عصر هوليوود الذهبي لم يصدأ بعد (3).. كيف انتصرت لنا على السلطة الأخلاقية | أمجد جمال

عصر هوليوود الذهبي لم يصدأ بعد (3).. كيف انتصرت لنا على السلطة الأخلاقية | أمجد جمال

15 Jul 2019

أمجد جمال

ناقد فني

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

جزء كبير من جاذبية الفنون يكمن في تحديها لتقاليد المجتمعات ومشاكسة التابوهات.

والانطباع السائد عن سينما هوليوود في عصرها الذهبي أنها اتسمت بطابع محافظ نتيجة لما عُرف بالكود الإنتاجي، وهو نظام رقابي يلزم الكيانات الإنتاجية الكبرى بعدة معايير، تشمل محاذير حول تناول الجنس والسياسة والدين والعنف والمخدرات، وقواعد عامة على رأسها نبذ اللغة السوقية وعدم تمجيد الشر. تلك الإدارة الرقابية كانت مدعومة بأصوات التيار المحافظ والمؤسسات الكنسية وبعض الصحفيين والنقاد.

الكود الرقابي لم يكن حصرًا على هوليوود القديمة. في كل عصر ظهرت تيارات عالية الصوت تمارس نفوذها الإعلامي والاجتماعي على العملية الإبداعية، حتى في يومنا هذا؛ فالصوابية السياسية التي نعيشها الآن ليست إلا الوجه الآخر للنزعة المسيحية الأخلاقية التي تعرضت لها هوليوود في بعض فترات القرن العشرين.

نستنتج أنه سواء بالكود أو بغيره، ستظل هوليوود سينما محكومة بمعايير اجتماعية. كانت كذلك منذ 80 عامًا ولا تزال حتى الآن. ذلك يرجع مرة أخرى للنظام الرأسمالي المسيطر، والذي لم يعرف عنه تصادمه مع قيم المجتمعات أو التيارات صاحبة الصوت العالي، لو كان في ذلك ضرر في تسويق السلعة.

لقطة من فيلم Baby Face 1933


ما قبل الكود الرقابي

ما سبق لا يعني أن هوليوود القديمة كانت متزمتة أو منصاعة كليًا للقواعد الأخلاقية “نظيفة بالمعيار المصري المضحك”. على العكس، كانت هوليوود في تلك الحقبة مصنعًا لمعايير الجمال والأنوثة، أو ما يعرف بالرموز الجنسية (Sex Symbols)، فكيف يمكن لسينما محافظة أن تعلم العالم معايير الأنوثة وتجددها بشكل سنوي إذا لم تملك هامشًا عادلًا من الحرية؟

ثانيًا: هناك من يتناسى الفترة بين 1929 حتى 1934، والتي تُعرف بعصر ما قبل الكود أو سينما الكساد الاقتصادي الكبير، وهي واحدة من أكثر الفترات تحررًا في تاريخ السينما العالمية الناطقة، بداية من عناوين الأفلام الموحية: “الخطاة الضاحكون”، “امرأة ساقطة”، “الشيطان يقود”، “بسعادة نذهب للجحيم”، “بلا خجل”. وصولًا لمحتواها الذي كان أكثر تساهلًا مع الإغراء وعرض مشاهد الحب والفراش، والتسامح مع الملابس الكاشفة والعلاقات الشائكة، والجنس خارج مؤسسة الزواج، وحتى تمجيد العنف والأفعال غير القانونية.

بعض أفلام تلك الفترة تقدم أفكارًا أكثر تحررًا حتى بمقاييس عصرنا. فيلم “الوجه الطفولي” 1933 للمخرج ألفريد جرين، عن فتاة تستخدم أسلحتها الأنثوية للترقي مهنيًا واجتماعيًا مستندة على أفكار عدمية لنيتشه تبرر الخطيئة، لو عُرض هذا الفيلم اليوم لخرجت المنظمات النسوية في مظاهرات مليونية مطالبة بوقفه.


في فيلم “المتسلقات” 1933، كما هو موضح في الفيديو السابق، في أحد التتابعات الاستعراضية، تتساقط الأمطار فوق عشرات الفتيات الحسناوات، فيتجهن في صفوف محكمة لتغيير ملابسهن وراء ستار شفاف، في أكثر المشاهد جدلية في تاريخ هوليوود القديمة.

كذلك فيلم “علامة الصليب” 1932 للمخرج سيسيل بي ديميل، احتوى على مشهد تُجبَر فيه الفتاة المسيحية على ممارسة رقصة إيروتيكية مع فتاة أخرى وتخضع للمسات موحية بعلاقة سحاقية من أجل إثارة الحاشية الرومانية، إضافة لمشاهد الإغواء التي تقوم بها الملكة (كلوديت كولبيرت) لأحد فرسان الرومان، ومشهد تظهر فيه وهي تستحم في مسبح من الحليب عارية.

علامة الصليب – 1932

بعد بضع سنوات من تطبيق الكود الرقابي، أجبر صناع تلك الأفلام وغيرها على تخفيف هذه المشاهد وتتابعات أخرى بالقطع بأثر رجعي، لكنهم استعادوا ما حذفوه لاحقا في النسخ المرممة، وهي الآن متاحة للمشاهدة بصورة كاملة.

وبحسب مجلة “فارايتي”، قدمت هوليوود 440 فيلمًا في الفترة بين عامي 1932-1933، 352 فيلمًا منهم – على الأقل – بمحتوى ذي أبعاد جنسية، وصل الجنس الصريح إلى 48 منها.

وقيل إن شركة “وارنر بروس” كانت بدأت استراتيجية جديدة، وناقشتها مع كُتاب السيناريوهات في تلك الفترة، بزيادة عدد أفلام “الانحراف”، وتطعيم بقية الأفلام ببعض التوابل الجنسية، بحيث تقدم متوسط فيلمين “ساخنين”من أصل كل خمسة أفلام تنتجها الشركة.


أثناء تطبيق الكود

نتحدث في السلسلة عن عصر ذهبي امتد على مدار ستة عقود، لم تمثل فيه فترة تطبيق الكود بشكل صارم إلا 26 عامًا فقط، بين 1934 و1960، رغم أن الكود امتد رسميًا لما بعد تلك المدة، لكن صناع الأفلام كانوا قد هزموه بالفعل بضربات متواصلة لإعلاء سقف الإبداع تناسبًا مع النضج الذي وصله المجتمع، وتأثير السينما الأوروبية المتحررة.

وبقدر ما أضرت الرقابة ببعض الأفلام، فمن الصعب إنكار أن تلك القواعد ساهمت في تطوير أدوات الحكي، وإيجاد الوسائل لإيصال المعاني والرسائل بطرق غير متوقعة.

التحايل على قواعد الرقابة لم تكن مجرد معركة للتحرر، بل وأيضًا معركة لإحكام القبضة الإبداعية على وسيط فني في سنوات تشكله الأولى؛ لذا فوسائل الإيحاء والتلميح والترميز انتصرت على الرقيب من جهة، وكذلك انتصرت للصنعة الفنية ضد بلادة التصريح وفجاجة المباشرة.

المناوشات والمفاوضات بين صناع الأفلام وإدارة تطبيق الكود بدأت مبكرًا. فمثلًا في حالة فيلم “ذهب مع الريح” 1939 وصل الطرفان لحل وسط، بأن تُحذف المشاهد المتعلقة بمنظمة “كلو كلوكس كلان” العنصرية وبعض التتابعات الحربية العنيفة، مقابل السماح بلغة حوار متحررة لدرجة، تتمثل في جملة “كلارك جابل” الشهيرة: “صراحة عزيزتي، لم أعد أعطي بالًا.”Frankly, My dear, I don’t give a damn. وقيل أن صناع الفيلم صوروا نسخًا عديدة لتلك اللقطة بكلمات مختلفة عن (damn)، تحسبًا لأي تعنت رقابي، لكن الجملة مرت.

الرقابة رفضت تمرير فيلم “خارج عن القانون” 1941 لهوارد هيوز؛ لأن عدسات المخرج تبالغ في إبراز مفاتن جسد النجمة جين راسيل، وهو ما لم ينكره المخرج وقد صمم بعض ملابس البطلة بنفسه! هيوز دخل في حرب مع الإدارة لتمرير الفيلم كاملًا، وأُجبِر في النهاية على حذف بعض الثواني منه، لكنه نجح لاحقًا في عرض النسخة الكاملة من الفيلم عام 1946.

جين راسيل من فيلم Outlaw 1941

فيلم “الرجل ذو الأيد الذهبية” 1955 للمخرج أوتو بريمنجر، والذي يقدم قصة صادمة عن مدمن للهروين بطلها النجم المحبوب “فرانك سيناترا”، الرقابة رفضته بسبب محتوى المخدرات، لكن بريمنجر تحدى القرار وعرض الفيلم في السينمات بالفعل، ونجح على المستوى النقدي، وحصد عددًا من الترشيحات للأوسكار، ما جعل الرقابة تعيد النظر لقواعدها فيما يخص محتوى المخدرات.

بيلي وايلدر كان بين فرسان المعركة ضد الكود بالقول والفعل، في أحد حواراته يقول: “ما يسميه النقاد “فاحش” في أفلامنا، يسمونه “شهوانية” في الأفلام الأجنبية.” ويقصد ازدواجية المعايير.

وايلدر أقام عرضًا خاصًا استباقيًا للنقاد لفيلمه “البعض يفضلونها ساخنة” 1959 بنسخة كاملة تتحدى معايير الرقابة، وكانت مغامرة، لكن الفيلم نال إشادة حارة في الصحافة، ما وضع الرقابة في موضع حرج جعلهم يقبلون بالعرض العام للفيلم دون حذف.

Some Like It Hot – 1959

ويعتبر فيلم “سايكو” 1960 لألفريد هيتشكوك، هو النهاية غير الرسمية للكود، مشهد القتل الشهير أثناء الاستحمام يضرب معيارين: أنثى عارية، وعرض سادي تفصيلي لجريمة قتل.

بعد هذا الفيلم ظهرت أفلام أخرى تضرب المعايير الأخلاقية للكود بتقديم أنواع من العلاقات الجنسية الصادمة والممنوعة، “لوليتا” 1962 لستانلي كوبريك، “قبلني أيها الغبي” 1964 لبيلي وايلدر، و”من يخاف فيرجينيا وولف؟” 1966 لمايك نيكولز .. وانتهى الكود بشكل رسمي عام 1968.

مبالغات التمثيل

حتى يومنا لو سألت أحدهم عن قائمة بممثليه المفضلين، سيتصدر مارلون براندو معظم القوائم، وهو أحد رموز عصر هوليود الذهبي. صحيح أن الغالبية لم تشاهد لبراندو أكثر من “الأب الروحي” 1971 و”القيامة الآن” 1979، وهما خارج الحقبة التي نناقشها، لكن فعليًا بدأ المجد الحقيقي لبراندو كممثل، وتجلى وتعزز بأدواره في تلك الأفلام: “عربة اسمها الرغبة” 1951، “على الواجهة البحرية” 1955، “الفتى الجامح” 1953 “فيفا زاباتا” 1952 و”سايونارا” 1957.

الحقبة الكلاسيكية لهوليوود ارتكزت على أعمدة تمثيلية أخرى، مثل “بيتي دافيز”، “كاثرين هيبورن”، “سبينسر تريسي”، “جايمس كاجني” “بول نيومان”، “هنري فوندا”، “فريد آستير”، “جون كرافورد”، “فيفيان لي”، “باربرا ستانويك”، “جايمس دين” و”كلارك جابل”.

ومن الغريب أن سينما قامت على أكتاف ممثلين كهؤلاء يُنظر لها الآن عن خطأ كسينما المبالغات التمثيلية والأداء المسرحي! وإن كانت التهمة ليست باطلة كلية، بالفعل تأثرت سينما هوليوود الناطقة بالأب الشرعي لها وهو السينما الصامتة، التي تقوم أساسًا على الأداء الحركي والمبالغة في الانفعالات، كما تأثرت بقدوم الممثلين الموهوبين من مسارح برودواي، لكن المدهش أن الموهبتين الأبرز في تلك الحقبة وهما براندو ودافيز، قدما من أصول مسرحية، وعرفا التمثيل الاحترافي من خلال عروض برودواي، ذلك لم يمنعهما من التميز على الشاشة الكبيرة.

نظام النجم

وجود المواهب الاستثنائية لم يكن عامل القوة الوحيد في عالم التمثيل الهوليوودي، الكارت الرابح الحقيقي هو “نظام النجم”.

حين امتلكت هوليوود أباطرة الكاريزما والجمال، واستخدمتهم كأدوات بشرية في تسويق الأفلام، ليس بالأداء وحده بل بالتركيبة الشاملة، النجمة مارلين دايتريك كانت تقول عن نفسها: “أنا لست ممثلة، أنا شخصية”.

هكذا كان بعض النجوم في ذلك العصر، الجمهور يقصد أفلامهم ليراهم، لا كي يرى الدور الذي يجسدونه، “همفري بوجارت”، “كاري جرانت”، “جايمس ستيوارت”، “تشارلي تشابلن”، “أودري هيبورن”، “إليزابيث تيلور”، “مارلين مونرو”، “ماي ويست”، “جين هرلو”، “روبرت ميتشام”، “باستر كيتون”، “الإخوة ماركس”، “ريتا هايورث”، و”آفا جاردنر”.

وعلى رأس كل هؤلاء بالطبع كان الدوق “جون واين”، الذي لم يمتلك شخصية مميزة استهوت الجمهور حول العالم وفرضها في كل أعماله وحسب، بل شخصية تجسد القيم الأمريكية في ذلك العصر حين تتمثل في إنسان.

يتحدث النجم “جيمس كان” عن تلك الفترة في تاريخ مهنته فيقول: “كانوا يذهبون لرؤية ((فيلم لجون واين))، الآن لا يذهبون لرؤية أحد”، ويقصد الجمهور.


رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك