ابن تيمية في رواية أخرى| 7 اتهامات ظُلم فيها.. أهمها التكفير| هاني عمارة

ابن تيمية في رواية أخرى| 7 اتهامات ظُلم فيها.. أهمها التكفير| هاني عمارة

14 Jan 2020
هاني عمارة دقائق.نت

هاني عمارة

باحث في جماعات الإسلام السياسي والتراث الإسلامي

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

يروق لكثير من المثقفين والكتاب المعاصرين، خصوصًا التنويريين منهم، اختزال مشكلة التشدد الديني والتكفير واستحلال الدماء في شخص ابن تيمية، الفقيه الحنبلي الذي عاش في الشام في القرن الثامن الهجري، بصورة توحي أن منظومة الإسلام التقليدية المتوارثة كانت مثالية متسامحة وتعايشية – وفق معايير عصرنا – حتى جاء الرجل فحرف وبدل ونشر التشدد والتكفير والاستحلال.

ابن تيمية في ذاكرتي

في سن مبكرة، قرأت “الفتاوى الكبرى” الذي كتبه ابن تيمية. ساعدتني لغته السهلة مقارنة بالكتب التراثية، وأفادتني كثرة ردوده على المخالفين لمذهبه لجمع الخطوط العامة لجميع جوانب المعرفة الإسلامية في العصور الوسطى من علم كلام وتفسير وحديث وفقه وتاريخ، وإحاطة بكافة الاتجاهات والتيارات وأسماء الأعلام، ما يعني باختصار: فهرس عام فهرس عام للقضايا الجدلية الإسلامية.

وللحق، فقد زرع عندي كتاب ابن تيمية فضول المعرفة أكثر مما زرع التشدد والتعصب؛ فنقده لابن عربي الصوفي مثلًا دفعني لمحاولة معرفة المزيد عنه، كما أنني لم أشعر بتشدده إلا في مسائل التصوف.

ثم انقطعت علاقتي به، حتى تعرفت على الحركات الإسلامية في فترة لاحقة، فرأيت عندهم ابن تيمية آخر غير الذي عرفته، فهو عند الإسلاميين الحركيين مجدد ثائر على السلطة، وعند السلفيين إمام ملتزم بالقرآن والحديث ونهج السلف

خصوم ابن تيمية

كرد فعل، شاهدت الصورة الأخرى المشيطنة التي تشكلت لدى خصوم ابن تيمية. والواقع أن الصورة محل شبه إجماع بين عدة اتجاهات، مع اختلاف زاوية النظر والنقد لكل اتجاه. فمنهم:

التنويريون الحداثيون:

محل نقدهم انتماء كثير من التيارات المتشددة – لاسيما السلفية الوهابية –  إلى ابن تيمية. يكثرون الاستشهاد بفتاواه للتدليل على آرائهم المتشددة والعنصرية وغير العصرية:

الصوفيون:

بسبب تبني السلفيين لكلامه في ذم التصوف، وإنكار أفعالهم مع المسائل الشهيرة التي يتمحور حولها التصوف المعاصر، كالتوسل والاستغاثة وبناء المساجد على القبور والصلاة فيها.

الأصوليون التقليديون:

كعلماء الأزهر والهند والاتراك وشمال أفريقيا المذهبيين الملتزمين بالمذاهب الإسلامية الفقهية التقليدية ومذهب الأشعري في الاعتقاد، ومحل انتقادهم أن ابن تيمية لم يكن فقيهًا أصوليًا بالمعنى التقليدي رغم انتمائه للمذهب الحنبلي وخروجه عن الإجماع في عدد من المسائل الفقهية، ومعاداته للمذهب الاشعري في الاعتقاد، وهو المذهب الذي استقر عليه عموم أهل السنة بكافة مذاهبهم، خصوصًا في مسألة صفات الإله والتزامه بمعناها اللفظي ورفض التأويل، وهو ما يعتبر عند الأشاعرة تجسيمًا.

الشيعة:

بكافة اتجاهاتهم الحالية يكرهون ابن تيمية بسبب موقفه المتشدد من التشيع، وانتساب الوهابية له، وهم أشد التيارات الإسلامية المعاصرة عداء للتشيع، ورفضًا لفكرة التقريب، مع التهمة الشيعية التقليدية له ولعموم الوهابية بالناصبية ومعاداة أهل البيت.

ابن حنبل وما تلاه

لمعرفة السياق العام الذي ظهر فيه ابن تيمية نعود لعصر نهوض الدولة العباسية، وما شهدته من سيولة التيارات والمذاهب وتداخلها مع السلطة حين حاول العباسيون التبرؤ من ماضيهم الشيعي والبحث عن إطار جامع لكل التيارات الإسلامية في العراق والشام والحجاز، بما خلق مسمى “أهل السنة والجماعة” بالصيغة التي رفضتها كل التيارات الثورية المعارضة (الشيعة والخوارج).

نعود أيضًا لمسألة التعاطي مع النصوص والمرويات والآثار، والجدل المتعلق بالإله والحرية والقدر، وأمور ما وراء الطبيعة، والتي انقسمت إلى تيارين رئيسيين:

أصحاب الحديث:

الذين التزموا بالنصوص وظواهرها، مع ميراث الأمويين في مسائل الجبر والقدر وصورة الإله، وتقديس الحاكم وتحريم الخروج عليه، وتوقير السلف.

أهل الكلام:

من المعتزلة والجهمية، الذين رفضوا هذه النصوص، واتبعوا المنطق والفلسفة اليونانية في الإلهيات ومسائل الجبر والقدر.

السلطة تأرجحت بين التيارين ذهابًا وإيابًا. وقضية أحمد ابن حنبل الشهيرة مع المأمون والمعتصم جعلت منه بطلًا شعبيًا لتيار أصحاب الحديث، بينما برز في التيار الآخر أسماء كالعلاف وبشر المريسي والأصم والجاحظ وغيرهم.

استمر التباين حتى ظهر أبو الحسن الأشعري، الذي صاغ مشروعًا يحمل صيغة وسطية توفيقية بين المذهبين، يجمع أصول أصحاب الكلام في الإلهيات، ويقبل بنصوص أصحاب الحديث.

الصيغة حظيت بقبول أصحاب المذاهب الفقهية حتى ساد، بينما رفضه المعتزلة والفلاسفة ومالوا إلى الشيعة شيئًا فشيئًا حتى ذابوا في التشيع وانقرض الاعتزال، كما رفضته طائفة من أصحاب الحديث نسبوا إلى احمد ابن حنبل وعرفوا بـ “الحنابلة”، التزموا بالنصوص، ورفضوا التأويل وعلم الكلام.

وبرغم سيطرة الحنابلة وانتشارهم في مناطق العراق وخراسان والشام، لكنهم تراجعوا مع الوقت لصالح الأشاعرة التي تبنت مذهبهم دولة السلاجقة، حتى وصلنا للقرن السابع الهجري وقد انحسر الحنابلة في الشام وحول بيت المقدس.

عصر ابن تيمية والصحوة الحنبلية

عصر ظهور ابن تيمية كان يعج بالصراعات الداخلية والأخطار الخارجية، حين كان المماليك يسيطرون على مصر والشام والحجاز، لكنه اتسم بالتسامح والحرية النسبية بين المذاهب، بينما شجعت صراعات الأمراء الفقهاء على التسابق لإقناعهم بمذاهبهم، وكان انتصار أمير مملوكي يعني سيطرة حاشيته من الفقهاء على القضاء والتدريس.

ورغم قلة الحنابلة وانحسارهم، لكنهم استغلوا الفرصة بظهور الفقيه الحنبلي أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، وهو سليل أسرة حنبلية عريقة؛ والده شرف الدين عبد الحليم بن تيمية من فقهاء ومفتيي المذهب، وجده أبو البركات مجد الدين عبد السلام بن تيمية من أعمدة المذهب الحنبلي، ومن أصحاب الوجوه في المذهب، وقوله عمدة لدى متأخري المذهب.

ومع توسع صراعات المماليك وتهديد التتار ظهر ابن تيمية محاولًا إحياء المذهب الحنبلي بصورته الأولى التي صاغها عبد الله بن أحمد بن حنبل وأبو بكر الخلال والقطيعي وجماعة أصحاب الحديث في القرن الثالث، مستغلًا نقاط قوة المذهب، وإمكانية توظيفه لصالح السلطة للتقرب للأمراء.

أقسام التوحيد عند ابن تيمية.. مفتاح تكفير المسلمين | عبد السميع جميل


في الجزء التالي من المقال، سنفند سبعة أوهام شائعة عن ابن تيمية بين المعاصرين:

1 – ابن تيمية الثائر

في منتصف القرن العشرين، ومع بروز ظاهرة “الإسلام الماركسي”، راق لكثيرين البحث عن الفقهاء الذين اصطدموا بالسلطة كابن حزم وابن تيمية كرموز الثورة في المنظومة الإسلامية، وسارت حركات الإسلام السياسي في هذا النهج.

والواقع أن الفقه الإسلامي السني التقليدي سلطوي لا يخدم هذه الحركات كثيرًا، ولذا هم من حيث التكوين والمنطلقات أقرب للشيعة منهم إلى أهل السنة.

من يطالع فتاوى ابن تيمية وفقهه يجده فقيهًا سنيًا تقليديًا في مسألة السياسة والحكم وطاعة ولي الأمر. يتضح هذا في كتابه السياسة الشرعية.

ولما تزاوج الإسلام السياسي والسلفية الوهابية، اسُتدعى ابن تيمية في هذا السياق بمسألة “الياسق”، وهو كتاب القوانين التتارية التي تجمع بين الإسلام وشرائع أخرى، قال فيه بكفر من يعمل به، فقاست جماعات التكفير عليها القوانين الحديثة.

غير أن السياق لا يدعم كون ابن تيمية ثوريًا؛ فموقفه كان داعمًا لدولة المماليك ضد المغول، بما استدعى اعتبار كتاب قوانينهم كفرًا لمنع المسلمين من العمل به، بعدما أسلم التتار في هذا الزمن، ليفقد المماليك حجة الصدام معهم باعتبارهم كفارًا؛ فكان تكفير من يعمل بـ “الياسق” ضرورة للتشكيك في إسلامهم بما يضمن ولاء المسلمين للماليك كممثل لصحيح الإسلام.

نضيف هنا لفتة أخرى: سيد قطب لا يعرف ابن تيمية، إنما برز اسمه لدى القطبيين بعد قطب بسبب ميل الوهابية له مع حنبليته والتزامه بالنصوص دون التقليد، وشدته على الصوفية الممالئة للسلطة بنظرهم، بالإضافة للتأصيل لفكر سيد قطب في مسألة الحاكمية.

سيد قطب| قصة معالم في الطريق | عبد السميع جميل

2 – ابن تيمية التكفيري

طابع عام من “السذاجة” يغلب على حصر التكفير في شخص ابن تيمية؛ فمشكلة التكفير بنيوية لا عرضية في المنظومة الإسلامية. يكفي أن تعرف أن كل المذاهب تقريبًا مجمعة على أصل مسألة التكفير وحد الردة بتفاوتات بين طائفة وأختها.

ابن تيمية في ذلك لا يختلف كثيرًا عن فقهاء عصره من شتى المذاهب. أهم دليل على ذلك أن أهم الفقهاء من خصومه نقدوه في مسائل عقدية كلامية وفقهية، مثل الصفات والتوسل وزيارة القبور والطلاق ومخالفة الإجماع وخلافه، لكن أحدًا لم يعتبره تكفيريًا تجاوز الوسطية.

أما ما ينسب له من تكفير المتصوفة والشيعة، فليس له كلام صريح في تكفير ابن عربي أو عموم الشيعة كفرًا عينيًا، بل يصف أفعالهم واعتقاداتهم بالكفرية دون تكفير العين. تكفير المتصوفة والشيعة أصلًا كان شائعًا لدى كثير من الفقهاء. فقهاء الأحناف كانوا الأشد في تكفير الشيعة على خلاف المتوقع؛ كونه مذهبًا سلطويًا لأكثر الدول والممالك الإسلامية عبر التاريخ، والتي كانت حركات الشيعة تهدد كيانها.

أما تكفير ابن عربي فهو محل جدل إلى الآن؛ حيث يُنسب تكفيره لفقهاء سنة غير محسوبين على الحنابلة أو الوهابية، كالبقاعي الشافعي، والعلاء البخاري الحنفي، والزواوي المالكي.

أما الادعاء أنه قسم التوحيد بما يخالف المسلمين إلى توحيد ألوهية وربوبية، وأسماء وصفات، فهي عبارات عابرة في أحد كتبه لم يعول عليها كثيرًا في زمنه، ولم يخض في سبيلها معارك، ولها سلف عند متقدمي الحنابلة.

كما أنه كتقسيم اصطلاحي لا يختلف كثيرًا عن تقسيم الاشاعرة بالصفات السبع الواجبة لله، والتي يمكن التكفير أيضًا بمقتضاها.

3 – ابن تيمية المتشدد

من الأوهام كذلك تصوير ابن تيمية كفقيه متشدد في مقابل الفقه الوسطي المعتدل بسبب تشدد الوهابية والسلفية المعاصرة تبعًا له. والواقع أن هذا التصور هو الأكثر سذاجة؛ لأن معيار التشدد والتيسير هو السياق الزمني. والمطالع لفتاوى ابن تيمية لا يجد فقهًا غريبًا عن الفقه التقليدي حينها. على العكس، عُرف عنه فتاوى متساهلة مقارنة بفقه المذاهب الأربعة، والتي أنكرها عليه معاصروه، مثل إيقاع الطلاق الثلاث طلقة واحدة، وجواز طواف الحائص في الحج، وغيرها.

أما المسائل الأخرى التي تميزت بها الحركات الإسلامية فما هي إلا الفقه التقليدي بكل مذاهبه، ولو نُسبت لابن تيمية.

أكبر دليل على عدم فهم الانتساب المذهبي هو الخطأ الشائع بين المثقفين المعاصرين في اعتبار طالبان وهابية سلفية، في حين أنها حركة مذهبية تدين بالمذهب الحنفي التقليدي المنتشر في وسط آسيا، وتعادي الوهابية لخلافات قديمة.

المسائل التي تشدد فيها ابن تيمية هي المتعلقة بالتصوف المتأخر، مثل بناء القبور على المساجد، وتحريم التوسل والاستغاثة بالأموات، وله فيها سلف من مذهبه الحنبلي التقليدي المعادي للتصوف منذ زمن أحمد بن حنبل.

4 – ابن تيمية مستحل الدماء

التكفير بداعٍ أو بدون ثم استحلال الدم طرفة انتشرت مؤخرًا من خلال إحصائية غطت كتابه “مجموع الفتاوى” المطبوع بحجم 35 مجلدًا ويضم كتيرًا من كتبه وفتاواه.

وبرغم أن الإحصائيات هذه لا يعول عليها إلا من خلال المسألة نفسها ومدى شذوذه أو موافقته فيها لسياق الفقه العام، ففي الأمر مفارقتان لطيفتان.

“الأم” للشافعي، وهو أقدم كتاب فقه كامل وصل إلينا من القرن الثاني الهجري، يحمل كلمة كافر 175 مرة، ومرتد 81، وحلال الدم أو يحل دمه 19، و”إن تاب وإلا قتل” 21 مرة، “يقتل” 249، و”يستتاب” أو “استتيب 21، و”يضرب عنقه” “او ضربت عنقه” 13 مرة.

الثانية أن قول ابن تيمية بالاستتابة هو الأخف؛ إذ جعلها واجبة، فمنح المرتد فرصة للنجاة بحياته بالمراجعة صدقًا أو ادعاءً، بينما المسألة خلافية، يقول فيها الحنابلة والمالكية بالوجوب، بينما يقول الأحناف والشافعية بعدم إلزاميتها فيخضعونها لاختيار ولي الأمر، أما الظاهرية والشيعة والخوارج فيفتون بقتل المرتد فورًا دون استتابة.

محمد عبده “الكافر” الذي أسس جماعات الإسلام السياسي| عبد السميع جميل

5 – ابن تيمية الناصبي

لابن تيمية كتاب شهير في الدفاع عن مذهب أهل السنة يسمى “منهاج السنة النبوية” رد فيه على كتاب الشيعي الإمامي ابن مطهر الحلي المسمى “منهاج الكرامة”. والكتابان من أقوى ما كُتب دفاعًا عن المذهبين.

طبيعة الرد اضطرت ابن تيمية لبيان بعض أخطاء علي بن أبي طالب البشرية لنقض عقيدة العصمة لدى الشيعة، وهذا السلوك في عرف الشيعة يعتبر نصبًا وبغضًا لآل البيت.

أما معتقد ابن تيمية في مسألة الصحابة وأهل البيت فلا يختلف كثيرًا عن عموم أهل السنة، وكذلك معتقده في يزيد، بل إنه مثلًا لم يجز الترحم على يزيد كما قال الغزالي، ولم ينتقد الحسين في خروجه كما فعل ابن عربي الأندلسي وابن خلدون.

وعلى درب الشيعة سار بعض متأخري أهل السنة المعادين لابن تيمية؛ فاعتبروا فعله نصبًا، وأضافوا لها عبارات في حق عمر ابن الخطاب ظاهرها نقده، واعتبروه مبغضًا للصحابة رغم أن أهل السنة لا يقولون بعصمة الصحابة أو الخلفاء الأربعة.

6 – ابن تيمية المجسم

اعتقاد ابن تيمية في تلك المسألة لا يختلف عن متقدمي أصحاب الحديث الذين التزموا بظواهر النصوص في الوصف الحسي للإله دون تأويلها واعتبارها مجازًا. يُراجع في ذلك كتب عثمان الدارمي وابن بطة وابن خزيمة والخلال وعبد الله بن أحمد بن حنبل.

7 – ابن تيمية الخارق للإجماع

وهذه تهمة متعلقة بالفقهاء المذهبيين، ولا تعتبر ذات شأن؛ فهذه طبيعة الاجتهاد، وكثير من المسائل المنسوبة له بمفارقة الاجماع لم ينفرد بها على التحقيق، مثل إيقاع طلاق الثلاث واحدًا، أو نسبت له بالخطأ، مثل القول بفناء النار، والتحقيق أنها قول تلميذه ابن قيم الجوزية.


رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك