شكوك مصرية: هل كان رفعت الجمال عميلًا مزدوجًا؟ | مينا منير

شكوك مصرية: هل كان رفعت الجمال عميلًا مزدوجًا؟ | مينا منير

10 Mar 2019
مينا منير دقائق

مينا منير

باحث بجامعة لوزان - سويسرا

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

في مقالين سابقين، تعرضنا لرواية يوسي ميلمان التي ترى أن الجاسوس المصري رفعت الجمال (رأفت الهجان) كان عميلًا مزدوجًا بولاءٍ لإسرائيل، بينما مالت رواية مصرية أخرى لوصفه كبطل.


حقيقة رأفت الهجان بين التاريخ والسياسة: ١- الرواية الإسرائيلية

رأفت الهجان بين الحقيقة والخيال: ٢- ملف المخابرات المصرية الذي أبكى صالح مرسي| دقائق.نت


لكن بعض المراسلات التي وصلتني من قراء أعزاء أشارت إلى كون رواية العميل المزدوج المشكوك في ولائه لم تكن حصرًا على مصادر إسرائيلية، وإنما كان لها صدى في مصر أيضًا، بل ومن خلال شخصيات مهمة، بعضها كان على رأس جهاز المخابرات المصرية.

ليس الغرض من المقال الدفاع عن رفعت الجمال من عدمه، وإنما سيكون فرصة لطرح المزيد من المعلومات التي تُنشر لأول مرة على القارئ العربي، بالإضافة إلى مناقشة دور التفاعلات السياسية في تشكيل التصريحات التاريخية كالتي تعرضت للعميل رفعت الجمال.

شكوك مصرية

أكثر تلك الشكوك راديكاليةً ما طرحه الكاتب الشهير محمد حسنين هيكل بأن مصر قبل حرب 67 لم يكن لديها جاسوس مصري واحد في إسرائيل، وأنه لم يكن هناك جواسيس “إلا في المسلسلات” في إشارة واضحة لمسلسل رأفت الهجان.

فلما اعترض عليه البعض، قال إنه اعتمد في تصريحاته على تقرير مدير المخابرات الحربية آنذاك، الفريق أول محمد صادق، والذي رفعه إلى لجنة التحقيق في كارثة حرب 67، وفيه قال نصاً إن مصر لم يكن لها عميل واحد “ذو قيمة” خلف خطوط العدو.

مكانش عندنا عملاء أبدًا إلا في المسرحيات والمسلسلات

لا يتضح من كلام هيكل إن كان ينكر وجود عملاء في المطلق أو عملاء ذوي قيمة، لكن في كل الأحوال هناك من الأدلية التاريخية ما يجعل نشاط التجسس المصري في إسرائيل آنذاك حقيقة (Established fact) وقد عرضنا منه في مقالاتنا السابقة ما تيسر.

اضحك صورة ديمونة تطلع حلوة.. ألغاز “الجاسوس الكامل” كيبورك يعقوبيان

سقوط الجاسوس إيلي كوهين.. أدلة جديدة تؤيد الرواية المصرية

أما بخصوص القيمة فيجب أن نفهم في أي سياق أتى حديث هيكل: كان السياق هو دفاعه عن جودة الخطة “قاهر” التي وضعتها القيادة العسكرية المتمثلة في عبد الحكيم عامر، والتي كان ينوي تنفيذها لغزو إسرائيل.

يقول هيكل إن النكسة لم تكن لفشل الخطة، وإنما لغياب المعلومات عن نية إسرائيل تنفيذ الضربة العسكرية التي تمت في الخامس من يونيو/ حزيران؛ أي أنها كانت مفاجأة.

الحقائق في مواجهة هيكل

هناك حقيقة غير قابلة للجدال، وهي اعتراف جمال عبد الناصر نفسه بعلمه بزمن الضربة وطبيعتها (تبدأ بضربة جوية).

لن أقتبس من شهادات أو مذكرات، وإنما محاضر لجنة التحقيق والتي حضرها جمال عبد الناصر نفسه ونُشرت منذ وقت قريب، وفيها يذكر ناصر معرفته بالمسألة، ويطرحها على قادة القوات الجوية الفريق صدقي محمود في قاعدة بلبيس الجوية يوم 2 يونيو/ حزيران 1967.

إليك كلماته:

جه بعد كده صدقى محمود وفوزى وشمس وصادق، وابتدأ القاضى يتكلم، قلت له: قبل ما تتكلم بدى أقول لكم رأيى: حرب 100٪ قايمة، واليهود حيهاجموا يوم الاثنين، وإن الضربة الأولى على الطيران، فصدقى لما قلت إيده عملت كده، وقال: but this will cripple us!”

ثم ينفعل عليه قائد القوات الجوية فيزجره ناصر، ويذكره بأن مصر إذا تلقت الضربة الأولى من إسرائيل فستستطيع الرد، أما إذا بادرت بالقتال فستواجه أمريكا، وهو الأمر الذي لا يسعنا فعله. أي أن الأمر كان مكشوفاً بتفاصيله تمامًا.

في شهادة شمس بدران، وقد كان حاضرًا الاجتماع المذكور،  يُذكر أن اللواء إسماعيل لبيب، أحد قادة القوات الجوية قد تلقى أمراً مباشراً من عبد الناصر أن يسجل أعمال ذلك اللقاء ويسلم هيكل نسخة منها، أي أنه كان على علم بذلك، ولا عذر له.

حينما تجد المعلومة الأساسية التي يحاول الشخص أن يثبتها (عنصر المفاجأة) غير حقيقية بالأساس، فبالتالي تصبح تصريحاته (مثل عدم وجود جواسيس مصريين) التي تخدم تلك المعلومة غير الحقيقية أيضًا غير حقيقية، قام باستخدامها لالتماس العذر أو شرح طبيعة الهزيمة الساحقة التي مني بها نظامه السياسي الذي كان هو منظّره الأول.

أما تقرير الفريق محمد صادق فهو تقرير مدير المخابرات الحربية، وهو جهاز لا علاقة له من قريب أو بعيد بجهاز المخابرات العامة.

يعمل جهاز المخابرات الحربية في جميع دول العالم على مستويين: العمق التعبوي والعمق الإستراتيجي. في الحالة المصرية أثناء الحرب، كان العمق التعبوي داخل الحدود المصرية، بينما الإستراتيجي “خلف خطوط العدو” وتحديدًا شبه جزيرة سيناء.

أما المخابرات العامة فتعمل في ما يُسمى اصطلاحًا منطقة الهدف، وبسؤال أهل الاختصاص، فهمت أن منطقة الهدف حينها كانت كل العمق الإسرائيلي، وهي المساحة التي كان يعمل فيها رفعت الجمال.

لا شأن ولا معرفة لجهاز مخابرات بأدوات التشغيل والخدمة السرية للجهاز الآخر. فقط يجري التنسيق على مستوى المعلومات النهائية.

وسواء كان الفريق صادق يقصد في تقريره نشاط المخابرات الحربية فقط أم لا، فلم يكن له أن يطلع أصلًا على عملاء جهاز الخدمة السرية في المخابرات العامة (irrelevant).

أمين هويدي

هنا ننتقل إلى شهادة أهم، وهي شهادة الفريق أمين هويدي الذي شغل منصب مدير جهاز المخابرات العامة المصرية بعد هزيمة 1967 وحتى منتصف العام 1970. إليك الاقتباس الكامل لما قاله السيد أمين هويدي:

Figure 1 أمين هويدي، الفرص الضائعة، ص 137

مبدئيًا، لم يكن السيد أمين هويدي على رأس الجهاز أثناء وصول المعلومة، وإنما جاء بعد النكسة. وقد كُلف مع السيد محمد نسيم بإدارة ملفي التحقيق وتصحيح مسار الجهاز فيما يعرف إعلاميًا بقضية “انحرافات جهاز المخابرات”.

لا تختلف نقطة انطلاق أمين هويدي عن هيكل: لم يحصل الجهاز على معلومة موثقة بخصوص الحرب، الأمر الذي رددنا عليه بشهادة جمال عبد الناصر نفسه.
لكن من المهم هنا أن نضيف حقيقة أن السيد صلاح نصر، الذي كان على رأس الجهاز حينها، أبلغ القيادة السياسية بتلك المعلومة، التي وصلت بالمناسبة أيضًا من دوائر دبلوماسية كثيرة، في مذكراته.

المنطق يقول إنه في ضوء الأدلة التي قدمتها محاضر التحقيق، وفي ضوء حقيقة أن السيد صلاح نصر كان على رأس الجهاز حينها، وليس هويدي، وفي ضوء ما يُسمى في التحقق التاريخي بالـ Principle of embarrassment، أي الشهادة بمعلومات تضر بمصلحة صاحبها، فإن المؤرخ المحايد سيميل بطبيعة الحال لرجاحة شهادة نصر.

اما اعتبار أن رفعت الجمال شخص ليس بالكفاءة المطلوبة، وأن ولاءه محل شكوك، فهو أمر يستلزم عرض بعض النقاط المنهجية في طريقة عمل جهاز المخابرات ستوضح أن كلمات هويدي غير دقيقة.

آلية أي جهاز مخابرات تنطلق من المبدأ القائل: المعرفة بقدر الحاجة. هذا يعني أن الشخص لا يعرف إلا المعلومات النهائية التي تهمه، أما كيفية إدارة مصدرها وماهيته فهي لا تعنيه وبالتالي لا يعرفها.

ليس كل من في جهاز المخابرات يعرف كل ما يحدث فيه من عمليات، وبالتالي تمت هيكلة أجهزة المخابرات في العالم، وليس مصر فقط، على هيئة قنوات دقيقة تمر منها المعلومات، ولا تتقاطع إلا إذا دعت الحاجة عند نقطة معينة.

في حالة رفعت الجمال يكون الأمر كالآتي:

يقع رفعت الجمال أو أي مندوب (الاصطلاح التقني لكلمة جاسوس) في قاعدة جهاز الخدمة السرية داخل المخابرات. يتولاه الشخص الذي يعرف عنه كل صغيرة وكبيرة ويديره وهو ضابط التشغيل (Operator)، وإن كان ضابط التشغيل متفرغًا تمامًا للمندوب (وهي حالات نادرة كحالة أشرف مروان مع الموساد) فإنه يُسمى بالـ (Handler).

أشرف مروان من الزاوية الأخرى: كتاب إسرائيليون يؤكدون أنه خدع إسرائيل خدعة كبرى

أشرف مروان: الحكاية الإسرائيلية الكاملة وتناقضاتها في كتاب الملاك

في حالة رفعت الجمال كان ضابط التشغيل الذي يعرف عنه كل دقيقة هو السيد محمد نسيم.

وينقل ضابط التشغيل ما تصله من معلومات عند أخطر وأدق وظيفة في كل أجهزة المخابرات وهي وظيفة ضابط المعلومة (Intelligence/information officer).

قيل في أدبيات المخابرات الأمريكية إن ضابط المعلومة يزن مثقاله ذهبًا، بينما عند الموساد هناك نكتة شائعة يرددونها بينهم وهي: “جميع ضباط المخابرات سيدخلون الجحيم إلا واحدًا، هو ضابط المعلومة؛ لأن السماء ستحتاجه في تقييم كل ما ومن يأتيها”.

ضابط المعلومة هو من تأتيه كل المعلومات التي تصب عنده من الأجهزة المختلفة، بما في ذلك جهاز الخدمة السرية، فيقوم بمقارنتها معًا، ومقارنتها مع قاعدة البيانات التراكمية التي لديه (وحده في كثير من الحالات) ثم يقوم بتقييم مصدر المعلومة والمعلومة نفسها، فإن كانت مهمة يحكم برفعها لقيادات الجهاز، ليتخذ الإجراءات المختلفة بناءً عليها.

وبالعكس: هو أيضًا من تصله طلبات من القيادات العليا بمعرفة معلومات معينة، فيقوم هو بتوزيع الطلبات للأجهزة المختلفة، بما في ذلك جهاز الخدمة السرية ومندوبيه.

وبالتالي، يكون ضابط المعلومة هو الذي يملك كل المعلومات المتاحة، وهو الذي يقرر ما هو حقيقي من عدمه، وهو الذي يقيم أداء مصدر المعلومة.
لك أن تتخيل خطورة هذا الشخص؛ لأنه يملك كل خيوط الجهاز ولديه الـ heavy information traffic، ومن هو أعلى منه ليس لديه معلومات إلا ما يتيحه هو، والمعلومة هنا لا تحتوي على كيفية ومصدر من حصل عليها.

ضابط المعلومة مع رفعت الجمال

ضابط المعلومة في تلك الفترة كان اللواء محمد رشاد، والذي قال لي في حديث هاتفي إن تقييم رفعت الجمال كان أ-1، وقد كان اللواء رشاد هو الأقدر على الحكم في شأن الجمال؛ كونه ضابط المعلومة حينها. أما قادة الأجهزة فلم يكن لديهم الصلاحية للاطلاع على ما يعرفه ضابط التشغيل إلا بقدر ما يسمح به ضابط المعلومة.

أما بالنسبة لمسألة أن رفعت الجمال كان مشكوكًا في أمره، فلم يكن هذا الأمر غريبًا.

إن الصورة الدرامية التي رأيناها في مسلسل رأفت الهجان مثلاً، أو حتى مسلسلات أخرى كجمعة الشوان، والتي يظهر فيها ضابط التشغيل رقيقًا ولطيفًا في التعامل مع المندوب، ويتبادلان الشعارات الوطنية التي تُؤثر في المندوب وتُبكيه، كل هذا غير حقيقي.

الأصل في التعامل في هذا المجال هو الاحتراف، وفيه يكون جميع المندوبين والعملاء تحت ضغط التحقيقات المستمرة.

السبب في ذلك أن الجاسوس يعمل دون تحكم مستمر من ضابط التشغيل ودون مراقبة، وحينما يسقط وينكشف أمره يتحول إلى عميل مزدوج، وقد يعود ويوحي لمشغليه أن الأمور على ما يرام، ويبدأ في تضليلهم بمعلومات أملاه إياها العدو، ويمكن ببساطة أن يغير ولاءه، أو حتى يتلاعب بالجهازين. الطرف الأقوى هنا يكون العميل.

في هذا الصدد، قيل لي إن الممارسة الطبيعية في المخابرات المصرية في تلك الفترة كانت إجراء تحقيق وفحص للمندوب كل ستة أشهر.

بالطبع لا أظن أن الفحص يتم وجهًا لوجه دائمًا، لكن ضابط المعلومة المسؤول يعيد عملية التقييم بهذا الشكل المنتظم.

يجب ألا نتخيل علاقة رفعت الجمال بمشغله محمد نسيم كعلاقة محمود عبد العزيز بنبيل الحلفاوي، بل كانت علاقة يستخدم فيها نسيم أدوات خشنة لضمان استمرار ونشاط الجمال، كما قال الأخير في مذكراته التي اعترف فيها عن رد فعل نسيم السيئ في لقائهما الأول الذي لم يخلُ من التهديد.

رفعت جبريل

في حوارٍ له مع المصري اليوم، سئل اللواء رفعت جبريل الذي شغل منصب وكيل أول في الجهاز ورئيس هيئة الأمن القومي، عن رفعت الجمال فقال:

كرجل مخابرات، ومسؤول سابق عن مكافحة التجسس، أؤكد أن العميل لا يستمر أكثر من 4 سنوات، وبعدها يصبح عميلًا مزدوجًا للطرفين.. أو يتم استبداله

أما عن وضع الجمال قال: “ساعده الإسرائيليون كثيرًا.. وكانت له شركات واستثمارات عديدة فى أوروبا فيما بعد، والمسلسل قدمه ببريق مبالغ فيه للغاية”.

إجابة اللواء جبريل نظرية (hypothetical) لأنه ببساطة، كما يُقر، لم يتعامل مع ملفه أبدًا، وهذا لأنه ببساطة كان في قطاع مختلف تمامًا، وهو إدارة مقاومة الجاسوسية Counter Espionage، وبالتالي لم يطرح أكثر من فرضيات، وقد أوضحت في حالة السيد أمين هويدي كيف ومن يعرف عن نشاط الجمال.

الفصل الأخير من حياة الجمال

يبقى تعليق رفعت جبريل الخاص بمساعدة قدمها الإسرائيليون إلى رفعت الجمال، واستثماراته الكثيرة أمرًا مثيرًا للفضول؛ فهو الفصل الأخير من رواية الجمال التي لا يعلم عنها الكثيرون.

بحسب اللواء محمد رشاد – وحديثه يبدو لي منطقيًا – كان لاختيار المجتمع اليهودي السكندري حاضنًا لجاك بيتون المهاجر إلى اسرائيل حكمة؛ فقد كان ليهود الإسكندرية مكانة اجتماعية مميزة ساعدتهم على تسلق السلم الاجتماعي في إسرائيل سريعًا.

وبالإضافة إلى قدرات الجمال المعروفة قبل تجنيده، يصبح طبيعيًا أن نراه في معية الطبقة المميزة من المجتمع اليهودي.

كون جاك بيتون (رفعت الجمال) يهوديًا سكندريًا يجعل من المستحيل الاعتقاد أنه كان بمنأى عن بناء علاقات وطيدة بأجهزة الأمن في إسرائيل؛ إذ كان تسخير اليهود ذوي الخلفيات العربية في عمليات أمنية أمرًا شائعًا، ولدينا في إيلي كوهين وباروخ مزراحي أمثلة، فما بالك بيهودي مصري شارك في عمليات لها علاقة بالوحدة 131 التي تكلمنا عنها سابقًا.

انهض واقتل أولًا.. كتاب جديد يكشف أسرار وحدة الاغتيالات في الموساد

وبالتالي، فإن التواصل مع الشاباك والموساد، حتى بخصوص مصر، كان أمرًا متوقعًا، وبالتأكيد كانت مصر على علم بذلك، وهو الأمر الذي جعل التأكد المستمر من ولائه أمرًا طبيعيًا.

ولهذا رأينا في حالة القبض على ألكسندر يولين أن بيتون تواصل مع الموساد للإبلاغ عنه.

ألكسندر يولين.. بطل إسرائيل الذي خدم المخابرات المصرية | مينا منير | دقائق.نت

عاش الجمال كجاك بيتون أكثر من حياته كرفعت الجمال، ورضي أن يعيش تحت الساتر حتى مماته في ألمانيا، فكان من الطبيعي أن تكون له علاقات جيدة مع أوساط عالم المال والأعمال، بل وأجهزة الأمن الإسرائيلية.

هنا أود الإشارة إلى معلوماتٍ جديدة ظهرت في فصل كامل بكتاب إسرائيلي لعملاق عالم أعمال النفط في إسرائيل Zvi Alexander.

في هذه المذكرات، يفرد زفي ألكسندر فصلًا كاملًا عن شخص تعامل معه يُدعى جاك بيتون: Discoveries in Egypt and Jack Bitton, the Egyptian Master Spy.

في هذا الفصل يحكي أن بيتون ظهر في حياته في النصف الثاني من السبعينيات، وعرّف عن نفسه كيهودي من أصول مصرية، هاجر أثناء أزمة السويس سنة 1956، وكان يعمل في قطاع النفط قبل ذلك.

بسبب معارفه في مصر قبل الهجرة وبسبب هويته المصرية اليهودية، نجح بيتون في الحصول على معلومات قيّمة بخصوص حقل نفط في منطقة المليحة بالصحراء الغربية.

والآن يطلب بيتون من ألكسندر أن يساعده في إقناع أصدقاءه المستثمرين في ألمانيا في ضخ المزيد من المال من أجل الحصول على امتيازات الحقل التي تؤهله أن يخاطب شركة تنقيب غربية للبدء في التفاوض مع مصر على إجراءات استخراج النفط.

يجد زفي ألكسندر نفسه أمام رواية محكمة؛ فاكتشاف الرجل للحقل بسبب معارفه المصريين تبدو منطقية.

وبالرغم من التوصية التي جاءت ألكسندر بخصوص عدم جدوى حقل المليحة، إلا أنه يتعاون مع جاك بيتون.

للأسف يباغت السرطان بيتون الذي يتوفى في مطلع العام 1982 بعد أن أسس شركة آجيبيتكو (AGYPETCO)، ولم يجنِ المكاسب الطائلة التي كان لعقد الامتياز أن يحققها بعد أن صار حقل المليحة أهم حقل في الصحراء الغربية.

هذه الرواية تشرح لنا عدة معطيات:

الأولى أن مصر بالفعل كافأت رفعت الجمال بإعطائه حقل المليحة، الأمر الذي لم يكن ليحدث إن لم يكن قد أسدى للدولة خدماتٍ جليلة؛ فالعميل المزدوج الذي “ليس بهذه الكفاءة ومشكوك في ولائه” لا يُعطى امتياز أهم حقل بترول، بل ويُترك حرًا يعقد اتفاقات مع رجال دولة كبار في اسرائيل كزفي ألكسندر الذي كان منوطًا به إمداد إسرائيل بالبترول أثناء الحروب.

في مقالٍ لاحق على الكتاب وقبل وفاته، عبر ألكسندر عن فضوله الشديد لمعرفة من الذي وضع بيتون في طريقه، ويزعم أن الإجابة وصلته من الموساد، حيث علم أنهم عرفوه عليه.

في ضوء النقطة الأولى والثانية نفهم جيدًا أن الرجل كان له رصيد جيد عند أجهزة الأمن الإسرائيلية، لكن تم ذلك على أرض وبمعرفة مصر وبسيناريو محكم ومقنع جعل تعاون ألكسندر مقبولًا للسلطات المصرية.

في وفاته، يقول ابنه دانيال، كان هناك رجال دول من العالم أجمع وكأن بيتهم قد صار في الجنازة “جلسة أمم متحدة”، فقد كان الرجل اجتماعيًا محبوبًا يجيد دستة من اللغات ويعرف كيف يخدم ويُخدم.

هو لم يكن موظفاً تكنوقراط لكي تُحسب عليه معارفه، بل رجل أعمال مغامر ومقامر برأس ماله حتى درجة الإفلاس في بعض الأحيان، وقد عرفت المخابرات المصرية بذلك وبفضل طبيعة شخصيته هذه جندته ليصير أهم مندوب لها في التاريخ.


يود الكاتب أن يقدم جزيل الشكر لسيادة اللواء محمد رشاد، وكيل جهاز المخابرات العامة المصرية، والذي شارك في إعادة بناء الجهاز بعد النكسة، على ما قدمه من معلوماتٍ قيمة كما هو موضح في المقال.


 

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك