مارسيون السينوبي.. رجل الأعمال المنبوذ كنسيًا مخترع العهد الجديد | مينا منير

مارسيون السينوبي.. رجل الأعمال المنبوذ كنسيًا مخترع العهد الجديد | مينا منير

10 Jun 2019
مينا منير دقائق

مينا منير

باحث بجامعة لوزان - سويسرا

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

الغالبية الساحقة من المسيحيين لا يعرفون مصدر فكرة العهد الجديد. ولا يدركون أن أصل جمع الكتابات المسيحية المنسوبة للرسل وتلاميذ المسيح “الحواريين” التي جمعتها الكنيسة واعتبرتها وحدها كتبًا قانونية “أصيلة وملزمة” تكمل العهد القديم “الكتب اليهودية من التوراة والأنبياء” ليصنعا الكتاب المقدس، أصل هذا جميعا شخص تلعنه الكنيسة ولا تعتبر أتباعه مسيحيين!

التكتيم على تاريخ مارسيون السينوبي، صاحب الفكرة، سيبدو منطقيًا لو شكل هذا الشخص مصدر خطورة.

فمن هو؟ وما خطورته؟ لنبدأ تسليط الضوء على واحد من عباقرة الزمان الذين أُخفي تاريخه عن عمد، رغم أن الهوية المسيحية التي نعرفها تشكلت بفضله بطريقة أو بأخرى، بآثارها الكبيرة على الوعي البشري والحضارة.

رائد أعمال متمرد

لا نعرف تحديدًا تاريخ ميلاده. وُلد مارسيون السينوبي في مدينة سينوب على البحر الأسود. وكان ابنًا لأسقف المدينة “نعم كان الأساقفة يتزوجون حينها“.

رغم ذلك، رفض مارسيون الانخراط في نشاة دينية، مفضلًا دراسة اللغات الكلاسيكية والأدب اليوناني والتجارة. كان شابًا مختلفًا بما يمكن أن نطلق عليه اليوم رائد أعمال Entrepreneur.

لم ينخرط في المجال الديني أو الوظائف. ذهب لميناء المدينة، وهي أهم بقعة فيها كعادة المدن الساحلية، متابعًا حركة الشحن والنقل. من هناك تعلم قوة المعلومة، التي يمكن أن تكون منتجًا أكثر قيمة من البضائع نفسها.

عبر جمع المعلومات عما وصل الميناء من خامات، قدم مارسيون السينوبي نوعًا من الخدمات اللوجستية ساعد أصحاب المصالح على التواصل البيني عبر شبكة معلومات. الخدمة نجحت بشكل كبير في وقتٍ ضيق، حتى بلغ الأمر به لاقتناء سفينة شحن، وصار رائد الأعمال سابقًا لجيله بطرق تفكيره خارج الصندوق.

حياة برايان وحياة يسوع.. فيلم يزدري الازدراء | مينا منير

عاصمة الإمبراطورية

بعد وقت من النشاط الناجح، صار العمل في ميناء سينوب أصغر من طموح مارسيون. قرر توسيع التجربة إلى روما.. عاصمة الإمبراطورية نفسها. وضع رأسماله في سفينته، وخاض المغامرة بنجاح. في روما بلغ به الثراء درجة اللقاء بأعضاء كنيستها، ومنحها أموالًا ضخمة ما زالت المصادر تذكرها.

رغم ذلم، تسبب عقل مارسيون السينوبي النقدي في صدام مع الكنيسة الرومانية؛ إذ رفض الخضوع لأي منظومة هيراركية تملي عليه نمط تفكير معين.

في أربعينيات القرن الثاني، بدأ الرجل يعبر جهارًا عن تفكيره. في مطلع الأمر لاحظ أن الكنيسة الرومانية تستخدم نصوصًا كثيرة من رسائل منسوبة للرسل والتلاميذ لا تتوافق بالضرورة مع بعضها، خصوصًا في النصوص التي تربط المسيحية مع اليهودية بشكل كبير.

هنا، تركز تفكير مارسيون على أمرين خطيرين: هل تلك النصوص أصيلة وتعبر عن المسيحية كما نشأت بالفعل؟

استخدم مارسيون قدرته اللوجستية في ريادة الأعمال، وبدأ أخطر عملية عرفها التاريخ المسيحي بجمع النصوص وفرزها نقديًا. هذا التصرف في القرن الثاني كان يحتاج أموالًا باهظة وقدرة لوجستية معقدة لتسهيل الوصول للنصوص المتبعثرة في مدن الإمبراطورية، ومارسيون كان يمتلك الأمرين، بجانب نفوذه المادي واستقلاليته التي لم تنجح معها أي مؤسسة في تدجينه، ليصبح أول مسيحي يجمع النصوص المسيحية وينظر في أمرها ويقارنها بشكل نقدي لم يقم به أحد إلا الباحثين في المئتي سنة الأخيرة!

اقتنى مارسيون أولًا نسخة أخرى من نفس الإنجيل الذي يقرأ في الكنيسة الرومانية، ثم جمع معه الرسائل التي يمكن نسبها للرسول بولس بيقين، وأسمى تلك المجموعة من الرسائل بـ “الأبستوليكون“.

ثم قرر أن يصنع أول كتاب اسماه بنفسه العهد الجديد. وكان أول من استخدم اصطلاح “الإنجيل” قاصدًا به نصًا مكتوبًا (كان التعبير قبلها يُستخدم بمعنى البشارة السارة عموما). وصار هذا أول قانون للعهد الجديد عرفته المسيحية.

الإيمان والدين.. أيهما الطريق إلى الآخر؟

خطورة مارسيون

دراسة مارسيون السينوبي النصية الدقيقة فتحت الباب للدراسة العلمية دون الخضوع للسلطة الدينية التي انتقدت الرجل بشدة، حتى منعته من الحضور للكنيسة. هذا جانب، أما الجانب الأخطر فكان حرية التفكير الذي يمكن أن تكون له تبعات غير سارة للرواية الدينية الرسمية.

مع منتصف أربعينيات القرن الثاني، دون مارسيون أحد أخطر النصوص التي عرفت في التاريخ الديني، والتي قال أحد أشهر كتاب المسيحية إنها قسمت العالم المسيحي إلى نصفين بسبب شعبيتها ومنطقية ملاحظاتها.

هذا النص اسمه المتناقضات – Antitheses وفيه يشرح بالتفصيل صراعه مع فكرة أن إله العهد القديم الذي كان يأمر بإبادة شعوب كاملة من أمام شعبه، هو نفسه إله المحبة غير المشروطة الذي بشر به المسيح ودعاه أبًا؛ إذ كيف يمكن لكل هذا الغضب الذي يحمله العهد القديم بحروبه ودماره أن يكون نفس إله العهد الجديد؟ وكيف يمكن للمسيحي قراءة نص توراتي بجانب آخر مسيحي له رؤية مختلفة؟

عرض مارسيون في كتاب المتناقضات قائمة طويلة وتفاسير ومناقشات ديالكتيكية لا ينقصها السخرية أحيانًا ممن يرون أنه يمكن مصالحة هذه مع تلك. فنفس الإله الذي أمر ببناء الهيكل يُسر بدماره (سنة 70 ميلادية) يعد الناس ببنائه مرة أخرى مع المسيحية!

المسيح خارج الأناجيل: كيف تخيل الروائيون شخص يسوع الإنساني؟ | مارك أمجد

ميلاد العهد الجديد

انتشر فكر مارسيون السينوبي كالنار في الهشيم لما فيه من حرفية عالية في الكتابة، وانتشر معه العهد الجديد الأول للمسيحيين.

كانت النتيجة إعادة النظر للمسيحية باعتبارها ليست وليدة من رحم اليهودية، وإنما قراءة أخرى مناقضة وبديلة من إلهٍ يُسمع صوته لأول مرة، ويُرى في شخص وحياة المسيح وليس قبلًا.

هنا واجهت رؤية مارسيون، بغض النظر عن منطقيتها من عدمها، مؤسستين كبحتا جماح فكره سريعًا:

المؤسسة الدينية: رغم أن مجتمعات مسيحية كبيرة الحجم اعتقدت في فكر مارسيون، لكنها لم تنظر لمارسيون كرجل دين ولم تتحول لمؤسسات دينية.

الدولة: راقبت الدولة فكر مارسيون عن كثب؛ فنشأة ديانة بلا أصل تاريخي قديم خطيرة بما يستوجب تدخلًا حازمًا وعنيفًا من الدولة، حيث يجعلها تقديم المسيحية دون جذور قديمة كاليهودية في موضع خطر بكل المقاييس.

هنا ظهر كتاب مسيحيون جمعوا نصوصًا شكلوا بها عهدًا جديدًا مقابلًا لعهد مارسيون، وبدلًا من كتاب مارسيون الذي ضم رسائل بولس المحققة وإنجيل قديم (هو إنجيل لوقا)، بات لدينا تدريجيًا الأناجيل الأربعة والرسائل والنصوص.

بين الرواية الكنسية وميزان النقد الحديث

خلق التاريخ المسيحي روايات وقصصا لتقديم مارسيون بطريقة نمطية (شرير الفيلم) لا ينقصها الجنس والمال، واختفى كتابه المتناقضات وتحقيقه التاريخي لنصوص العهد الجديد.

الأمور تغيرت مؤخرًا. في الأعوام الخمسة الأخيرة، ركزت الأكاديميات في العالم على جمع شذرات نصوصه، وأهمها نسخته من إنجيل لوقا ورسائل بولس، ونتج عنها خمسة مجلدات علمية.

بات مارسيون في ميزان العلم أحد أهم رموز التفكير الحر والإبداع، والأهم: ارتباط سلوكه الفكري بسلوكه كرائد في عالم الأعمال. صارت الدراسة الاجتماعية لفكر وأسلوب مارسيون مفسرة لحريته التي مارسها بسبب طريقته التي تختلف عن الفرد المنتمي لمنظومة وظيفية. وهذا كان مكمن عبقريته على خلاف تطبيقات تلك العبقرية، دينيًا أم عمليًا، فإن روح الـ Entrepreneurship لديه هي التي تقف خلف ذلك.


تاريخ البشرية في ٧ قطع أثرية .. بعضها لم تسمع عنه من قبل | خالد البري | رواية صحفية في دقائق

الإسفنجة القذرة: الطريقة الرومانية للقضاء على فساد الأستاذ سيد | مينا منير

الفتنة الطائفية.. أطروحة فيلون عن تحدى الدولة حلت الإشكالية قبل ألفي عام | مينا منير


رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك