بين حكايات الأخوين كيبلر وروايات سلافوي جيجك.. من صنع بؤس العالم؟ | مينا منير

بين حكايات الأخوين كيبلر وروايات سلافوي جيجك.. من صنع بؤس العالم؟ | مينا منير

15 May 2019
مينا منير دقائق

مينا منير

باحث بجامعة لوزان - سويسرا

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

منذ أسابيع، عج فيسبوك بمقاطع فيديو لمناظرة جمعت الفيلسوف اليساري سلافوي جيجك بالمفكر الكندي جوردان بيترسون. حملت المناظرة عنوان السعادة بين الرأسمالية والماركسية، وانتشرت بشكل كبير، على الأقل في الأوساط التي أعرفها على اختلاف رقعتها الجغرافية ولغاتها، مصحوبة بكثير من الصيحات العاطفية المحتفية بجيجك.

شغلني اهتمام جيجك بأفكار لها تأثير مباشر على قضايا سياسية كبرى؛ يرى أن أزمة المهاجرين، إحدى كبرى الأزمات في العالم اليوم، سببها الرأسمالية، التي هي السبب أيضًا في الفقر وتقييد الحريات في العالم. إلى هنا يخلص جيجك إلى أن الرأسمالية سبب البؤس في العالم.

تبرير وتعميم البؤس

هنا استرعى انتباهي فيديو آخر له مشاهدات كبيرة في إصداراته العديدة عبر يوتيوب. يقف سلافوي جيجك على جسر يفصل بين أوروبا والبلقان، ليقول: “هنا (في إشارة إلى جانب البلقان) تُضرب النساء وتُغتصبن وهن يحببن ذلك، بينما هناك (نحو الجانب الأوروبي) تَضرب النساء وتُغتصبن، لكنهن لا يحببن ذلك”.

وبغض النظر عن التعليق المهين للمرأة الشرق أوروبية، وعدم واقعية حديثه عن الغرب، فإن الأساس في خطابه الذي يجد رواجًا هو تعويض فشل اليسار باختلاق فشل مواز ومكافئ في المجتمع الغربي.

قصتي مع الأخوين كيبلر

لن أدخل في نقاش فلسفي لأفكارٍ نظرية. إنما سأطرح تجربة عاصرت أبطالها الذين لا يمكن لأي نظريات أن تستبدلها. كحال النهر الذي يقسم سلوفينيا في فيديو جيجك، كان هناك سور يقسم العالم أيضًا، هو سور برلين. على جانبيه وُضعت التجارب الأخلاقية والنظرية قيد التطبيق، وكانت النتيجة تستحق أن تُذكر، كما عاشها الأخوان كيبلر.

في إحدى ليالي شتاء نوفمبر/ تشرين الثاني، كنت في طريقي إلى الولايات المتحدة لحضور مؤتمر، لكنني توقفت في مدينة هامبورج، حيث التقيت بأستاذي هيرمان كيبلر.

كان الرجل في السادسة والثمانين من عمره، ألمانيا قوي البنية،  دقيقا كالساعة وحادا كالسيف. دعاني كيبلر لقضاء عطلة الأحد معه قبل إكمال رحلتي، وفي تلك الليلة كان حديثه علي كوقع السحر. للمرة الأولى لم يتطرق حديثنا من قريب أو بعيد للأكاديميا، لكننا تحدثنا عن تجربة حياة مر بها شخصيًا.

كان الحزب الاشتراكي حينها بقيادة مارتن شولتز في منافسة شديدة للحصول على كرسي المستشارية وأغلبية البرلمان. ظهر شولتز على التلفاز، وكنت أنا وهيرمان نشاهده متحدثًا عن إعادة تأميم شركات كبرى كهيئة النقل الألمانية Deutsche Bahn وغيرها.

ابتسمت وأخبرته كيف أن الحال مماثل في المملكة المتحدة. لكنه قال: “وسيكون الوضع أسوأ مع الوقت. لقد فقد الألمان ذاكرتهم ووُلِدوا في رحاب ألمانيا الاتحادية. لم يجربوا أفكار مارتن شولتز، وللأسف يبدو أن البشر لا يتعلمون إلا بالطريقة الأصعب، وليس عبر الاتعاظ من التاريخ”.

فهمت ما يقصد. قلت: “لا أظن أن مارتن شولتز يمكن أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء لهذه الدرجة؛ فألمانيا الشرقية انتهت إلى غير رجعة”.

رده كان مخالفًا: “وهل ظننت أن يومًا من الأيام سيأتي بماركسي ليقف وسط مجلس العموم البريطاني ليحاضر بريطانيا في الحريات والأخلاق؟ عزيزي مينا، ليست المشكلة في سياساتٍ هنا أو هناك. تأميم شركةٍ ما أو رفع شريحةٍ ضريبية. المشكلة في الذريعة (Vorwand) الكامنة في بنيان الخيارات التي تُقدم أمامك”.

هل يؤمن هؤلاء بمبادئ الحرية؟ سيادة القانون؟ استقلال البلاد؟ هل هل هل؟ أين كانوا حينما كان يتم قنص من يفكر فقط في التمتع بأبسط حقوق الإنسان، وهي حرية التنقل من شرق ألمانيا لغربها؛ بتهمة الإخلال بالنظام الاشتراكي لمجرد اتخاذك قرارًا أن تتاجر مع الجانب الذي يصنع وينتج بحق؟

من شرفته المطلة على بحيرة ألستر، حكى هيرمان كيبلر كيف عاش هو وأخوه، هانز، التجربة. بدأت التجربة على تبة سانت باولي في هامبورج، حيث وجد هيرمان وهانز نفسيهما أعلى تلك التبة المشئومة. وكانت المهمة، مع مئة آخرين، تنفيذ مهام الدفاع الجوي ضد طائرات الجيش البريطاني الكاسحة. في تلك الليلة، مات من الـ 120 جنديًا تسعون في أقل من ثلث ساعة من الهجوم الجوي.

لم يجد هانز وهيرمان بعضهما إلا بعد سنتين؛ فكل واحد منهما كان سجينًا لدى معسكر مختلف للحلفاء. في 1947 التقيا مرةً أخرى عند بيتهما على مسافة قريبة من نقطة Charlie Check Point الشهيرة، والتي كانت معبرًا بين منطقة السلطة السوفييتية ومنطقة الحلفاء.

كان المنزل واحدًا من المنازل القليلة المحظوظة التي نجت من التدمير، لكن الحظ لم يكن مواتيًا لعائلة كيبلر على طول الخط؛ فسلامة المنزل جعلته مؤهلًا ليتحول إلى مقر للقيادة الأمريكية.

منع الضباط الأمريكيون الأخوين كيبلر من الوصول إلى سرداب المنزل المليء بالأشياء القيّمة التي خزنها والدهما كارل (والذي توفى في السنة الأخيرة من الحرب)، فقرر الشابان الوصول للسرداب من مدخلٍ يبدو أن الأمريكيين لم يكتشفوه.

وبعد نجاحهما في استعادة أمتعتهما (ولحسن حظي أني تناولت عشاء تلك الليلة مستخدمًا أدوات فضية منها!) كان السؤال الكبير: ماذا الآن؟ هنا انقسم الأخوان كيبلر.

رأى هيرمان أن المستقبل لن يكون بين أيدي السوفييت الذين أبدوا عنفًا تجاه الألمان.

أما رد هانز فكان أيديولوجيًا؛ فالاشتراكية التي وُعِدت بها ألمانيا كانت في رأيه الضمان لعدالة اجتماعية وحماية من بطش رأس المال.

باختصار، إن بقيت في غرب ألمانيا يا هيرمان، سيكون مصيرك كمصير بيتنا الذي اغتصبه الأمريكان

 رأى هانز باختصار أن الاشتراكية هي الضامن لحرية الفرد من عبودية رأس المال، والضامن أيضًا لسيادة واستقلال ألمانيا التي بدت في رأيه فاقدةً لهويتها ببرامج انتزاع النازية التي بدأت بالفعل في الجانب الغربي.

أما هيرمان الذي أعيته الشعارات بما يكفي، فقد كان رده بسيطًا: تذكر كلماتك يا هانز حينما تجد نفسك في قبضة أولئك الذين هربت منهم وبذلت ما في وسعك لكي تسجن على الجانب الآخر.

تعانق الأخوان، قال لي هيرمان، ومضى كلٌ لحال سبيله. أما هيرمان فقد بلغ في مسيرته مدينة ماربورج. هناك تعرف على أستاذه، رودلف بولتمان.

في ماربورج، استطاع هيرمان أن يختار ما يود دراسته: تاريخ الأديان، فأمضى سنين في تعلم اللغات القديمة والأدب اليوناني. وبمساعدة بولتمان تمتع هيرمان بحياة هادئة وبخطواتٍ سديدة تجاه التفوق الدراسي.

في هذه الفترة، حضر هيرمان عدة ورش نظمها مندوبون عن الأحزاب الجديدة التي تكونت في ألمانيا الغربية، تعلم منها عن البرامج السياسية المختلفة فاختار الحزب الديمقراطي المسيحي، بعدما رأى عمليًا كيف أن الانفتاح على حرية التجارة وحرية التعبير هي الضامن الحقيقي لألمانيا قوية ومستقلة في المستقبل، وهي كلمات كونراد أديناور رئيس الحزب في لقائه بالطلبة حينها.

عاش هيرمان الحياة التي يفتخر بها؛ فقد بدأ مع أبناء جيله من المرحلة التي كان الألمان لا يأكلون فيها إلا البطاطا المسلوقة، ولا يستطيعون فيها اقتناء زوج كامل من القفازات، إلى المرحلة التي فيها كانت ألمانيا الغربية تغدق المبالغ على جارتها البائسة، التي عاش فيها هانز.

كل ذلك لم يُبن بالضرائب التي تستعدي الشرائح العليا، وإنما بروح العمل والمنافسة والحريةـ ليس فقط في التعبير عن التوجه السياسي، لكن الحرية كممارسة اقتصادية حقيقية خلقت قلاعًا صناعية أنارت الطريق للعالم كله في مجالاتها.

هانز كيبلر في بستان الاشتراكية

أما الرفيق هانز، فكان في نفس المرحلة شديد الولاء للمشروع الاشتراكي، حتى التقطته أعين الأجهزة الأمنية، فانضم سريعًا للحزب الاشتراكي، ومنه دخل إلى دائرة الثقة الأمنية، فوصل إلى منصب داخل قسم “القسم” الذي لم يحمل اسمًا محددًا؛ كونه يعيش في الظل. كان معنيًا بالتوجيه الاستخباراتي والأمني، وحماية ألمانيا الشرقية من الدعايا الغربية، فصار اسمه “القسم –Abteilung”.

رأى هانز خيرة من آمنوا بالاشتراكية كسلة قيم تُبنى عليها التطبيقات الاقتصادية. هنا بدأ يرى أن الاشتراكية بالفعل حالة تبث نوعًا من السمو الأخلاقي الذي يبرر للدولة أن تفرض ضرائب عنيفة لا تسمح للفرد أن يمتلك ويتحرك ليحقق أحلامه، مقارنةً بجيوش الموظفين الذين يطلبون ما لا يقدمون مقابلًا مكافئًا له.

رأى أيضًا أنه في سبيل تحقيق الاشتراكية، كان من الواجب حمايتها بشيطنة البدائل، وسحق من يقدمونها.

لكن الأهم أنه رأى الحرية يتم تقليمها لكي تتناسب مع المساحة “العادلة” المعطاة، أو بمعنى أدق مفروضة على الفرد.

رأى أن المنافسة خطر، فبات المنتج الواحد للشركة الواحدة هو الأنسب.

رأى أن الجمال رفاهية، فاستُبدِلت مباني لايبزيج وقصور بروسيا بعمارات تشبه سلافوي جيجك: تدعي الفضيلة من خلال المظهر رث الهيئة.

في العام 1974، تلقى هانز كيبلر صدمتين: الأولى حينما التقى بشخص كان أحد أعين الشيوعية وعملائها داخل جهاز سيادي في بريطانيا (تحدثنا عن حالة ماكلين في مقال سابق).

سأله هانز: “فيلبي، ألم تر في عملك خيانةً لبلدك؟”

ورد الجاسوس الهارب إلى أحضان الاشتراكية الألمانية: “أيهما يأتي أولًا: الاشتراكية التي تحقق السعادة أم دولة الـ Old Boys؟ (تعبير بريطاني عن رجال الأعمال الذين تربطهم شراكات قديمة)”.

تلت تلك الحادثة واحدة أخرى، فقد وقعت ألمانيا الشرقية عقدًا للتعاون مع السويد كان فريدًا بين بلد غربي وآخر شرقي، لتصنيع السفن. لكن هاتفًا أتاه من موسكو يبلغه بضرورة أن يقف الـAbteilung في وجه ذلك التعاون بعد أن رفضت السويد صفقة شبيهة مع دول أخرى في الحلف. فلما نوقش الأمر قيل له أن العائلة الاشتراكية لها أولوية تتقدم المصلحة الضيقة للدول.

باختصار، رأى هانز كل مفردات الإبداع، الحرية، الاستقلال الوطني وغيرها من مُثل تهدم بعدما تم هدم حق الإنسان في ممارسة حريته في الإبداع. باتت ألمانيا الشرقية رثة كصورة جيجك وغيرهم ممن يرون في الجمال رفاهية.

بعد 5 أعوامٍ من طلبه توفير سيارة له كي يشتريها، حصل هانز أخيرًا عليها، بعد حصوله على معاشه الأول خارج الخدمة. في الأعوام الخمسة التي احتاجها ليستحق الحصول على سيارة، كانت ديون بستان الاشتراكية لصالح ألمانيا الغربية قد فاقت الثلاثمائة مليون دولار، وباتت حياة الفرد الألماني في ألمانيا الشرقية مقيدة بعد أن تحولت دول اشتراكية كاملة إلى قنابل لاجئين موقوتة لا يمنعها من الهروب إلى الغرب إلا أسوار بنتها أحزابهم الاشتراكية.

بعد سقوط جدار برلين كان لقاء هيرمان بهانز عاطفيًا، لكن الممتع فيه هو الخليط الذي يصعب تفسيره: إقرار هانز بفشل التجربة الاشتراكية دون “مؤامرة غربية” وإيمانه في نفس الوقت بقدرتها على أن تكون أفضل من القيم الغربية. (العيب في التطبيق).

هل كان ذلك سبب شعور هيرمان باليأس وثقته في حتمية عودة كابوس الاشتراكية؟ يبدو لي الأمر كذلك، فإن كانت كل المآسي التي عاشتها دول الاشتراكية على مر العصور غير كافية لإثبات فشل تلك السياسة، فلا يمكن التنبؤ بسلوك الناس بعد ذلك.


ملف بستان الاشتراكية في دقائق


جيجك وأمثاله ليسوا أضحوكة

مكمن فضولي في مناظرة الفيلسوف اليساري سلافوي جيجك بالمفكر الكندي جوردان بيترسون التي بدأنا بها المقال أن جيجك لم يحاول أن يقدم طرحًا واحدًا يناسب “السعادة”؛ العنوان الأصلي للمناظرة، بل ذهب لتركيز محاضرته على البؤس الكوني الذي يتهم الرأسمالية بالتسبب فيه.

السبب في ذلك أنه كعادة اليساريين، كان سلافوي جيجك قادرًا على التعبير عن غضبه، وكنت أولويته هي تلك الحالة التي يخلقها الغضب.

قد يهيأ لك أن سلافوي جيجك ليس أكثر من شخص متقوقع في أفكاره الأيديولوجية دون تأثير حقيقي، إلا أن الأمر مختلف كليًا. إنه تلك الحالة التي يتطلع لها الشاب اليساري المحبط بشغف، والتي بدأت في الانتشار عالميًا لنراها في صورة بيرني ساندرز في أمريكا وجيريمي كوربين زعيم حزب العمال البريطاني، والذي يتعمد ارتداء بذلات مهلهلة وأربطة عنق غير مناسبة. الفارق أن جيجك لم يدع شيئًا نمطيًا إلا فعله، فصار أيقونةً لتلك الاشتراكية الجذابة في أوساط الشباب.

التجربة في دول من حولنا أثبتت هواجس هيرمان. ما نراه اليوم من التفاف الشباب حول كوربين وساندرز ليس أكثر من تجسيد لحقيقة أننا ما زلنا في أشد الحاجة للجيل الذي واجه مخاطر الاشتراكية جديًا. هؤلاء الذين رأوا التمكين لأفكار تقييد الحريات الاقتصادية والفكرية وفرض تصور أخلاقي جمعي وهو يدمر شعوبًا كاملة، عليه أن يعيش ليحكي تلك الرواية وعلينا أن نستمع، قبل أن يأتي اليوم الذي تتحكم فيه شخصيات كـ سلافوي جيجك في مصائرنا.


فنزويلا.. النموذح الأمثل لسياسات إفقار الشعوب

لماذا الرأسمالية ”عندها دين“ و الشيوعية ”ملحدة“


رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (1)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك