تُنشر لأول مرة | كابتن إسرائيل: باع أسرارا عسكرية لمصر حيًا.. وأسقط رئيس الموساد ميتًا

تُنشر لأول مرة | كابتن إسرائيل: باع أسرارا عسكرية لمصر حيًا.. وأسقط رئيس الموساد ميتًا

25 Feb 2019
مينا منير دقائق

مينا منير

باحث بجامعة لوزان - سويسرا

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

إذا كنت شاهدت فيلم Operation Finale عن خطة الموساد للقبض على الضابط النازي أدولف آيخمان، فلتتذكر المشهد التالي:

يذهب قائد العملية لطبيبة التخدير Hanna Elian التي أدت دورها الممثلة الفرنسية ميلاني لوران، ليخبرها بحاجتهم لمساعدتها في عملية جديدة.

تترد الطبيبة في قبول الطلب؛ لتورطها مع الموساد في عملية سابقة تسبب التخدير فيها بوفاة الشخص المطلوب ضبطه، ما سبب لها عقدة ذنب تخشى تكرارها، لكنها تقبل المهمة تحت إصرار القائد.

طبيب التخدير الحقيقي كان رجلا. صورته هنا

ميلاني لوران في دور طبيبة التخدير الإسرائيلية Hanna Elian

طبيب التخدير الحقيقي يوناه إليان

تاريخيًا، حدث النقاش بالفعل بين طرفين، أولهما رئيس الموساد إيزر هارل، لكن الطرف الثاني لم يكن امرأة، وإنما طبيب تخدير يدعى يوناه إليان (لاحظ التشابه في الاسم)، لكن مقتضيات الدراما أدت لأن تحل محل طبيب التخدير حسناء تضفي على الفيلم لونًا من الإثارة.

المشهد دفع فضولي للبحث عن الحالة التي تسبب طبيب التخدير في وفاتها، وعن أسباب اختيار الطبيب المتسبب في الوفاة نفسه – وبإصرار واضح – للقيام بأخطر عملية خطف في تاريخ الموساد!

البحث عن إجابة للأسئلة قادني إلى واحدة من أغرب وأقدم المعارك المخابراتية بين مصر واسرائيل. الحالة المذكورة كان شخصًا لا نعرف عن حياته الكثير، ولا توجد له صور، وحالته محاطة بالغمموض؛ كونها مكسبا من مكاسب المخابرات المصرية المبكرة جدًا، في مرحلة التأسيس برئاسة السيد زكريا محيي الدين، وقيادته بشكل شخصي لملف التجسس مع السيد حسن بلبل.

زكريا محيي الدين

حالتنا تلك لم ينشر عنها مطلقًا أية معلومات بالعربية، ولم يكتب عنها بالإنجليزية إلا شذرات، بعضها في هذا الكتاب Rise and Kill First : The Secret History of Israel’s Targeted Assassinations  وتسريبات بعض الصحف العبرية (١)، (٢) .

سلاح إسرائيلي جديد

مع اكتمال بنية أجهزة الأمن الإسرائيلية، بات ممكنًا للولايات المتحدة إمداد الدولة اليافعة بين عامي 1952 و1953 بأساسيات سلاح جديد يجب ضمه لأي جيش يريد دخول المستقبل، وهو سلاح الحرب الإلكترونية (Electronic Warfare).

تأسست قاعدة عسكرية سرية تابعة لسلاح الجو الإسرائيلي، وخُصصت للسلاح الجديد.

كانت الخطة تتمثل في تطوير أساليب هجومية كالتشويش الموجي؛ بغرض تعطيل الرادارات وموجات الراديو في الأماكن المستهدفة قبل الإغارة عليها جوًا. كان ذلك حينها أمرا جديدا، ولا تملكه كل الجيوش النظامية.

لا نعرف متى أو كيف وصلت المعلومات إلى مصر، لكننا نتوقع مع الطريقة التي سارت عليها الأمور، أنها وصلت الجهاز اليافع تحت قيادة زكريا محيي الدين في مرحلة مبكرة، فبحث عن وسيلة لكشف اللغز، وهنا بدأت اللعبة، على الأرجح في 1954.

ربيع 1949: المهندس أفنير

لا نعرف عن ماضي أفنير إسرائيل إلا القليل. وُلد يهوديًا، على الأرجح في عشرينيات القرن الماضي، في بلغاريا. أشقر، وسيم، وزير نساء، بحسب الوصف المتاح.

حصل أفنير على درجة البكالوريوس من كلية الهندسة في جامعة صوفيا، وتخصص في الهندسة الإلكترونية.

بسبب علاقاته النسائية سقط سقطةً خطيرة حينما جمعته علاقة جنسية مع شابة من عائلة ريفية أرثوذكسية محافظة. ولما علمت العائلة حاصرت الشاب اليهودي، وأجبرته على التحول إلى المسيحية الأرثوذكسية والزواج من الفتاة، ففعل ذلك، لكنه نجح في 1949 في الهروب إلى إسرائيل، التي كانت تبلغ من العمر عدة شهور، تاركًا خلفه زوجته والفضيحة التي أدت بها إلى انتحارها.

رسم تخيلي لأفنير.. كابتن إسرائيل

وصل المهندس أفنير إلى إسرائيل حيث كانت بداية جديدة وواعدة. بعد التحاقه بجيش الدفاع، نُقل سريعًا إلى سلاح الهندسة في القوات الجوية؛ نظرًا لمؤهله العلمي وكفاءته.

ومع وصول تخطيط سلاح الحرب الإلكترونية وتخصيص قاعدة جوية له، كان من الطبيعي استغلال تلك الكفاءة العلمية والكاريزما التي أثنى عليها جميع رؤساءه، فانضم أفنير لهذا السلاح السري، بعد ترقيته إلى رتبة نقيب، فعُرف بلقب Captain Israel.

وسط كل هذا الانبهار بشخصية وكفاءة الشاب، لم يدرك أحد أنه كان يحب أن يحيا على طريقة Dr Jekyll and Mr Hyde: أن يقود حياة مزدوجة طول الوقت.

بينما كان منغمسًا في مهامه السرية، متروجًا من فتاة يهودية جميلة في تل أبيب حملت منه، حاول أن يبدأ حياة رجل أعمال في مجال العقارات في حيفا.

لا نعرف أيضًا كيف ومتى، لكن أعين المخابرات المصرية التي كانت تبحث على نقطة ضعف لمعرفة أسرار القاعدة السرية التقطته، وراقبته جيدًا على النحو الذي ستوضحه الأمور.

مطلع 1954: أفنير أم إيفور؟

في حيفا، وقع الشاب أفنير اللعوب في غرام فتاة تعمل بالقنصلية الإيطالية، وبدأ معها حياة موازية بعيدًا عن حياته الزوجية والمهنية في تل أبيب.

ولأنه كان يعشق الحياة المزدوجة فقد أجادها. هذه المرة طلبت منه الفتاة أن يتحول إلى المذهب الكاثوليكي إذا أراد الزواج منها، ولأنه تورط في نفس الفعلة سابقًا في بلغاريا، لم يكن صعبًا عليه أن يتعمد في الإيمان المسيحي مرة أخرى.

هنا يبدأ التساؤل: هل كانت تلك العلاقة محاولة لتغطية تواصله بالمخابرات المصرية؟ تذهب الرواية الإسرائيلية إلى نقطة لا تخلو من السذاجة واللا منطقية، فتزعم أنه بمجرد قبوله للمذهب الكاثوليكي، حصل على جواز سفر إيطالي باسم جديد.

ولأن أعماله في حيفا ورطته في قضايا تودي به إلى السجن، فقد هرب بأوراقه الجديدة باسم جديد (إيفور) إلى إيطاليا. وهناك بدأ التواصل مع المخابرات المصرية.

فهل من قبيل الصدفة أيضًا أن الجنسية والأوراق الثبوتية التي حصل عليها إيفور تؤدي به إلى إيطاليا؛ نقطة التواصل الكلاسيكية مع المخابرات المصرية تقريبًا في كل الحالات التي ذكرناها في مقالات سابقة؟

نازيون بين القاهرة وتل أبيب: (1) أولريخ شنافت | مينا منير | دقائق.نت

أفّاق بدرجة مستشار: إسرائيل بير تجسس على بن جوريون فتجسست عليهما مصر

من السذاجة أن نتخيل حصول شخص على الجنسية الإيطالية واسم جديد بمجرد انضمامه للمسيحية، لكن المنطق يفترض أن جهاز مخابرات تواصل معه، ووفر له وثائق مزورة باسم جديد وجواز سفر غربي، الأمر الذي مارسته مصر مع عدة جواسيس في تلك المرحلة، مثل أولريخ شنافت وسكرتيرة إسرائيل بير.

نسنتنج إذًا أن الفتاة الإيطالية ربما كانت حلقة التواصل والتجنيد، أو أن المخابرات المصرية جندته قبلها، واستخدمت الفتاة لتغطية نشاطه في حيفا وذهابه إلى إيطاليا.

في الحالتين لا يسعنا إلا الاعتقاد بأن المخابرات المصرية قد أمنت له الوصول إلى روما، وهناك تواصل معها عبر الملحق العسكري.

منتصف 1954: ملاحقة بطول أوروبا وعرضها

كان اختفاء ضابط كبير في جسم سلاح سري لأسبوعين أمرًا خطيرًا، أثار اهتمام الأجهزة الأمنية. وبات السؤال: أين ذهب، وليس متى سيعود.

في روما، رصدت أعين الموساد أفنير أو إيفور حينما ظهر بعد اختفاء تواصل خلاله مع المخابرات المصرية وفاوضها على سعر الوثائق التي جمعها.

تعاملت المخابرات مع هذا الإسرائيلي من عدة منطلقات:

الوثوق به غير وارد.

كل شخص له سعر؛ لأن المسألة هنا ليست قضية ولاءات أو أيديولوجيا وإنما بيزنس، حيث أن الرجل خائن لبلده.

إمكانية أن ترصده أعين الموساد، إن لم يكن الآن فلاحقًا.

وصل المصريون وأفنير إلى اتفاق، مفاده تسليم وثائق تكشف أسرار القاعدة العسكرية وتفاصيل السلاح الجديد، مقابل مبلغ قيل إنه أقل من 2000 دولار! (ما يعادل 50 ألف دولار اليوم) تُحول على حساب جديد يُفتح له في سويسرا، على أن يستمر التعاون المادي لاحقًا إذا نجح في جلب وثائق عن سلاح الجو تحديدًا.

وبالفعل، نجح أفنير في إكمال الجزء الأول من الصفقة مع المخابرات المصرية، بينما يبحث الموساد عن ضابطه المختفي.

تقول المصادر الإسرائيلية إن عميلًا لهم في روما نجح في الحصول على معلومة مفادها أن شخصًا يدعى إيفور أو إيفون شوهد في روما وسلم وثائق حساسة. رجل آخر للموساد في سويسرا أكد لهم أن حسابًا فُتِح لإيفور في جنيف واستقبل ألفي دولار.

هل إيفور هو أفنير؟ بالتقصي عن حياة أفنير في تل أبيب وإيفور في حيفا يكتشف الموساد أنهما اسمان لنفس الشخص.. كابتن إسرائيل.

يبدو أيضًا أن المصريين استمروا في تشككهم في أن الموساد يعرف تحركات أفنير.

في روما يظهر إيفور، وتصل المعلومة إلى تل أبيب عبر أحد عملاء الموساد، الذي أخبرهم أن تذكرتين حُجزتا على رحلة خطوط TWA المتجهة إلى القاهرة لكل من الملحق العسكري المصري وإيفور.

انطلق إيزر هارل، رئيس الموساد إلى مكتبه مستشيطًا غضبًا؛ فالمعلومات التي يعرفها أفنير بحكم منصبه في السلاح الجديد في منتهى الخطورة، ووصوله إلى القاهرة يعني أنه سيخضع إلى تحقيقات من رجال محترفين يستخرجون منه معلومات أكثر وأخطر.

العملية بيرن

استدعى هارل خيرة رجال الوحدة الخاصة التي تحدثنا عنها في المقال السابق، ونقل لهم أوامر واضحة:

امنعوا الوغد من الوصول إلى مصر بأية طريقة. نريده حيًا لنعرف تحديدًا حجم التسريبات التي سلمها للمصريين

كانت الخطة تقتضي اختلاق مشاجرة في مطار روما يوم رحلة أفنير والملحق المصري، وفي وسط المشاجرة يجري تخديره، ثم نقله لمقر آمن Safe House ثم شحنه إلى تل أبيب.

ضم الفريق عددًا من الوجوه التي ظهرت في الفيلم المذكور أعلاه، والتي شاركت لاحقًا في عملية الضابط النازي أدولف آيخمان، أهمها رافي إيتان ويوحنا إيلان، طبيب التخدير.

انهض واقتل أولًا.. كتاب جديد يكشف أسرار وحدة الاغتيالات في الموساد

علمت المخابرات المصرية بملامح العملية الإسرائيلية فور وصول الفريق إلى روما. في يوم السفر، توجه الفريق إلى المطار، وبدأت المشاجرة، ليكتشفوا أن ملحق السفارة المصرية وصل بمفرده، ولم يكن معه أفنير!

يعزو الموساد ذلك إلى خطأ في المعلومة التي وصلت، وهذا أبعد ما يكون من المنطق؛ لأن الذي وصل لتفاصيل الصفقة مع مصر والحجوزات (شركة الطيران، الموعد، وأحد الفردين المسافرين) لن يخطئ في نقل معلومة كهذه.

بالتالي، ومع مقارنة حالات سابقة مثل حالة ألكسندر يولين التي أدارها المصريون تقريبًا في نفس الوقت، يمكننا القول أن المخابرات أرسلت معلومة مضللة عن وجهة أفنير الحقيقية.

ألكسندر يولين.. بطل إسرائيل الذي خدم المخابرات المصرية | مينا منير | دقائق.نت

بدأت الفرقة الخاصة مطاردة أفنير من مدينة إلى أخرى، وشمل ذلك جنوة، سويسرا، النمسا وحتى فرنسا. في باريس اختفى أفنير، ولا يعرف الموساد أين ذهب بعد ذلك، فهل طار منها إلى القاهرة كما فعل يولين؟ على الأرجح كان في قبضة المخابرات المصرية سواء في أوروبا أو في مصر.

أصيب الفريق الذي سيقبض على آيخمان بعدها بسنين بإحباط شديد، خصوصًا مع تصاعد استفسارات معارف أفنير حول مصيره، والتي تمثل خطورة على العملية، فيفبرك إيزر هارل معلومات عنه مفادها أنه كان نصابًا، وأنه هرب إلى أوروبا حتى لا ينفذ الأحكام الصادرة ضده، ونُشرت أخبار في صحف إسرائيلية بهذه المعلومات، الأمر الذي جمع الزوجتين: الحبلى من تل أبيب، والعشيقة الإيطالية من حيفا في جهاز أمني. كانت الخطة اغتيال سمعة أفنير تمامًا حتى يتوقف الناس عن البحث.

تقرير معاريف في ديسمبر 1954 وفيه رواية هارل المختلقة

السقوط

في ذلك الحين، كانت المخابرات المصرية قد نجحت في جمع كل ما لدى أفنير، وتركته على وعد أن يظهر مرة أخرى بالمزيد من المعلومات عن الدفاعات الجوية.

في فيينا ظهر أفنير، والتقى بصديقة نمساوية يهودية، وأمضى معها وقتًا. لسوء حظه كانت الفتاة تعرف رافي إيتان، أحد أعضاء الفريق، بشكل شخصي، وأخبرته أنها رأت صديقًا قديمًا يدعى أفنير.

لا نعرف إن كانت القصة حقيقية، وإن كان الموساد بهذا القدر من التوفيق أم لا، لكن على أي حال نُفذت العملية بيرن.

كان أفنير يهم بالطيران إلى باريس، وهناك دس عليه الموساد فتاة جميلة لتجلس بجانبه في الطائرة ويستأنس بها. فور الوصول إلى باريس، تعرض عليه الفتاة مرافقتها إلى المنزل. وبعد تردد يقرر الذهاب. بمجرد ركوبه السيارة معها يهاجمه أعضاء الفريق ويوسعونه ضربًا وركلًا، قبل نقله إلى مقر آمن في إحدى ضواحي باريس النائية.

هناك يحقق معه إيتان، فيخرّ أفنير، ويعترف بتعاونه مع مصر بحجة المال.

في تل أبيب تختلج المشاعر في صدر هارل، الذي يشعر بالإهانة بعد فشل المطاردة، وبالخوف من حجم المعلومات والوثائق التي باعها أفنير، لكنه يتنفس الصعداء بالنجاح في القبض أخيرًا على هذا “الوغد البلغاري”.

على أي حال يبرق هارل لإيتان آمرًا بإكمال العملية، بتخدير أفنير ونقله على متن طائرة شحن وصلت خصيصًا إلى فرنسا تحت غطاء عمل تجاري لنقله.

كارثة أخرى

قد يبدو أن الأمر انتهى هنا، وأن كل شيء سار على ما يرام بالمسبة للموساد، لكنها كانت البداية لكارثة كبرى.

يقوم طبيب التخدير إيلان بتخدير أفنير، ثم يُنقل إلى الطائرة. قبل الوصول إلى المجال الجوي الإسرائيلي، يزداد نبض وتنفس أفنير اضطرابًا، ويفقد الطبيب السيطرة على الحالة ليموت قبل الوصول.

يصل الخبر كالصاعقة إلى هارل، فتبعات المسألة لا يُستهان بها. هذه جريمة قتل ستتكشف لا محالة؛ فالشاب قتل دون تحقيق أو محاكمة، ولا يعرف الموساد إلى الآن أكثر مما نقله عميل روما بأن أفنير سرب وثائق القاعدة العسكرية لسلاح الحرب الإلكترونية. لكن ماذا حدث عن شهور الإختفاء؟ هل انتزع المصريون معلومات أخطر وأكبر كان من صلاحيات النقيب أفنير معرفتها؟ هارل يعي أنه لن يصل لإجابة إلا لو تبرعت بها المخابرات المصرية نفسها! غير ذلك، فقد أخذ أفنير معه أسراره إلى القبر.. ولكن أي قبر؟

يفيق هارل على الواقع: أفنير لم يُدفن بعد، وموته يجب أن يظل سرًا. قبل وصول الطائرة، يرسل هارل إشارة كودية على موجات الطائرة يبلغ فيها إيتان بالتخلص من الجثة في البحر المتوسط، وقد كان. أُلقيت جثة أفنير في البحر. وبعد وصول الطائرة، وصل تقرير سري بالأمر إلى رئيس الوزراء.

كان رصيد هارل، الأب الروحي والمؤسس الفعلي للموساد، أكبر من التخلص منه. ورغم تشكيل لجنة تحقيق، لم يُدَن أحد؛ فطبيب التخدير أحال المشكلة إلى البرد الشديد وسوء إعداد الطائرة، وعلى أي حال لم يعلم أحد خارج الفريق الحقيقة.

اختفى أفنير من السجلات العامة كهارب، وقيل لأسرته في تل أبيب وعشيقته في حيفا أنه هرب وعاش في البرازيل واختفى هناك، وهي أيضًا نفس الأكاذيب التي مررها هارل للإعلام. خارج الموساد لم يعرف أحد بالحقيقة.

عملية آيخمان

كانت عملية أدولف آيخمان من تخطيط هارل فور وصول معلومات وثيقة عن وجوده. كانت العملية صك غفرانٍ للتكفير عن كارثة عملية بيرن؛ لذلك كان الإصرار على اختيار نفس المجموعة كجزء من فريق أكبر متعمدة، وكان الإصرار على رافي إيتان والدكتور إيلان تحديدًا لهذا الغرض.

بالفعل حقق هارل وفريقه ما أرادوه، واختفت كارثة عملية بيرن من ذاكرة الموساد، في ضوء العملية البارعة التي أتت بآيخمان حيًا، وبنفس الطريقة (التخدير والشحن) إلى تل أبيب. لكن ذلك لم يستمر أكثر من ثلاث سنوات، لتعود كارثة بيرن إلى السطح مرة أخرى.

دماء أفنير تطارد هارل

في 2018، كشفت الوثائق عن دراما مثيرة وجديدة. فبعد عملية آيخمان بثلاث سنوات، تورط الموساد في عملية كارثية أخرى.

وجد الموساد نفسه مضطرًا للمشاركة في التخطيط لعملية اغتيال معارض مغربي يُدعى المهدي بن بركة في باريس. تختلف الآراء حول حجم تورط الموساد؛ نظرًا لمشاركة عدة جهات في العملية، لكن الموساد كان له نصيب الأسد في وضع الخطة، وتوفير اللوجستيات التي احتاجتها الجهة التي قتلته، وقام الموساد (بحسب رونين بيرجمان) بدفنه في أحراش باريس (قيل أن مكان الدفن الآن قرب إن لم يكن تحت متجر شهير Louis Vuitton!).

لما فُضحت العملية كان لها أثر بالغ، حيث اضطرت الرئاسة الفرنسية لمخاطبة رئيس وزراء إسرائيل وتهديده في وقتٍ كانت أسرائيل في أشد الاحتياج إلى الدعم الفرنسي وطائرات الميراج قبل حرب 67.

المهدي بن بركة

كانت النتائج كارثية بمعنى الكلمة. كان هارل حينها مستشار الاستخبارات لرئيس الوزراء ليفي أشكول، وهو منصب حساس.

أشار هارل على أشكول بضرورة طرد رئيس الموساد مائير أميت، معللًا أن العملية لم تكن مبررة، وأن الموساد ليس “بلطجيًا” يقتل لصالح دول أخرى! لكن أشكول رفض الانصياع لنصيحة هارل، فغضب الأخير بشدة، وقرر تسريب بعض المعلومات عن الفضيحة.

أميت: كيف حالك يا هارل، انظر ماذا وجدت في أرشيف الموساد الخاص بك، عملية بيرن! هل تتذكرها؟ حينما قررت أن تكذب على الرأي العام وتخفي فشلك في الكشف عن نشاط المسكين الذي قتله فريقك!

هارل: إذا كنت تهددني فاعلم أن الكل في الموساد على علم بذلك.

أميت: وماذا عن الرأي العام؟ هل تعرف حجم رد الفعل حينما يدرك الرأي العام أنك أرسلت بيانات كاذبة للصحافة، وأنك أخفيت على أهله أنه ميت تاركًا إياهم حتى هذه اللحظة يعتقدون أنه حي في مكانٍ ما بالبرازيل؟

قرأ هاريل رسالة التهديد جيدًا؛ فتبعاتها قد تصل السجن والفضيحة له ولفريقه وللموساد كجهاز لا يرحم من يؤذيه. فاستقال واعتزل العمل المخابراتي، وكانت نهاية الأسطورة الاستخباراتية بدماء أفنير.

مائير أميت يظهر في منتصف الصورة

الحقيقة بعد خمسين عامًا

في 2006، خرج السر الدفين إلى النور في حوار صحفي أجراه رافي إيتان نفسه مع جريدة معاريف، ذكر فيه حقيقة نهاية أفنير.

أما دكتور التخدير يوناه إيلان، المتورط في كارثة أفنير وعملية أيخمان، فقد انتحر في شقته في يونيو 2011، بعدما بلغ به العمر 88 عامًا، وأرهقه المرض (كما يقول نجله).

كلمة أخيرة

إلى جانب عمليات الجمال، شنافت، يولين وأفنير، نجد أن السيد زكريا محيي الدين نجح في إدارة ملف التخابر بشكل مثير للدهشة في ضوء الظروف التي أسس فيها الجهاز. عملية أفنير تحديدًا مثيرة للاستغراب في نجاح الجهاز في معركة الكر والفر على طول أوروبا وعرضها، والتي نجح فيها الجهاز في الحصول على ما يريده من أفنير، بينما تفشل وحدة خاصة مجّدها التاريخ في عملية أيخمان من أن تحصل على ما أرادت.

رغم شفافية مؤسسات إسرائيل في محاسبة أجهزتها، إلا أن مسألة تمرير روايات مختلفة للصحافة كما تدلل رواية أفنير أمر يجب أن نأخذه في الاعتبار عند التعامل مع الروايات التي أتت بعد ذلك كلها.


اضحك صورة ديمونة تطلع حلوة.. ألغاز “الجاسوس الكامل” كيبورك يعقوبيان

فوضى على ضفاف النيل.. كتاب عن دونالد ماكلين يكشف صراع المخابرات في مصر الملكية


رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك