نصارى جزيرة العرب | هل تأثر النبي محمد بالمسيحية النسطورية؟ | حيدر راشد | دقائق.نت

نصارى جزيرة العرب | هل تأثر النبي محمد بالمسيحية النسطورية؟ | حيدر راشد | دقائق.نت

2 Jul 2018
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

يسود تاريخ المسيحية في جزيرة العرب جو من الغموض وندرة المعلومات، ربما لأنها كانت بعيدة عن الكنائس الكبرى في الشرق الأوسط (كالكرسي الأنطاكي والكرسي البابلي)، أو لأن المؤرخين المسلمين لم يعنوا كثيرا بتدوين ما أصبح الآن تاريخ «أمة قد خلت». لكن هذه الندرة كثيرا ما كانت دافعا قويا للباحثين نحو الربط بين الشتات المتناثر، محاولين ملء الفراغات بما يدلهم إليه الواقع أو يسعفهم به الحدس التخصصي.

وقد طُلب مني مؤخرا أن أجيب على سؤال: «هل كان المسيحيون العرب نساطرة، خاصة في الحجاز؟» بناءً على تفصيل أثير في إحدى المناظرات حول حياة النبي محمد قبل البعثة. لكن الإجابة عليه تحتاج لتمهيد مقدمات ضرورية.

نصارى، نساطرة، إبيونيون؟

يتفق المسلمون مع اليهود على استخدام كلمة «نصارى» لوصف المسيحيين، لكن اليهود يستخدمونها للتنصل من الاعتراف بأن يسوع هو المسيح (حتى في العبرية الحديثة، فيقولون «نوصريم»)، ولكن ماذا عن القرآن – الذي يتقبل عيسى بن مريم كنبي ومسيح لليهود، إضافة إلى كونه «مصدّقا لما بين يديه» من التوراة والإنجيل؟

النصارى – حسبما توصل إليه نبيل فياض في كتاب بالاسم ذاته – كانوا يهودا ملتزمين بأركان الشريعة، لكنهم قبلوا بالنظرة الرسمية إلى طبيعة المسيح ككل. فقد آمنوا بأن يسوع هو ابن الله، المولود من العذراء والروح القدس. وقبلوا برسائل بولس. وهكذا، فقد كانوا لاهوتياً على علاقة قوية بالمسيحيين من الأمم (رغم أن بولس الرسول بشّر بأن صلب المسيح قد خلّص جميع البشر من أثقال الشريعة اليهودية).

يشاركهم في التمسك بأحكام التوراة طائفة أخرى تعرف بالإبيونيين (أي الفقراء)، كانت تراعي كل وصايا التوراة، تمارس الختان وتحافظ على السبت والأعياد. كانوا يتبعون الشكل الفريسي لليهودية (الذي نما التلمود في وسطه لاحقا)؛ وكانوا يقبلون بالعهد القديم كتابا مقدسا. وكانت قبلتهم في الصلاة جبل الهيكل كاليهود تماما. كما كانت لغتهم هي الآرامية بالحرف العبري.

لكنهم في المقابل، رفضوا بولس ورسائله، معتبرين إياه آثماً أبعد المسيحية عن اليهودية. أما يسوع فاعتبروه نبياً ومسيحاً أيضاً؛ لكنهم لم يقبلوا بألوهيته ولا بولادته من عذراء، ولكن لأنه كان إنساناً التزم بكل تفاصيل وصايا التوراة، فقد استحق أن يصبح المسيح – وهو إنجاز كان مستحيلاً نظرياً على أي إنسان.

وأخيراً، فقد كان لديهم «إنجيلهم» الخاص بهم – وهو نسخة «عبرية» من إنجيل متى.

أما النساطرة فلهم شأن مختلف جدا: فهم يؤمنون بقانون الإيمان الذي أجمع عليه الأساقفة في مجمع نيقية، لكنهم فارقوا سائر الطوائف لرفضهم القول بأن مريم العذراء «والدة الإله»، ولاعتقادهم بأن للمسيح طبيعتين منفصلتين: يسوع الإنسان والأقنوم الابن، لم تتحدا أبداً.

ولا يمثلهم اليوم إلا كنيسة المشرق ذات الجذور العميقة في العراق، مع فرع بعيد في الهند.

ومن نافلة القول إن الفرق الثلاث كانت تاريخيا تعد من أصناف الهراطقة في نظر الكنائس الكبرى: كالكاثوليك المؤمنين باتحاد الطبيعتين في ذات واحدة، والأرثوذكس المؤمنين باتحادهما دون امتزاج أو تغير.

انتشار المسيحية في جزيرة العرب

يقدم لنا الأب لويس شيخو في كتابه القيم «النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية» صورة فاحصة لانتشار المسيحية في مناطق انتشار القبائل العربية في الهلال الخصيب وما دونه:

لم يتأخر تبشير القبائل العربية كثيرا عن تحول أغلب السريان إلى المسيحية، وكثيرا ما عملت الكنائس المبكرة على تعيين أساقفة ورهبان وإرسالهم لخدمة تلك القبائل وملازمتها، لدرجة تكونت معها ظاهرة «أساقفة أهل الخيام» الذين شارك بعضهم في المجامع الكنسية المحلية.

وحيث كان العرب يقطنون في الصحراء والهوامش الحضرية، فإن المذاهب التي كانت تنشر بينهم بانتظام إنما هي مذاهب الممالك الكبرى التي تجاورهم – ولهذا تحولت أياد وعبد القيس إلى النسطورية (لسكنهم في منطقة «البحرين»، أي الساحل الغربي للخليج العربي، ضمن مساحة كرسي طيسفون، المدائن الحالية)، وكذلك فعلت بكر وتغلب (التي كانت تسكن بادية الجزيرة، بين العراق والشام)، وتحولت تنوخ وقضاعة إلى اليعقوبية (لسكنهم جنوب الشام، ضمن مساحة الكرسي الأنطاكي، ومنهم ظهر الضجاعمة ملوك الأردن، والغساسنة ملوك بُصرى).

ولكن نظرا لتناثر السكان في نجد والربع الخالي، وصعوبة اقتحام الجيوش المنظمة لهذه المناطق، فكثيرا ما اعتصم الرهبان اللاجئون إلى هناك ببناء الصوامع، وكسبوا مودة العرب بمداواة مرضاهم واستضافتهم لو انقطعت بهم الطرق، خاصة وأن العرب لم يكنّوا عقيدة مسيحية مختلفة كي يضطهدوهم بوصفهم «هراطقة». وهذا مما يقوي فرضية أن المسيحية العربية كانت أشد تنوعا من العقائد الرسمية، التي ستتضح فيما يلي.

ما هي المسيحية التي عرفها القرآن؟

بالنظر لتاريخ الفرق المسيحية، يبدو الموقف القرآني من شخص المسيح وتعاليمه مركبا من عدة مكونات: فهو ينفي ألوهيته (تماما كالإبيونيين) لكنه يخصه بلقب «روح الله وكلمة منه» (الذي يذكّر ببداية إنجيل لوقا ويوحنا)، يؤكد على بشريته هو ووالدته («كانا يأكلان الطعام»، بنحو قد يوحي للبعض بـ تأثير نسطوري) لكنه ينسب إليه تصرفا استثنائيا في الخلق (حيث لم يكتف بذكر شفائه للأكمه والأبرص، بل أقر خلقه للطير من الطين كما في أناجيل غير رسمية)، وينفي صلبه قائلا بالشبه (تماما كالذوقانيين) لكنه يؤكد قيامته ورفعه إلى السماء (وهي عقيدة إنجيلية صريحة).

وبالنظر إلى شهادة القديس إبيفانيوس بأن «جزيرة العرب مرتع الهرطقات»، واتهام المكيين النبي بالتردد على بعض المسيحيين (كما في آية «لسان الذي يلحدون إليه أعجمي»)، إضافة إلى تردد الرسول المستمر على أسواق العرب (وهو ما شهد به القرآن أيضا: «ويمشي في الأسواق») وتصريحه بإعجابه بشعر قس بن ساعدة وأمية بن أبي الصلت (وكلاهما مسيحي)، يصح لنا القول بأن منطقة الحجاز كانت مسرحا للكثير من التأثيرات المسيحية (قانونية كانت أو مهرطقة)، لدرجة أثرت معها في الثقافة العربية وصولا لحياة النبي، وتجلى ذلك في المجادلات التي دارت بينه وبين معاصريه المسيحيين، وأشهرها مباهلته مع أساقفة نجران التي انتهت بنزولهم على الجزية. لكن القول بأن ثقافة النبي عن المسيحية كانت نسطورية محضة أمر لا يخلو من الارتجال والتقحّم.

ولو شئنا الإيجاز في وصف الصورة القرآنية عن المسيحية لقلنا إنها تصحيح إبيوني للنصرانية، يخلّصها من مظاهر «الشرك»، حيث يحتفظ لإله التوراة بتوحيده الخالص، لكنه لا يسلب المسيح شيئا من كرامته الفائقة. أما السجال اللاهوتي الذي كان يميز النسطورية (في وجه الملكانية واليعقوبية) فالقرآن يخلو منه تماما، نظرا لرفضه التام للتثليث وتكفير من يصرّ على اعتقاده.

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك