10 سنوات ساخنة بين “سقوط الخلافة” و”ممالك النار”.. ماذا تغير في صراع الهوية؟ | عمرو عبد الرزاق

10 سنوات ساخنة بين “سقوط الخلافة” و”ممالك النار”.. ماذا تغير في صراع الهوية؟ | عمرو عبد الرزاق

7 Dec 2019
عمرو عبد الرازق
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

تعدد الثقافات وتنوع الأفكار وتفاعلها وتناغمها داخل المجتمع الواحد أمر، وتضارب الهويات وتصارعها وإزاحة بعضها البعض أمر آخر.

الأول هو ما يسعى إليه الراغبون في الحفاظ على استقرار مجتمعاتهم وحمايتها؛ لترسيخه وتدعيمه والتعبير الإيجابي عنه والترويج له. والثاني هو ما يسعى هؤلاء أنفسهم لمنع وقوعه وتجنب شره وضرره، من حيث التردي لصراعات بدائية منبعها التباين والاختلاف ووصم المجاور وإيذائه بسبب معتقده أو اختلافه أيًا كان.

من خلال هذا التنوع.. ينشأ سؤال الهوية.

يريدونها جغرافيا.. ونريدها وطنًا

لعقود طويلة استعرض الآباء والأجداد السياسيون والوطنيون من مختلف التيارات الفكرية تلك المعضلة، بل وغاصوا خلالها في بعض الإشكاليات السياسية والفكرية المتعلقة بالتحرر الوطني التام الخالي من أي تبعية، والعودة لجذور الدولة الأم الحرة غير المنتسبة لأحد، في مقابل أطروحات أخرى لأفكار أممية، تخضع مصر خلالها لانتماءات إقليمية بتواجد هامشي، مقلمة الأظافر تقوم بدور الداعم اللوجستي بالمقاتلين والثروات وأصحاب المواهب، جباية لحكومات غريبة تبعد مركزيتها عنا آلاف الكيلومترات، يردد قادتها أن لهم بمصر حقًا لما يجمعهم بالمصريين من دين واحد، وعلى مصر بسبب ذلك أن تقدم ما تقدر عليه مقابل بعض التصفيق وعبارات رنانة مادحة في مصر الجغرافيا لا مصر الوطن، وبعض من خبطات الإشادة على الكتف!

فإن تذمر المصريون ورفضوا هذا الدور! فالخيار الآخر مرفوض بل غير مطروح بالأساس، وتتحول حينها إلى مارق سياسي وديني مغضوب عليه، وعدو وجب قتاله وإعادته للحظيرة الأم. وتستحيل كلمات الإشادة للكمات مؤلمة، وعبارات الاستحسان إلى استهجان وتقريع.. حتى أن الحديث النبوي الذي امتدح جند مصر ضعفوه وأحالوه إلى حديث كاذب بجلسة فضائية وانتهى الأمر، بعدما روجوه لسنوات للتبشير بالجيش العقائدي المرجو!

المساجلات الفكرية حول هوية مصر وثقافتها تملأ بطون الكتب وأرفف المكتبات.. بعض الأعمال الدرامية تعرضت لإشكالية الهوية تلك. حتى أن مشاهد مسلسل “أرابيسك” الشهير لأسامة أنور عكاشة خُتمت بواقعة هدم الفيلا- الرمز الجامع للثقافات/ الهويات – المتتالية/ المتعايشة على أرض مصر، عبر عرض مونودرامي لشخصية البطل يخاطب المحبوسين داخل هوياتهم، مبررًا الهدم الذي قام به خطأً أو وجوبًا أو عمدًا!!

توقف هنا.. دون أن يتعرض صراحة لما يمكن أن يحدث إذا ما حاولت هوية ما مستترة أو ظاهرة اختطاف الوطن، والسعي لمحو الجميع وإذابته.. كان ظنه حينها فقط أن الجميع يبحث عن الاستفاقة والنهوض، ولكننا فقط نجهل الطريق. وهو ما ثبت عدم دقته!

الهوية المصرية.. حينما تكون جنسيتك حقيقة بيولوجية | مينا منير | دقائق.نت

الدراما في صراع ما بعد 2011

مع التهاب المنطقة منذ 2011، لم يكن هذا الصراع ليظل هادئًا، فكلما خفتت قوة وسيطرة الدول المركزية، شاء أصحاب بعض الهويات المتربصة والمتعجرفة، أن يبرزوا أنفسهم باعتبارهم أصحاب الحق في احتواء الباقين والسيطرة عليهم داخل منظومتهم، وزادت أطماعهم في أن يكونوا هم البديل المنوط بتشكيل الدولة البديلة للدول التي اختلت أو سقطت.

وشاءت التطورات السياسية المتتالية والمتصاعدة أن يتحول التعايش المسالم بين الثقافات والذي تعتريه بعض الأزمات أحيانًا، إلى صراع مباشر بالسلاح والمتفجرات والقتل والاغتيال، حينما أظهر بعضهم هويتهم المخفية، كونهم ليسوا مجرد ثقافة ضمن مجموع متنوع، بل أصحاب هوية خاصة مختطِفة، تتحين الفرصة للاستيلاء على كل شيء وإزاحة الباقين لأقصى هامش ممكن، أو حتى التخلص منه بالإبادة والتهجير كما حدث في مناطق بدول الهلال الخصيب.

باستمرار الصراع وتصاعده، نصل لمرحلة تكون إحدى تجليات هذا الصراع هي الدراما التليفزيونية. وهو مسار قد نكون تركنا فيه الساحة لغيرنا يلهو بها منفردًا، ويقدم تاريخًا مهذبًا منمقًا موجها للجماهير المصرية والعربية، يجمِّل به أسلافه ويخدم به قضيته المعاصرة، لعبت عبره الدراما التركية دورًا دعويًا موازيًا للخطابات الدينية والسياسية، تمارس الترويج لأصحاب دعوة الخلافة، أو أنصار المد الديني القادم ببيارق تركية وعناصر محلية داعمة مروِّجة..

تاريخ “العناصر المحلية الداعمة” للاحتلال العثماني في مصر والشام | عبد السميع جميل

ممالك النار

بطاقم تمثيل من مصر وجنسيات عربية أخرى وإنتاج إماراتي، يطل مسلسل “ممالك النار” للمؤلف المصري محمد سليمان عبد المالك.

يستعرض فترة صعود الدولة العثمانية ونهاية حكم السلاطين المماليك لمصر والشام. ويبرز ملامح صعود نجم السلطان العثماني سليم الأول، غازي مصر 923هـ / 1517م، ومقابله السلطان المملوكي الأشرف طومان باي، الذي خلف السلطان الأشرف قانصوه الغوري.

الطرف الآخر التقط الإشارة. بدأ الصياح والتذمر ينتشر عبر الكتابات والمحطات التليفزيونية ومواقع الإنترنت.. يزعمون أن العمل “لا يمثل الوجه الصحيح للتاريخ”!
للمصادفة، التأفف يتزامن مع تصعيدات سياسية تركية متعجرفة بمنطقة المتوسط، تصاحبها صياحات موازية محلية داعمة تدعي المظلومية وسوء التقدير لموقفهم – كما هو معتاد – وكأنهم يصرون على محاكاة التاريخ بشاهد موثق من كذب معاصر!

ما أنتجه عرض “ممالك النار” من قدح ذهني وتناثر معلوماتي يكشف حقيقة الصراع حول وضع مصر، وتغيير مسار المنطقة لقرابة أربعمائة عام، تولدت عنه مناقشات وجدالات حول إثبات من الأحق بعرش مصر تاريخيًا، ومن أعطاها وأهلها من الخير والأمن والرفاه، ومن جعلها ترتد وتتخلف.. بل وماذا لو استمرت مصر تحت حكم هؤلاء أو أولئك؟! وما يترتب على تلك الأطروحات من أحلام وأوهام يتعلق بها بعض خلف السلف العثماني وأتباعهم!

لكن، يبقى هناك خلل قائم متمثل في عدم حسم أمر الهوية بما يردع كل مشكك أو طامع ويزجره تمامًا عن مجرد التفكير في الأمر.

ماذا يمكن أن يسبب هذا الخلل بشأن حسم أمر الهوية؟ وهل بحثها مجرد رفاهية يمكن الاستغناء عن التفكير فيها أو التعاطي الفكري والفني معها؟!

التذبذب في تحديد موقف صريح وحازم من مشهد كهذا يجعلك تقطع سنوات ذهابًا وجيئة في محلك، حتى تفاجأ بأن آخر يسعى نحوك. اقترب منك ويرغب في ابتلاعك، ومحو تفاصيلك، وسرقة خصوصيتها التي اعتدتها!

مؤلف ممالك النار يكتب في دقائق: ٥ أساطير قتلها المسلسل | محمد سليمان عبد المالك

سقوط الخلافة

منذ قرابة 10 أعوام، في 2010 تحديدًا، أُنتج مسلسل بعنوان “سقوط الخلافة”، بصناعة فنية مصرية للكاتب يسري الجندي وطاقم تمثيل أغلبه مصري ومشاركة عربية، ومخرج أردني. تكلف وقتها 25 مليون جنيه (قرابة 4 ملايين دولار بتكلفة هذا التوقيت).

المسلسل أبرز صورة ناصعة لفترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني، داعمًا موقف السلطان العثماني ودولته. أُنتج بمزيج من النوايا الحسنة والفقر الفكري، فخرج من مصر لتلميع سلطان عثماني!

لم يكن المثقفون حينها يقرأون المشهد جيدًا، وإن قرأوه لا يصرحون، وإن صرحوا لمّحوا! وكثيرون منهم صرفتهم خصومتهم السياسية مع النظام – أو تأففهم من الوضع الداخلي – عن رؤية المشهد بشكل أشمل وأفضل.
بعضهم وقع في الفخ التركي، الذي كان يروج لنفسه إعلاميًا كمزيج من البريق الأوروبي بنكهة إسلامية في زخرف ديموقراطي يأتي من بلاد الخضرة والبَرَد..
ما غازل نفوسًا كثيرة بالداخل، وساهم في الدعاية والترويج للفصيل المترقب لانتزاع الهوية الكلية لصالحه.

ومن حالنا أن مؤلف العمل صرح حينها أن المسلسل لا يرتبط بتصاعد الدور التركي في المنطقة، وأن فكرة العمل صاحبها المنتج بالأساس!  فمن المنتج؟!

المنتج هنا هاشم السيد، مالك شركة إيكوميديا، وهو شخصية ثقافية قطرية لامعة، متعدد النشاطات والتوجهات بين الكتابة والأدب والاقتصاد وإدارة الشركات.. ومن كتبه كتابه “أحبوا بنى تميم” وهي عبارة منسوبة لحديث نبوي. الكتاب يتناول سيرة قبيلة بنى تميم بالجزيرة العربية، والتي تنتسب إليها الأسرة الحاكمة القطرية حاليًا!
درءًا للحساسيات، تحدث الجندي حينها وكأن تركيا بعيدة عن قطر حينئذ.. الآن بعد 10 سنوات، الجيش التركي يرعى في شوارع الدوحة!

كانت خطوة أعدائنا سابقة.. يتحينون الهجوم.. يقدمون السبت.. يجعلونك توقع على اعتراف يحتاجونه مستقبلًا. بينما نحن!! نقدم أفكارًا تجاوزها الزمن.. نشتري بضاعة راكدة وندفع أثمانها من قيمة حياتنا.

هنا يمكن أن نربت على كتفكم إشادةً. التليفزيون القطرى يعلن شراء حق العرض الحصري لمسلسل “سقوط الخلافة”، وتركيا تدبلج المسلسل بالتركية، وتعرضه على شاشة قناة ATV بكل رضا!
حسنا. أنتم أناس طيبون!

إنفوجرافيك تفاعلي| أنت والعثمانيون والحرب العالمية الأولى .. تاريخك في دقائق

سنوات الهوية الضائعة

فيم كنا نفكر حينها؟! لا شيء. أفكار هلامية، وحنين زائف لوحدة مع من أسال دمائنا من قبل ويسيلها الآن!

نتصرف بالنوايا الطيبة، وبأوهام وحدة خيالية لم تتحقق من قبل ولن تتحقق.. نظن أن البعض لكونه يعتنق ذات ديننا فبالضرورة يحمل لنا خيرًا. قدمنا لهم هدايا رسخت أقدامهم بعض الشيء في مرحلة يبنون فيها – من تراكم التفاصيل – أحلامًا كبيرة بحجم أطماعهم.

التخبط في حسم أمر الهوية أضاع علينا 10 سنوات من عمر هذا الصراع سدى، قبل أن نعود لنعلن أن ثمة مسارًا كان خاطئًا، وأن علينا السير في الاتجاه المعاكس الذي سنبدأ محاولة كشف طبيعته.

بعد 10 سنوات، في 2019 نحاول أن نضع أقدامنا في مكانها الصحيح، ونجاريهم في مجال لا يمكن أن يترك حرًا لمن يناصبوننا العداء، يروجون عبره الأكاذيب بشأن التاريخ والحاضر!

الطرف الآخر بدوره لم يهدأ. لم يتوقف خلال السنوات العشر نفسها عن صناعة أعمال موجهة ترسم صورة ناصعة عن تاريخه المشوش المليء بالأوهام والنقائص. تاريخ قام على أكتاف الرعاة والمغمورين، فصنعوا منهم أساطير لامعة قدموها للمراهقين باعتبارهم أبطالًا وقديسين.

معلومة سيخفيها عنك الإخوان العثمانيون: مصر تدفع الجزية لتركيا عام ١٩٥٤. لماذا؟ | س/ج في دقائق

ولن يرضوا عنك حتى تتبع ملتهم

عودة للهويات والثقافات، فالتصعيد المعاصر (2011 – 2019) لا ينفلت من بين أيدينا دون أن ينبهنا إلى وجوب ألا نأمن مطلقًا لمن قامت هويته على ابتلاع بقية الثقافات، محوها أو تحقيرها، أو من كانت هويته عابرة للحدود لا تلتزم بحدود وطنه وأمنه الخاص، أو غير الناظر لتاريخه بعين الاعتبار، أو المحتقر لجذور وطنه، أو كان انتماؤه الأعلى متماسًا مع أعداء تاريخيين أو معاصرين لبلادنا.

وقد عبر عنهم أعداؤنا العثمانيون الجدد – صراحة دون خجل – بتعبير “العناصر المحلية الداعمة”. هؤلاء بدورهم تمتلئ صفحات الإنترنت بكتاباتهم التي تحمل حقيقة توجههم وعداوتهم دون خجل أو مورابة! هوياتهم منفصلة. حين الضعف يمارسون تقية وخداعًا باعتبارهم جزءًا من تنوع زخرفي فسيفسائي، وحين البأس ينقلبون إلى العداوة الصريحة الغاشمة.

لا يغرنك مديح بعضهم الزائف لاسم “مصر”؛ فهي برؤيتهم دار سكن لا وطن.. مجرد قطعة جغرافية يمكن احتواؤها.. مِصرًا من الأمصار بحسب المصطلحات العربية القديمة للبلاد المغزوة. أما أن تكون مصر فقط؛ صاحبة البدء والوحدة والتفرد والتميز والاستقلال، فهنا تلاحقك الوصمات والسباب والشائعات من كل ناحية.. ولعل المتابع الحصيف وبملاحظة بسيطة يستطيع أن يرصد حوله كل هذا يوميًا بشكل كثيف لا يمكن تجاهله.
أما هؤلاء فلن يرضوا عنك مطلقًا، إلا إذا ما كنت واقعًا بين نيوبهم.. وتبقى مصر.


الحرب الدائرة على أرضنا ولا نراها | خالد البري | رواية صحفية في دقائق

قراءة الطالع في خطوتين – الإخوان العثمانيين والساموراي | خالد البري | رواية صحفية في دقائق

كيف دخل إلى هناك وكيف خرج إلى هنا.. جمال خاشقجي المفقود في الترجمة


رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك