أوشكت قطر أن تنجح في خطة طموحة لاحت لها بعد غزو الكويت، لكن الدراما راوغت الخيال. لولا ذلك لكانت القبلة الآن حيث أرادت الدوحة. اقرأ القصة كما لم تقرأها من قبل.
.
أصاب غزو العراق الكويت اليسارَ القومي العربي بلوثة تتعدى خلل الميزان السياسي، إلى خلل الميزان الإنساني، فلم يكتف كثير منه بتأييد صدام، بل تحولوا إلى إظهار الشماتة في الكويتيين. وهذا أكثر المؤشرات دلالة على عمق الأزمة وتجذرها.
اختلال اعتبره كثيرون طعنة في الفكرة السياسية للعروبيين، أقوى من نكسة ١٩٦٧، وحرب لبنان الأهلية، على ما في الاثنين من مآس. لقد كان العراق آخر أساطيرهم.
أما الإخوان فرأوا فيه – سريعا – فرصة.
في بداية الغزو ارتبك الإخوان كغيرهم، وتناقضوا ظاهريًا. مرشد مصر أصدر بيانًا يطالب فيه بعودة الشرعية، وحسن الترابي ونجم الدين أربكان والغنوشي زاروا صدام وأصدروا بيانًا يدعمه. فأين كان موقف الإخوان الحقيقي. هذا أم ذاك؟
في أروقة السياسة كان لهم “خيارات” فعلية سعوا إليها. الشعار المعلن هو “الوساطة”. مشروع الوساطة الذي قدموه موثق على لسان مندوب لهم سعى فيه، هو الملياردير الإخوانجي المصري الأصل يوسف ندا، الذي التقى به المذيع أحمد منصور في قناة الجزيرة وسأله عن تفاصيله، وهذا نص ما جاء في حواره حول هذه النقطة:
وقد تحدث الأمير نايف بن عبد العزيز، في حوار مع جريدة السياسة الكويتية، عن تفاصيل عاصرها بنفسه، في لقائه مع قيادات الإخوان المسلمين راشد الغنوشي وحسن الترابي والشيخ الزنداني والسياسي التركي نجم الدين أربكان.
مواقف الإخوان لم تكن إذًا متناقضة كما ظن الجمهور من أمثالنا ونحن نتابع الأحداث وقتها، بل كانت استراتيجية متكاملة.
في العلن اعتمد الإخوان على موقف سياسي أسميه “الحياد المعطل”. وأعني بهذا إلقاء اللوم على جميع الأطراف، على الجاني والمجني عليه.
ثم اتخاذ هذا أساسًا لمعارضة أي إجراء يهدف إلى تغيير المعادلة. لا للحرب بين المسلمين. لا للجيوش الأجنبية. بحيث تكون حصيلة المواقف -لو استجابت لهم السياسة- أن يبقى الوضع على ما هو عليه. وتتوه القضية في متاهات السياسة.
لاحظوا في المشروع الإسلامي الذي تحدث عنه يوسف ندا أنه يصل في الأخير، بعد رفض الإجراءات السابق ذكرها، إلى تثبيت “مكاسب” للغزو، بإزاحة الحكومة الكويتية ثم إجراء انتخابات تحت إشراف جيوش “إسلامية” صديقة، تستبعد منها جيوش المنطقة، وتنضم إليها ما يوافق عليه صدام حسين.
حتى باكستان مستبعدة من من هذا، لتؤول الجيوش في المحصلة النهائية إلى دول إسلامية في جنوب شرق آسيا. وهي المنطقة ذاتها التي لا تزال جهودهم متواصلة فيها حتى الآن، جماعة بعد جماعة، لتكون مركزًا للعسكرة الإسلامية، وهو أمر ترصده المخابرات الغربية، ونشرت عنه صحيفة الفاينانشال تايمز تقريرًا في يونيو ٢٠١٧ أنقل هنا ترجمة بي بي سي له:
لكن عاصفة الصحراء حدثت، ونقلتها شبكة إعلامية جديدة اسمها CNN. كانت تلك أول مرة ينقل الإعلام حربًا نقلًا مباشرًا. حين ترى الحدث رأي العين، تتخيل نفسك وصلت إلى عين اليقين، وهذا ما حدث في الرأي العام العالمي في أول حرب منقولة على الهواء مباشرة. حقيقة ستلتفت إليها دول أخرى. يعنينا منها في المنطقة العربية قطر. وهي بطلة المشهد الثاني.
عقد قادة الخليج قبل تحرير الكويت قمة لمناقشة الغزو العراقي. ما حدث هناك يرويه سعود القحطاني المستشار في الديوان الملكي السعودي، ونقلته جريدة الحياة:
كان الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، وقت انعقاد المؤتمر، وزيرًا للدفاع في قطر، قبل أن يزيح والده عن الحكم عام ١٩٩٥. وقد عاصر توترات بين قطر وجيرانها لم تكن قطر لتحسمها بالوزن السياسي ولا العسكري، لكنها رأت في قناة سي إن إن وتأثيرها فكرة مناسبة للغاية. أثبتت أن الإعلام في حد ذاته قوة سياسية كبرى، لا سيما أن المنطقة العربية لم تبادر إلى هذه القوة بصورتها الحديثة بعد، ولا تزال تعتمد على الإعلام التقليدي.
بالنسبة لدولة صغيرة كقطر لن يكون عندها ما تخسره لو دشنت قناة إعلامية تضمن بها توصيل وجهة نظرها عن الأحداث في الدول الكبرى. وتضمن بها التأثير في الجمهور العربي الذي لا يخفى على أحد أنه لا يصدق الإعلام الرسمي في بلاده. وتسد بها فراغًا سقط بتراجع “الجمهوريات” التي احتكرت الإعلام والتأثير الإعلامي من قبل.
لكن الأهم أنها تستطيع أيضًا أن تسد فراغًا “أيديولوجيًا” حدث بتراجع هذه الجمهوريات.
لاحظوا أن ذلك العام – ١٩٩٠ – لم يكن عام التيه للقوميين العرب فقط، بل سقطت الشيوعية أيضًا قبله بعام واحد، بانهيار الاتحاد السوفييتي، مع ما واكبه من انتصار لـ “المجاهدين الأفعان” الرافعين لراية الجهاد الإسلامي في حربهم ضد الاتحاد السوفييتي.
فقدت طبقة المتعلمين في العالم العربي كل أسلحتها الأيديولوجية دفعة واحدة، ولم يكن صاعدًا سوى أيديولوجية سياسية واحدة لم تجرب حظها في السلطة المنفردة، وإن حظيت على الدوام بالسلطة الاجتماعية الأكبر، نتيجة انتشارها في صفوف الريفيين ومن وفد منهم حديثًا إلى الحضر، طالبًا أو مقيما. المقصود طبعًا أيديولوجية الإسلام السياسي.
والعلاقة بين الإسلام السياسي وقطر علاقة خاصة جدًا، لا مثيل لها في أي دولة أخرى، وبالتأكيد لا مثيل لها في دولة تمتلك ثروة بحجم ثروة قطر، وطموحًا بحجم طموح قطر، ولديها طائفتان بالذات يعيشان في الشتات، الإخوان المسلمون “القطريون”، والفلسطينيون الذين أفقدتهم مواقفهم في غزو الكويت قدرًا لا بأس به من الثروة والدعم من طرفي الصراع.
فلنذهب إلى قطر.
في صحيفة العرب القطرية، التي يرأسها عبد الله العذبة، الإعلامي القطري الأكثر ارتباطًا بالسلطة هناك، يتساءل عبد العزيز آل محمود: “من هم الإخوان المسلمون في قطر؟”.
ويقر في المقال المنشور عام ٢٠١٢ أن التساؤل يشغل العالم، وأن صحفيين أجانب أجروا تحقيقات صحفية حول أشخاص العاملين في الجزيرة. هذا التساؤل لا يشغلنا نحن فقط. ويمضي المقال في شرح خطوات التوافد الإخواني على قطر منذ الستينيات. وكيف أثر هذا الوجود على المجتمع القطري، وإلى أي حد.
وهذه إجابة الكاتب القطري في الصحيفة القطرية. يبدأها من الأساليب الدعوية المتبعة، ليصل إلى التأثير الاجتماعي فالسياسي.
انتشر الفكر الإخواني حسب الصحيفة الرسمية إلى “غالبية أهل قطر” بفضل النخبة الإخوانية، وبسبب دور وزارة الأوقاف القطرية.
من الملفت للنظر أن وزارة الأوقاف القطرية هي صاحبة موقع الفتاوى الشهير إسلام ويب، الذي أصدر على مدار السنين الماضية بعضًا من أشد الفتاوى تشددًا، وأن وزير الأوقاف القطري من ١٩٩٢ إلى ١٩٩٦ كان عبد الله بن خالد بن حمد، وهي نفس الفترة التي قضاها خالد شيخ محمد، العقل المدبر لهجمات برج التجارة العالمي، في قطر، مقيمًا في شقة في بناية مملوكة لوزير الأوقاف، وأن وزير الأوقاف نفسه صار لاحقًا وزيرا للداخلية.
هذا مستوى رسمي من الدولة. لكنه ليس المستوى الوحيد.
توغل الإخوان في بنية الدولة القطرية يذهب إلى أكثر من ذلك كثيرًا. سأستعين هنا بالمقال الثاني لقيادي إخواني هو عبد الله النفيسي، بعنوان الحالة الإسلامية في قطر. حيث يبدأ الاقتباس بسرد أسماء كبار الإخوان الذين انتقلوا إلى قطر في الستينيات
وهو يؤكد على ما ذهب إليه مقال الجريدة القطرية من سيطرة الإخوان المسلمين على مناهج التربية والتعليم، لكنه يلفت النظر إلى معلومة هامة، أن التيار الناشئ هناك كان متأثرًا بكتابات سيد قطب، الكاتب الإخواني المصري الذي شدد على فكرة جاهلية المجتمع. لن نزيد عن هذا في الإشارة إلى تشرب المجتمع القطري بالفكري السياسي الإسلامي الإخواني القطبي. لأننا نريد أن نعود إلى ما حدث بعد غزو العراق. كما مهدت له في المشهد السابق، لنوجزه.
صار لدينا فراغ أيديولوجي بسقوط الاتحاد السوفييتي، والقومية العربية. صارت لدينا راية واحدة نسب إليها الانتصار على القوة العظمى الثانية في العالم، راية “الجهاد”، ونفس الراية الآن مرفوعة في البلقان.
صار لدينا شباب بلا أيديولوجية ينشغلون بها إن أحبوا أن يمارسوا السياسة. ولدينا إخوان مسلمون مسيطرون في قطر، الثرية، الطامحة، والناقمة أيضًا.
سنة ١٩٩١ أصدر الإخوان القطريون دراسة مكونة من جزئين، الأول منها يحمل عنوان “فكر البنا”، أما الثاني فيحمل عنوان “منظمة الإخوان”. من الملفت للنظر أن الجزء الأول نشر للعامة. بينما لم ينشر الجزء الثاني، رغم أنه كان السبب في التوصل إلى قرار مهم جدًا، لم يفهم معظم المتابعين دلالته، بل انشغلوا بمتابعته كحدث. هذا المقطع أيضًا من مقال القيادي الإخواني عبد الله النفيسي.
ما هذه الدراسة التي تجعل الإخوان في قطر، دونًا عن إخوان العالم كله، يعلنون أن لا حاجة للتنظيم؟ هكذا! بهذه البساطة يقبل الإخوان ما لا يقبلونه بالقمع ولا بالإغراء؟ هكذا! يتخلى القطبيون – على حد وصف القيادي عبد الله النفيسي – عن حلمهم وعن موقفهم من المجتمع من حولهم؟
أبدًا. لقد اعتقد هؤلاء أنهم يعيشون الآن، أخيرًا، في ظل “تمكين”، وتحت راية إمام. دولة قطر بالنسبة لهم في ذلك الحين وصلت إلى شكل المجتمع الذي يريدونه.
قرار سنة ١٩٩٩ الإخواني يأتي بعد أربع سنوات من صعود الأمير حمد بن خليفة إلى الحكم، وبعد ثلاث سنوات من إطلاق الجزيرة، وإسلام أونلاين، وهو مشروع ضخم آخر موجه لفئة أخرى من الجمهور ومرتبط مباشرة بمكتب القرضاوي.
تعجبُ بعضنا من هكذا قرار، أو من اعتبار قطر دار تمكين، وأمير قطر أميرًا ممكنًا، نابع من الصورة الخيالية التي لدى العامة عن خليفة المسلمين. نابع من اعتقاد العامة أن خليفة المسلمين منذ العصر الأموي كان يختلف كثيرًا في مستوى “تدينه” عن الحكام الحاليين. الإخوان نشروا هذه الخرافة لحاجة في نفس يعقوب. والآن – في قطر – انتفت هذه الحاجة. وبالنسبة لهم هذا هو الأمير. وهذه هي الإمارة الناشئة. إمارة إخوانية وليست إمارة سلفية كأفغانستان.
لكن قرار حل التنظيم نفسه لم يرض الإخوان في غير قطر. واعترضت عليه القيادة في مصر، حسبما رصد الكاتب:
وواضح أن الدكتور النفيسي أيد الفكرة، وأنه حنق على القيادة الإخوانية المصرية بسبب رفضها لها.
مقولة عصام العريان إن “الحالة القطرية لم تصل بعد إلى النضج الكافي” مقصود بها حالة التمكين. وهذه هي الحالة الوحيدة بالنسبة للإخوان التي تبرر انتهاء المهمة. يريد أن يقول إن التمكين في قطر لم يصل بعد إلى النضج الكافي.
هذا الخلاف بين رؤية إخوان قطر لشكل التمكين، وبين رؤية إخوان مصر، سيظهر بصورة أوضح في الفترة التي أعقبت ما عرف بـ “الربيع العربي”. سيظهر أن إخوان قطر حين وصفوا إخوان مصر بأنهم “عامل تعطيل” لم يكونوا بعيدين عن الصواب. لقد تسببوا في “انهيار الحلم” القطري الإخواني. لقد كانوا فيلًا في طريقه إلى هدم كعبة الدوحة، دون أن يعلم.
تضر الدول العربية نفسها ضررًا بينا حين تعتقد أن الفكر مجرد ترف. كل تغير اجتماعي في العالم لا بد له من تغير فكري مواكب. وما من منطقة في العالم تشهد تغيرات اجتماعية سكانية بحجم ما تشهد المنطقة العربية. أعداد هائلة تنتقل من الأمية إلى التعليم. تزايد سكاني رهيب. ثروات ضخمة في جزء كبير من المنطقة تجعل ملايين فيها يطلعون على أنماط عيش “صادمة” بالنسبة لما يرونه في مجتمعاتهم. صراعات طائفية. تغير في وضع المرأة، نصف المجتمع.
هذه حزمة منتقاة. وناسفة.
في أماكن أخرى من العالم هناك ظاهرة أو اثنتين من تلك. أما هذا التجمع الشامل الكامل، ففي المنطقة العربية وحدها تقريبًا. في نفس الوقت تسقط “الأفكار”، ونكتفي بالتهليل لسقوطها، أو الشماتة فيها، أو احتقار فعل الفكر نفسه بسبب ذلك الفشل! تخيلوا. نعتقد أن الأفكار القديمة ستسقط وتذهب في الفراغ، وأن كل هؤلاء الشباب من المتعلمين الجدد لن يبحثوا عن إجابات جديدة.
هنا وفرت قطر لقطاع كبير من الشيوعيين السابقين، والقوميين العرب السابقين والحاليين، مكانًا تحت ظل الإسلام السياسي. الذي ادعى أنه انتصر في أفغانستان بتأييد الله، والذي بدأ قتالًا آخر في البلقان، والذي يزاحم الثوار القدامى على لواء القضية الفلسطينية، ولا سيما بعد أوسلو.
في ظل سقوط العراق كمصدر ثروة مالية للمثقفين والإعلاميين، وانغلاق مراكز الثروة الأخرى في الإمارات والسعودية عن تبني الأفكار السياسية الجديدة، بدعم من التيار الصحوي لهذا الانغلاق، كانت قطر مهوى العقول الجديدة.
ورثت الدوحة موقع بغداد آخر العواصم الباقية في حوزة من ينسبون أنفسهم إلى التقدمية. ولأن تلك الفترة كانت فترة صعود العولمة والمنظمات غير الحكومية، فقد تمددت شبكة قطر الإخوان إلى كل مفاصل النشاط السياسي المتاحة عبر العالم.
صارت قطر، فعلًا، قبلة النشطاء والمثقفين والإعلاميين والشباب. في الأفكار، وفي الثروة، وفي الشهرة، وفي الفرصة. وراء كل موقع إنترنت جديد لا يعتمد على الأسماء القديمة توجد قطر.. صار الخليج مركز المنطقة العربية الفكري، وصارت الدوحة مركز ما يبدو جديدًا منه. وجد الموهوب لديها مساحة، ووجد الانتهازي لديها مساحة، ووجد العقائدي لديها مساحة.
لكن إلى أي حد كان هذا جديدًا وأصيلًا؟ إلى أي حد اختلفت دوحة حمد عن بغداد صدام؟ لا شك بعد أحداث السنوات السابقة أن كلا منا كون إجابته.