الخبز في البيوت، سيجدون أن الخبز المدعوم أفضل. بل سيجدونه طعاما أقل كلفة لطيورهم الداجنة. سيزداد الطلب على الخبز. ستزداد تكلفة توفيره من المال العام. ستسحب هذه الكلفة من بند آخر. أو بفرض مزيد من التحصيلات المالية على المواطنين. تحصيلات لربما اختار الفرد الواحد أن ينفقها على ما سوى الخبز من السلع: قميصا أو كتابا أو أرزا.

انس إذن وجهة نظرك حول الأهمية المطلقة للخبز عن البرتقال. هذه وجهة نظر نسبية، تختلف من فرد إلى آخر. مع ارتفاع المستوى المعيشي يقل اعتماد الإنسان على الخبز إلى حد كبير.

هناك آثار جانبية أخرى.

من أجل تنظيم عملية تسعير الخبز وتوزيعه سيحتاج الجهاز البيروقراطي إلى منظومة متكاملة من الجالبين والموزعين، والمراقبين، ومدوني البيانات. تكلفة، وعطلة، ومجال لهدر المال العام.

هناك رواية تروى بشخصيات مختلفة، لكنها تشير إلى حدث واحد. حين زار جورباتشوف بريطانيا وقت رئاسة مارجريت ثاتشر للوزراء سألها كيف تتحكمون في أسعار كل تلك السلع، من أين تأتون بجهاز بيروقراطي قادر على متابعة عشرات الأنواع من الخبز، واللحوم، والبن؟

فكانت إجابتها أن لا أحد هنا يعمل في هذه الوظيفة.

هناك من ينوب عن كل هؤلاء جميعا… السعر الحر. على أساسه يحدد الفرد مدى اهتمامه بالسلعة. ويحدد المستثمرون مدى جاذبية هذه السلعة للاستثمار فيها. إن كانت السلعة شحيحة، وسعرها مرتفع، أغرى هذا مستثمرين بأن يبحثوا عن مصدر أرخص لتلك السلعة، لكي يدخلوا إلى السوق غير المتشبع، وينافسوا بمنتج جديد أكثر تنافسية. وهكذا تتنوع الأصناف المعروضة من السلعة الواحدة. بأسعار مختلفة. حتى يتشبع السوق ويستقر السعر.

يذكرنا هذا بمشهد روبين ويليامز، وقد جاء فارا من دولة شيوعية، ودخل إلى سوبر ماركت. ذهب ليسأل الكاشيير أين يجد القهوة. وصدمته المفاجأة حين أشار له الكاشيير إلى ممر كامل من أصناف القهوة. فانطلق إليه وهو يساقط عبوات البن على نفسه ويصرخ فرحا: قهوة قهوة.

بن متوفر. ومتوفر في أصناف كثيرة. إشي خيال يا ناس!

البرتقال، الخبز، البن. والسكن أيضا. الأخير سلعة كغيره. خفِّض سعرها بقرار وسوف يشتري الناس منها أكثر من حاجتهم. كما حدث في مصر بعد فترة الستينيات. فجعل المعروض من الشقق قليلا. وجعل المستثمرين يفكرون ألف مرة قبل أن يبنوا عقارا بغرض الاستثمار. وإن فعلوا بنوه بجودة رديئة.

الجودة الحتمية التالية للتدخل في السعر.

خل بالك من كلمة “الحتمية”، لأنك هترجع تشتكي.

سعر جودة الحياة

تخفيض سعر سلعة كالخبز، قلنا سابقا، يعني تضخم تكلفته على المال العام بسبب تضخم استهلاكه، ويعني إثناء المستثمرين عن التفكير في خطوط إنتاجية متنوعة تنافس الموجود، لأن سعره لا ينافس.

توجُّه هذه المنظومة البيروقراطية الوظيفية نحو نشاط تنسيقي، خاص بإنتاج سلعة واحدة، بل غالبا صنف واحد من هذه السلعة الواحدة، يعني ضيق أفق الاقتصاد، وتثبيط إمكانية بروز أنشطة أخرى متعلقة بالخبز وبغيره. فسعر السلعة المدعوم في السوق يبطل إمكانية منافستها بسلعة أخرى تقوم بنفس الغرض.

هذا يعني بالنسبة لك شيئين:

أنك فقدت الفرصة في التنوع، والاختيار بين أنواع خبز متنوعة قد يوافق بعضها ذوقك الشخصي أكثر من غيره. كما أنك ملزم إن أردت خبزا أن تحصل على هذا النوع المتوفر، ولو لم يعجبك.

وأنك – حتى لو تستخدم هذا الخبز – دفعت جزءا كبيرا من ثمنه. مما قلص قدرتك الشرائية في جوانب أخرى.

في هذه المفردة من مفردات حياتك، فقدت خيار التجويد، فقدت خيار تحسين مستوى السلعة الذي تحصل عليه، أو توجيه المال لكي تحصل على سلعة أخرى تريدها.

وغالبا، لو أصررت على خيار التجويد، فستجد أن البديل مدرج ضمن “السلع الاستفزازية” باهظة السعر. ما بين القوسين عبارة سمجة معناها “السلع اللي مش عايشة عيشة أهلها”، السلع التي تستفز من حولك لأنهم لا يستطيعون شراءها.

المثل سيوضح أكثر حين نوسع أفق الصورة. التعليم صار هو الآخر سلعة رخيصة للغاية. من يريد تعليما، ومن لا يريد، من يجيد مهاراته، ومن لا يجيد، سيقبل على السلعة، ولا سيما إن كان موعودا بعدها بالتوظيف، كما سار الحال في كثير من الدول المركزية الاقتصاد.

فرق السعر هذا، بنفس المتوالية السابقة، سيدفعه المال العام، وسيحصل من الأفراد. وستحدث المتتابعة التي ذكرناها سابقا، مع شيء إضافي. ستلاحظه في أنواع أخرى من السلع.

التعليم ليس سلعة تحملها إلى بيتك، بل سلعة تنتقل إليها جسديا. أي أن مدى التكالب عليها سوف ينعكس مباشرة في عدد الأشخاص الموجودين بالفعل داخل الفصل التعليمي، وقاعة المحاضرات. كما أن العدد الكبير يقلل من فرصة تطوير المدرسة بإمكانات تكنولوجية أو معملية.

أي أن جودة التعليم انتقصت. غالبا إلى درجة لن تجعلك راضيا عنها. صرت هنا أيضا تمول من جيبك سلعة لا تستخدمها. وتمول أيضا بديلها، إما مدرسة خاصة، أو درسا خصوصيا، أو الاثنين معا.

المواصلات العامة قريبة إلى حد التماثل مع التعليم. مدعومة، مأخوذة من أموال الضرائب، لكنها سيئة لا تصلح للاستعمال الآدمي.

المجتمع نفسه سيتحول نفسيا إلى محارب للجودة. يعاقب من يريد شراء سلعة جيدة بتعاريف جمركية، ويدين من يحاول أن يعيش بطريقة مختلفة بهجمات أخلاقية.  يدين مثلا من يعيش في كمباوند. كمباوند يا عالم. مجرد شقة وليست قصرا. فيه كثافة سكانية معقولة. وفيه درجة ليست باذخة من التمتع بجودة الحياة. لكن إزاي!!

لقد صارت “قلة الجودة” هي الأصل. وصار الأفراد بدلا من إدارك تدني جودة حياتهم مشغولين بملاحقة من استطاعوا تحسين جودتها.

رعاية الأطفال نفسها سلعة. ندفع في العصر الحالي فيها مبالغ كبرى. هذا السعر الضخم كان الضامن لانضباط المواليد في الدول المتقدمة، حيث مع التقدم الطبي لن يتحمل العالم الإنجاب بكثرة كما السابق.

هذه السلعة أيضا لا تترك للسوق الحرة. بل يجري دعمها بدعم مفردات الإنفاق من مأكل وملبس وتعليم. فتقبل الناس عليها ويصير لديهم من الأولاد أكثر من حاجتهم.

المشكلة في تخفيض ثمن سلعة الإنجاب بالذات، أن زيادة المواليد هنا تتحول إلى وحش بمئة رأس، يتطلب دورات من زيادة التكليف في الخبز والتعليم والمواصلات والمسكن والوظيفة. كل طفل جديدة يأتي بحزمة من الأعباء الإضافية.

كيف تستطيع الإدارة الاقتصادية المركزية تمويل هذا كله؟

منك أنت. يا من لم تعد تستخدم ذلك التعليم، ولا تملك من القدرات ما يمكنك من مواجهة أشباح الأتوبيسات. ستؤخذ منك أموالا. نعم. ولكن ستؤخذ منك أيضا بطريقة ملتوية على شكل انخفاض جودة حياتك. ستعلب لك الحياة في نفس العلبة، لكن مكوناتها داخل الصندوق ستكون أقل، ومن خامات أسوأ. مليئة بعوادم سيارات قديمة، وتلوث، وغياب منتزهات، وتراكم زبالة، وزحام، وكثير كثير من البشر تضمن لك – عشوائيا – وجود متحرشين بصفة دائمة في أي تجمع.

ولا تنس “السلع الاستفزازية”. هذه ستقوم بمهمة عقابك إن فكرت في شراء العطور والملابس الجيدة المستوى، والأجهزة الألكترونية المتقدمة، والسيارات الجيدة، وطبعا طبعا الضيوف الدائمة على قائمة السلع المستفزة، الماكياج واللانجيري. كلها سلع مرتبطة بالحد الذي رسم لك لجودة الحياة.

ثم ستعود وتلاحظ شيئا غريبا.

سعر قدراتك

بعض من محاربي “السلع المستفزة” سيشكو من فارق جودة الحياة بين مجتمعه وبين أوروبا. محق في الشكوى. لكن الشكوى ليست تشخيصا دقيقا. الشكوى مجرد سأم من الأعراض.

إن قلت له إن هذه مشكلة إنتاجية، وإن ضعف الإنتاجية ناتج عن نفس السياسة الاقتصادية التي تحدد الأسعار، وتقلص النشاط الاقتصادي التنافسي بطرح سلع مدعومة، سيقول لك أعطني راتبا مثل أوروبا وسأنتج مثل أوروبا.

فضلا عن الترتيب اللامنطقي الذي يضع الأجر قبل الإنتاج، فلا أدري ماذا سينتج المرء والمرأة إن لم يتوافر رأسمال استثماري راغب في الدخول في المشاريع الإنتاجية بداية.

ثم إن معنى الجملة أنه هو أيضا يريد “تلاعبا في الأسعار”. راتبك هو سعر مجهودك الوظيفي.

هذه المرة يريد تلاعبا في سعر المجهود الذي يقدمه. يريد الحصول على سعر أعلى لسلعة مجهوده مما هو متاح في سوق حرة.

سياسات الدعم، التي أدت إلى زيادة في عدد المستهلكين، تعني أيضا وفرة في “سلعة المجهود البشري”، لأن هناك ملايين يتنافسون على تقديمها. وهو ما يعني انخفاض السعر المعروض مقابل المجهود البشري.

متى يتحسن هذا السعر؟

سيتحسن بعاملين.

١- جذب الاستثمارات إلى البلد، وبالتالي زيادة الطلب على سلعة المجهود البشري في مقابل المعروض. وبالتالي ارتفاع سعر سلعة المجهود البشري (وزيادة الإنتاج).

٢- والعامل الثاني المترتب عليه هو زيادة كفاءة الأيدي العاملة، بسبب الخبرة التي اكتسبتها من قدوم مستثمرين ذوي نشاطات إنتاجية متنوعة، وما يقترن بهذا من فرز للكفاءات، بحيث يدرك العامل أن لا فرصة له عبر قريب يعمل في مصلحة التأمينات سيوظفه، الفرصة الوحيدة أن يحوز مهارات تنافسية.

نعم، إذن، الأسعار في أوروبا، مقارنة بالدخل، أفضل. السبب الوحيد هو أن الإنتاج أفضل. هذه نقطة.

النقطة الأخرى هي نوعية الأسعار المقارنة.

هناك نشاط إنساني واحد يتعمد المقارنون تجاهله في المقارنة. نشاط هو الأكثر التصاقا بالثقافة الإنسانية. السكن.

أسعار السكن بالذات لن تأتي في أي مقارنة بين دولة غنية ودولة فقيرة، لأن الفارق بين السعرين مهول، ولأسباب منطقية تماما. لو وضعنا حدا لأسعار السكن فما الذي يمنع جميع سكان بريطانيا من الانتقال إلى لندن، حيث الفرص أفضل؟ لا شيء. لكن مؤشر السعر هو الذي يدرك هذا، فيجعل الشقة المتواضعة في مكان متواضع في لندن تساوي ألف جنيه استرليني (١٢٥٠ دولار).

أما الشقة متوسطة المستوى، في منطقة معقولة، بمساحة  ٦٠ مترا مربعا، فإيجارها الشهري يصل إلى ألفي وخمسمئة دولار.

هذا عن الإيجار، دون ذكر لضريبة البلدية، وفواتير الخدمات العالية.

النشاط الإنساني الآخر الذي لن يذكره المقارنون هو النشاط الأهم، وهو بالمجان. نشاط العيش المشترك. بأي معنى؟

أشياء مثل نظافة الشوارع، المساحات الخضراء، الوقاية من التحرش، الإحساس بالحرية الشخصية، غياب المساومات، احترام وقتك، استنشاق هواء جيد.

كل هذه أشياء بلا سعر. مجانية. لكن لاحظوا الجملة التالية.

سعرها المجاني محصلة لرشاد السياسة الاقتصادية التي احترمت أسعار السلع الأخرى، فجعلت كل بند من الحياة متكفلا بنفسه (بقدر الإمكان). لو حملت المجتمعات الغربية نفسها أعباء سد العجز في أثمان سلع الخبز والسكن والمواصلات،  فسوف تدفع الفارق من هذه الأمور الأساسية “المجانية” التي يتمتع بها الجميع.

سعرها الخرافي في مجتمعك، لدرجة أنك لا تستطيع شراء مساحة محدودة بتلك المواصفات المعيشية حول بيتك إلا بثمن باهظ، ناتج أيضا عن السياسة الاقتصادية. التي سحبت من هذه البنود لكي تمول “ترخيص سعر” بنود أخرى.

هل تريد حياة جيدة إذن، أم أن قلبك مساكن شعبية؟

عليك أن تختار.

إن أردت حياة جيدة المستوى فلا بد أن تدعم سياسة اقتصادية جيدة. تحمل كل فرد مسؤولية قراراته الاقتصادية بتحمله لسعر ما يريد.

لكي تدعم سياسة اقتصادية جيدة لا بد أن تحترم مؤشرات الاقتصاد الجيد. وأولها السعر.

هتستخف بالسعر هيستخف بيك، ويعيشك الحياة اللي انت عايشها.

طيب. ماذا نفعل إذن لكي تنخفض الأسعار؟

اسأل روحك. اسأل جسدك!!

كيف تنخفض الأسعار

لو استخدمنا ثرمومتر حددنا فيه مجال حركة الزئبق، وتلاعبنا فيه، لن نشخص المرض والصحة تشخيصا دقيقا، وبالتالي لن نستطيع اختيار الأسلوب الأمثل للتعامل معه. لن ندرك معدل الارتفاع في درجة الحرارة. قد نشخص الحمى على أنها دور إنفلونزا، قبل أن تفاجئنا بالرعشة والهذيان. قد نؤخر التشخيص بمخفضات حرارة تحجب إنذارنا بما هو أهم.

السعر هو زئبق الثرمومتر في الاقتصاد.

الفارق أن الاقتصاد كونه عملا جماعيا ستكون الآثار السلبية فيه أكبر لو تلاعبنا بالمؤشر، وستكون القدرة على المراوغة وطمس الأعراض أكبر، والتضليل عن المواقع الصالحة إلى الاستثمار فيها أكبر، واحتمال اتخاذ القرار بالامتناع عن الاستثمار فيه أعقل.

النقطة الأولى إذن في تشخيص الاقتصاد، سعيا إلى تحسين جودة المعيشة، هي احترام السعر كما احترام حرية الزئبق في الثرمومتر.

تحرير السعر، كخطوة أولى نحو علاج الاقتصاد، سيكون كالحقيقة المرة، لأنك ستكتشف حجم ما داخل جسدك الاقتصادي من مشاكل. بعد الحقيقة المرة سيأتي الدواء .. مر أيضا، ولا بد من التزام حرفي به، وصبر عليه حتى انتهاء الكورس.

حين تعالج جسدا من حمى، أو من زائدة دودية، لا يقتصر الموضوع على إجراء واحد. هناك منظومة جسدية تعمل معا. إعطاء دواء التهاب دون انتباه إلى وجود فشل كلوي قد ينتج أثرا أسوأ من التهاب الحلق ذاته. هكذا الأمر في الاقتصاد.

تحرير السعر جزء من منظومة تحرير السوق. لا يمكن تحرير السعر مع الاحتفاظ بسياسات طاردة للاستثمار. هذا يعني أنك يا بو زيد ما غزيت. تحرير السعر غرضه تشجيع التنافس على الاستثمار في نقاط الندرة في السوق. هذا لا يمكن أن يتماشى مع اقتصاد منغلق، أو احتكاري، أو قراراته غير متوقعة. لا يمكن أن يتماشى مع عدم احترام الملكية الخاصة، أو عدم احترام القانون.

الطريق إلى اقتصاد أفضل سار فيه أناس قبلنا. لكن السؤال: هل هذا فعلا ما نريد؟ وهل نحن فعلا مستعدون لدفع “سعره”؟

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

التعليقات (1)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك