اضحك صورة ديمونة تطلع حلوة.. ألغاز “الجاسوس الكامل” كيبورك يعقوبيان | مينا منير

اضحك صورة ديمونة تطلع حلوة.. ألغاز “الجاسوس الكامل” كيبورك يعقوبيان | مينا منير

10 Feb 2019
مينا منير دقائق

مينا منير

باحث بجامعة لوزان - سويسرا

مصر
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

هل تخيلت يومًا أن جارك الأرمني البشوش الذي يقطن في أحد الأزقة المتفرعة من شارع كلوت بك بالظاهر ربما لا يكون مجرد جار؟ وأن مصور الفوتوغرافيا الذي ينتهي اسمه بالمقطع “يان” في أحد استديوهات التصوير التي يديرها الأرمن في رمسيس ووسط البلد ربما يكون قد صور قبلك مفاعل ديمونة النووي؟ إذا سألت مصور الفوتوغرافيا يعقوبيان وهو يسلمك صور مقاس 6×4، هناك احتمال بألا تكون الإجابة: ما هذا الهراء!

تتضمن سجلات معارك المخابرات المصرية والإسرائيلية تفاصيل لا يقف عندها كثيرون. وسط أساطير مثل رفعت الجمال، أشرف مروان، فولفجانج لوتز، إيلي كوهين، إلخ، هناك رواية قصيرة بسيطة غريبة جدًا عن شاب أرمني مصري اسمه كيبورك يعقوبيان جمعت في طياتها تناقضات وألغازا لا يجب بدورنا أن نمر عليها مرور الكرام. في هذا المقال سنعرض تلك الألغاز والدروس المستفادة.

لغز الحوت الكبير

قليلة هي المصادر المتوفرة عن كيبورك، وللأسف يغلب عليها الطابع القصصي. في الكتابات العربية هناك شذرات عنه دون إيضاح. أشهر الإشارات المختصرة نجدها في رواية رأفت الهجان نفسه، وقد تكون هنا حقيقية.

في الإشارة تُبلغ سكرتيرة الهجان رئيسها في العمل بخبر منتشر في الصحف الإسرائيلية مفاده أن جهاز الأمن الوطني (الشاباك) ألقى القبض على جاسوس مصري خطير يُدعى كيبورك يعقوبيان. يصاب الهجان بالهلع، ويهرع للتواصل مع المخابرات المصرية، التي تصاب بالصدمة بدورها، وتأمره بتجميد نشاطه بالكامل لحين وصول أوامر أخرى.

لا نستطيع أن نستوثق من هلع الجمال تاريخيًا، لكني أميل لحقيقيته لسبب بسيط؛ الصحف الإسرائيلية بالفعل انشغلت بهذه القضية. وهنا نجد اللغز الأول: فإن كان كيبورك يعقوبيان ليس بالأهمية لكي يتكلم عنه المصريون كثيرًا، ما الذي منح حالته كل هذا الاهتمام في إسرائيل، لتُفرد له عشرات التقارير بين عامي 1963 و1966، بل وإلى اليوم، تظهر مقالات من وقت لآخر عن “الأسطورة” أو “الحوت الكبير”، إلخ من ألقاب تعكس بالفعل حجم تأثيره الذي تسبب في توقيع أقصى عقوبة عليه.

سقط عشرات الجواسيس والعملاء قبل كيبورك يعقوبيان وبعده، لكن أحدًا لم يقل عنهم ما قاله المدعي العام الإسرائيلي عن كيبورك يعقوبيان.. “الجاسوس الكامل”.

إعادة إنتاج رفعت الجمال

وُلد كيبورك يعقوبيان في القاهرة 1938، لأبوين أرمنيين هاجرا إلى مصر هربًا من البطش التركي. كحال الكثير من أرمن وسط البلد، تعلم كيبورك عن أبيه حرفة التصوير الفوتوغرافي، وكان يساعده في إدارة استديو صغير في حي الظاهر.

في سن العشرين توفي أبوه، وترك له الاستديو وأمه وأخته ليعولهما. لم يكن الأمر يسيرًا، فقد اصطدم بديون ثقيلة انتهى به الحال على إثرها في السجن 1958.

في ذلك الوقت، كانت المخابرات المصرية قد اطمأنت لفكرة إعادة إنتاج رفعت الجمال، وبحثت عن شباب يمتلكون الكاريزما والقدرات اللغوية والثقافية ليصيروا نماذج جديدة من جاك بيتون. بطريقة ما، تختلف فيها المصادر، استدلت المخابرات المصرية على كيبورك يعقوبيان في السجن، فوجدته شابًا فاتح البشرة قريب الملامح للأوروبيين، ويجيد عدة لغات: العربية، الفرنسية، الإنجليزية، الإسبانية والتركية، بالإضافة إلى الأرمينية بالطبع.

قدمت المخابرات المصرية له عرضًا يشبه كثيرًا عرض رفعت الجمال.. التعاون مقابل الخروج من السجن. رفض كيبورك العرض، وقُبل طعنه على حكم الحبس، ليخرج من السجن في حال سيء. اقترب منه رجل المخابرات المصرية مجددًا، وعرض عليه منح الجنسية لأمه وتقديم معاش جيد لها، فوافق كيبورك هذه المرة، ليكرر تجربة رفعت الجمال.

خلق إسحق كوتشوك

بحسب اعترافاته، تلقى كيبورك يعقوبيان تدريبات خاصة من صيف 1958 حتى نهاية العام التالي، هي نفسها التدريبات التي تلقاها رفعت الجمال. صنعت منه يهوديًا مصريًا لا غش فيه. بل طال الأمر إجراء عملية ختان له، ليتحول على إثرها إلى شخصية جديدة.. إسحق زكي سليم كوتشوك. يهودي من أصل تركي، عاش في مصر كتاجر دخان، ونشأ وسط أسرة يهودية هربت إلى مصر من بطش العثمانيين.

تسلم كيبورك يعقوبيان وثائق مزورة تحمل كل بيانات إسحق كوتشوك المنتمي لليهود الأشكناز، وصورة لقبر والدته المزعومة، تردد على إثرها بانتظام على كنيس شارع عدلي. وبعد مدةٍ أثبت فيها نجاحًا ملموسًا، تلقى تعليمات مطلع 1960 بتقديم أوراق طلب اللجوء لمفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، ولم يطُل الأمر. تسلم وثائق تتيح له الهجرة.

كانت الخطة، بحسب السيد محمد نسيم (الذي كان يدير رفعت الجمال أيضًا) تقتضي زرعه وسط يهود دولة بعيدة حتى لا يُشَك في أمره، ومن هناك يهاجر إلى إسرائيل. وقع الاختيار على مدينة ريو دي جانيرو بالبرازيل؛ لأن الوكالة اليهودية كانت شديدة النشاط هناك.

تُجمع المصادر على أن إسحق كوتشوك تعرف على عائلة يهودية طيبة من إحدى كيبوتزات النقب، وارتبط برب الأسرة، وأحبوه من باب الإشفاق عليه؛ فقد كان صغير السن، فقيرًا، يذكرهم دائمًا بماضيه المؤلم ويُتمه.

بعد وصوله إلى البرازيل، دعته الأسرة للذهاب إلى إسرائيل والتوطن هناك، ووعدوه بمساعدته. ومع مضي الوقت في ريو، وتحت أعين الملحق التجاري المصري الذي كان ضابطَا في المخابرات، نجح إسحق كوتشوك في الاندماج بالجالية اليهودية وهناك، ومنها دعته الوكالة اليهودية للهجرة إلى إسرائيل.

كيبورك يعقوبيان وكوهين

هنا نجد أنفسنا أمام لغز محير بالفعل، وقد حاول بعض الباحثين تفسيره، دون تقديم إجابة مقنعة. خطة مصر لتجنيد وزرع كيبورك يعقوبيان كانت بالتفصيل نفس خطة تجنيد وزرع الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين (في سوريا) من حيث التوقيتات، والفكرة وحتى الأماكن، كما يُظهِر الإنفوجراف التالي:

يقول السيد محمد نسيم إن رواية كيبورك يعقوبيان ألهمت الموساد لتكرارها مع إيلي كوهين، ولكن مضاهاة التواريخ المتطابقة تقريبًا تمنع تصور أن الموساد عرف بحالة يعقوبيان ليكررها، لكنها تفتح تساؤلات حول حلقة مفقودة لا نعرفها، وبسببها قد يكون الأمر كذلك كما يقول السيد محمد نسيم. إلى أن نعرف ذلك، يظل الأمر لغزا الصدفة فيه من عجائب القدر.


سقوط الجاسوس إيلي كوهين.. أدلة جديدة تؤيد الرواية المصرية

ألكسندر يولين.. بطل إسرائيل الذي خدم المخابرات المصرية | مينا منير | دقائق.نت


كوتشوك في أشكلون

كيبورك يعقوبيان

في ديسمبر 1961، أبحر كيبورك يعقوبيان متوجهًا إلى إسرائيل، وفي يناير/ كانون الأول 1962 وصل بعد أن توقف في جنوة الإيطالية في الطريق، حيث راجع مع ضابط الحالة المصري هناك كل ملامح الإعداد لإسرائيل، وكان في مقدمتها الإعداد للالتحاق بالخدمة العسكرية.

يبدو لي أن الأوامر كانت تطالبه بتركيز نشاطه بين النقب ومستعمرة أشكلون، فلا حاجة له في تل أبيب، حيث يعمل رفعت الجمال بكفاءةٍ تغني عن أي نشاط آخر داخل العاصمة. بالفعل، استقر كوتشوك في أشكلون حيث التحق بإحدى الكيبوتزات التي درس فيها العبرية بشكلٍ مركز، ولصغر سنه التحق بجيش الدفاع.

من موقعه الميداني المتواضع كسائق شاحنات، استطاع التحرك بحرية في المنطقة، وبدأت متاريس التجسس تدور.

هنا تختلف المصادر بشكل كبير حول زمن وطبيعة رصد الشاباك له. هناك حقيقتان: الأولى أنه بالفعل أحب سيدة كان أخوها يعمل مع الشاباك. والثانية أنه كان يرسل إلى روما رسائل مشفرة بشكل غزير ومدعاة للخطر.

بعض الروايات تقول إن حبه للفتاة كشفه، لكنني لا أميل إلى هذه القراءة الدرامية. القراءة الرسمية الإسرائيلية، والتي ليست بالضرورة حقيقية، تزعم أن إحدى رسائله إلى جنوة كانت موجهة إلى إحدى العناوين التي كشفت إسرائيل استخدام المخابرات المصرية لها في حالاتٍ سابقة (في تلك المرحلة كان هناك عدد لا يمكن حصره من حالات التجسس التي كُشفت بين البلدين)، وكان خطأً قاتلًا.

سقوط الجاسوس الكامل

مردخاي شارون

مع تواتر الرسائل تيقن الشاباك من خطورة صاحبها، فأرسلوا – كما كشفت وثائق حديثة – أخطر رجالهم على الإطلاق، ثعلب النقب، مردخاي شارون (موتكة) والذي كانت له صولات وجولات كثيرة في مكافحة تجسس الأجهزة العربية.

كرس مردخاي نفسه تمامًا لمعرفة وتتبع مصدر الرسائل حتى كشفه، وقرر حينها الشاباك ألا يقبض عليه، على أمل أن يكشف أي شركاء له. تقول المصادر الإسرائيلية إن الشاباك كشفه في غضون اسابيع من وصوله، وإنه كان تحت السيطرة بالكامل، ولهذا لم يترق، وحُجبت المعلومات عنه، وحُدد نشاطه، لكنهم لم يعتقلوه إلا بعد التأكد من عدم وجود شركاء له، وبسبب إقدامه على الارتباط بالفتاة، في ديسمبر/ كانون الأول 1963.

بمواجهته بالأدلة، اعترف الرجل، وواجه العقوبة القصوى بالسجن 18 عامًا في مارس/ أذار 1964، وسط ضجة إعلامية رهيبة.

هنا نصل إلى اللغز الأخطر: إذا كان الشاباك قد أحكم السيطرة بالكامل على كيبورك يعقوبيان في غضون أسابيع من وصوله، لماذا كل هذه الضجة الإعلامية، والعقوبة القصوى التي لم تُعطَ حتى لخونة بحجم إسرائيل بير (طالع قصته هنا) والنازي شنافت الذي اخترقهم مرتين؟ (قصته هنا).

إذا كانت هذه السيطرة حقيقية فهي بلا شك دليل فشل للعميل، بالدرجة التي لا يستحق معها أن يذكره الشاباك عبر موقعه على لائحة أهم نجاحاته (طالع الموقع)، أو أن تكون قضيته واحدة من أخطر عشرين حالة تجسس يذكرها يوسي ميلمان في كتابه عن الجواسيس. لعل الصمت المصري يعضد هذا الاعتقاد، لكنه لا يفسر الاهتمام الإسرائيلي الرهيب بالجاسوس (الفاشل).

أهم نجاحات الشاباك

الأمر يزداد غرابةً بالنظر إلى قائمة المعلومات “الخطيرة” التي سربها كيبورك يعقوبيان والتي استحق معها هذه العقوبة الثقيلة.

القائمة التي يوفرها الشاباك، والتي بطبيعة الحال ليست كل ما نقله يعقوبيان، كافية أن تُشعرك بذهول شديد:

الكشف عن قاعدة قوات خاصة سرية في منطقة جولس، والأسلحة الثقيلة بها وعدد الدبابات.

الكشف عن المقر السري لقيادة الجبهة في يافا.

الكشف عن حصول إسرائيل على أسلحة حديثة من ضمنها طيارات الميراج والمستير، بالأرقام والتفاصيل. وهي صفقة أدارها موشيه ديان شخصيًا.

أما الإنجاز المذهل بحق، فهو الكشف عن مفاعل ديمونة النووي!

مفاعل ديمونة

هل قام بكل هذا وهو تحت سيطرة الشاباك؟ هل تركوه يكشف سر أسرارهم وهو اقتناء السلاح النووي؟!

ما أذهلني أنه لم يتحدث أحد، باستثناء بيان الشاباك، عن هذا الأمر، في تجنب كامل من كل الأطراف، وبينها مصر. لماذا؟

بالنظر فقط لتواريخ نشاط المفاعل ونشاط كيبورك يعقوبيان تزداد التساؤلات الملحة حول حجم هذا “الحوت الكبير” (كما وصفته يديعوت أحرونوت)، فالمفاعل الذي بدأ كمركز أبحاث بسيط في العام 1958، وقد جمع له بن جوريون ما يعادل 40 مليون دولار لتطويره، تحول إلى التخصيب النووي سنة 1962، وهو نفس العام الذي التحق فيه يعقوبيان بجيش الدفاع، حيث بدأ نشاط التجسس باستخدام عربته العسكرية والكاميرا التي لم تفارقه. ثم توقف عن التخصيب 1964، وخضع لإخفاء نشاطه النووي حتى لا نعرف متى عاد للعمل مجددًا بعد التوقف في العام المذكور، وهو أيضًا التاريخ الذي بدأ فيه التحقيق مع يعقوبيان (كان الاعتقال في نهاية ديسمبر/ كانون الأول 1963) وحوكم علنًا في مارس/ أذار من نفس العام. هل هذا اللغز صدفة أخرى؟!

عودة كيبورك يعقوبيان

لم تنته القصة العجيبة هنا. في مارس/ أذار 1966، طالعتنا الصحف الإسرائيلية بوابل من التقارير التي تغطي حدثًا خطيرًا.. صفقة تبادل أسرى بين مصر وإسرائيل. ثلاثة مدنيين إسرائيليين (تجار بطيخ) دخلوا الأراضي المصرية بالخطأ فألقي القبض عليهم، ودخلوا في عملية تبادل مع ثلاثة مصريين بينهم كيبورك يعقوبيان الذي كان قد قضى عامين بالتمام في السجن. ولكن، مرة أخرى، يأتي لغز آخر: منذ متى يجري استبدال بائعي بطيخ بجاسوس وفدائيين؟ في أحد تقارير معاريف، (اضغط تر الصورة الأرشيفية) صرخ الكاتب لجحافة المطالب المصرية والمهانة التي تقبلتها إسرائيل بتحرير الجاسوس، امتثالًا للإصرار المصري.

قال أحد الصحافيين الإسرائيليين: “لقد أثبتت المخابرات المصرية بأنها لا تهمل ولا تنسى جواسيسها”.

بهذه الكلمات أعتقد أن رواية كيبورك يعقوبيان الغريبة أكملت قائمة ألغازها ودروسها المستفادة.

يبقى أن نقول أن كيبورك عاد لمجتمعه الأرميني بالقاهرة، لكنه اختفى تمامًا عن أعين الجميع، ولا نعرف إن كان حيًا أم لا (إن كان كذلك فأتمنى عليه أن يقرأ كلماتي وقد بلغ الثمانين من العمر، فيعرفنا أكثر عن نفسه وإنجازاته).

في المرة المقبلة، حين تذهب لاستديو يديره شخص يدعى يعقوبيان، أو على الأقل ينتهي اسمه بالمقطع الأرميني الشهير (يان) لاستخراج صورة 4×6، لا تنسى أن تتلفت حولك وتسأل عما قرأته في هذا المقال، لعلك تستطيع أن تضيف إجابة، أو ربما لغزًا آخر لقائمة الأحاجي المذكورة أعلاه.

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك