البوسانوفا .. ثورة البرازيل المغمورة التي شارك فيها فرانك سيناترا فكاد يهزم البيتلز | مينا منير

البوسانوفا .. ثورة البرازيل المغمورة التي شارك فيها فرانك سيناترا فكاد يهزم البيتلز | مينا منير

11 Sep 2019
مينا منير دقائق

مينا منير

باحث بجامعة لوزان - سويسرا

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

في فيلم Girl from Rio، يكتشف موظف البنك هيو لوري، الذي يعشق السامبا ويحلم بالسفر إلى البرازيل ليكسر حياته الباردة المملة، أن زوجته تخونه مع مديره.

تترك له زوجته رسالة مقتضبة مصحوبة بهدية صغيرة لعلها تهون عنه، فلما يفتحها يكتشف أنها ألبوم موسيقى البوسانوفا.

في مشهد نموذجي للكوميديا الإنجليزية، لا يغضب من اقتضاب الرسالة بقدر غضبه من كونها أعطته ألبومًا لتلك الموسيقى التي يكرهها جدًا، فيحطمه بشدة.

حين شاهدت الفيلم، لم أكن أعرف شيئًا عن البوسانوفا التي قدمها الفيلم كنقيض للسامبا. لكن المشهد دفعني للتنقيب عن تلك الموسيقى، ليفتح الأمر لي بابا ساحرًا لتاريخ رائع يستحق أن نقف عنده.

قبل فترة قصيرة، أعلنت البرازيل وفاة آخر الثلاثي الذي أسس تلك الموسيقى: جواو جلبرتو. فلماذا كانت تلك الموسيقى الساحرة أكبر من كونها كذلك؟ هذا المقال سيصحبك لحكاية البرازيل نفسها، التي تلخصها البوسانوفا.

الخروج من بستان الاشتراكية

بعد تأسيس الدستور البرازيلي 1946، جاء الرئيس دوترا بعقلية اشتراكية تجاوزت كبح القطاع الخاص إلى الفن. أعلن جمهوريةً فاضلة تُسخر فيها الأموال لاتحاداتها الاشتراكية (SESI)، وأغلق دور الموسيقى والملاهي في العاصمة.

لم يبقَ للناس إلا الموسيقى الشعبية كرمز للتقبل الاجتماعي للواقع الذي لم يغير جوهر فكرة الستعمار والعبودية، فانتشرت موسيقى السامبا (المقابل للمهرجانات حاليًا) آتيةً إلى العاصمة ريو من مدينة Bahia، أقدم موطن للعبيد الأفارقة في البرازيل.

الإمعان في الاشتراكية أنتج إمعانًا في كبح الحريات التي تُرجمت لحالة من التردي الثقافي، وصارت صورة البرازيل الرسمية هي المزارعين الفقراء الذين يتراقصون على موسيقى أفريقية جامحة.

ولأن الاشتراكية لا تختلف عما تهاجمه من سلبيات، فإن النظام الذي ورث دوترا استمر على نهجه عبر خلق طبقة حاكمة تحرك رؤوس الأموال بدلًا من القطاع الخاص، فكان المزيد من التأميم هو نصيب رجل الأعمال والمستوردين، حتى وصلت البرازيل إلى حالة تضخم اقتصادي مخيف بسبب فشل “قلاعها الصناعية” والزراعية وشركاتها الحكومية في عصر جيتوليو فارجاس الذي لم يجد بدًا من الانتحار في مكتبه تاركًا رسالةً بائسة يعزو فيها التردي الاقتصادي لما أسماه “المؤامرة الدولية”.

تشاء الأقدار أن يتحول المسار فيما سُمي الجمهورية الرابعة نحو بديل آخر جاء ككوب بارد في صحراء الاشتراكية القاحلة.

بعد انتهاء المرحلة الانتقالية إثر انتحار فارجاس، أتت انتخابات 1955 برجل صاحب رؤية مختلفة: جوزلينكو كوبيتشك الذي رأى أن البرازيل تحتاج إلى حالة جديدة تخلقها روح أكثر تحررًا على جميع الأصعدة.

بدأ كوبيتشك في فتح الأبواب للقطاع الخاص المحلي، والتفكيك التدريجي للقلاع الصناعية الاشتراكية من خلال فتح باب الشراكة أولًا مع القطاع الخاص مع إيقاف التأميم، وأخيرًا فتح الباب للاستثمار الأجنبي المباشر الذي حول البرازيل في سنوات قليلة إلى نمر اقتصادي قادم كالقطار السريع.

مع العام 1957، كان دخل الطبقة المتوسطة هو الأعلى على مقياس البرازيل في تاريخها، وتحولت الحرية والرفاهية الاقتصادية إلى روح الإيجابية، وهو ما جعل عصره معروفًا بـ Age of Optimism زمن التفاؤل، والذي تجسد في بناء العاصمة الجديدة برازيليا.

فتاة إيبانيما

وسط الحالة التي خلقها كوبيتشك، وُلدت حالة موسيقية تعكس رؤية الطبقة المتوسطة.

في أحد أيام صيف ريو، وعلى شاطئ ايبانيما، كان يجلس جواو جيلبرتو، أنتونيو جوبيم، وثالثهما  فينيسيوس دي مورايس؛ العائد من أكسفورد، الأكبر سنًا، والأكثر ثقافة، والأقل وسامةً.

النقاش دار حول كيفية التعبير عن البرازيل التي تخصهم، البرازيل الشاملة بإرث ثقافي ملون بألوان طبيعتها الغناء وتاريخها متعدد الثقافة، وليس فقط ضجيج السامبا الآتية من قطاع الفقراء الذي تاجر به دورتا وفارجاس.

هل يمكن تصدير صورة مختلفة للبرازيل الحديثة دون التخلي عن إرثها؟ خطاب يصل للعالم كاسرًا العزلة التي خلقتها هواجس المؤامرة في العهود الغابرة؟

حين أرهقهم الحديث، لاحظ جوبيم وجيلبرتو صمت موراييس المفاجئ. سألاه عن السببب، فأخبرهما أنه تلك الفتاة شديدة الجمال التي تمر من هنا على الشاطئ.. “كم أود أن تنظر لي، لكن كيف وأنا كبير السن لا أملك وسامة جوبيم”.

تبسم الأصدقاء أمام جمال الفتاة التي ستصير واحدة من أشهر فتيات البرازيل في التاريخ: Helo Pinheiro، أو فتاة شاطئ إيبانيما. قرر الثلاثة تحويل تلك الحالة لأغنية كتب كلماتها دي موراييس في حالة غزل عذري عذب، لحنها جوبيم وغناها جلبرتو.

عذوبة الأغنية نشرتها كالنار في الهشيم، معلنة ميلاد صورة البرازيل الجديدة التي أسرت قلوب وعقول الملايين حول العالم، حتى صارت ثاني أكثر الأغنيات مبيعًا طوال القرن العشرين عالميًا، بعد أغنية البيتلز Yesterday. وحين ترجمت للإنجليزية – بكلمات مختلفة وفقيرة للأسف – زار البرازيل 500 مطرب من حول العالم لغنائها، أحدهم كان فرانك سيناترا “مع جوبيم”، ولاحقًا آندي ويليامز وآمي واينهاوس وغيرهم.

فينيسيوس دي مورايس بعد شهرته يلتقي أخيرًا بفتاة شاطئ إيبانيما


استمع إلى أغنيات البوسانوفا بأصوات مطربي العالم

فرانك سيناترا

آندي ويليامز

آمي واينهاوس


موسيقى السهل الممتنع التي يسهل سماعها ويصعب عزفها صارت عنوان البرازيل المستقبلية التي جمعت في طياتها إرثها القادم من أوروبا وأفريقيا والبيئة المحلية معًا في موسيقى تغني للحكمة وخبرات الحياة البسيطة، والزهور والسعادة والحب الذي ما عاد مقيدًا كالماضي بدولة فرض الفضيلة.

أغنية “موجة” صارت صوت شواطئ ريو الحالمة، التي تسللت إلى الولايات المتحدة لتعيد كتابة منظومة موسيقية غير مشهورة لتحولها هي الأخرى لموسيقى شهيرة وعالمية بسبب مجيء أصحابها للبرازيل، وهي موسيقى الجاز.

البوسانوفا رغم كل شيء

في 1963، تحولت البرازيل بفضل تلك الموسيقى – والحالة التي خلقتها الحرية السياسية – إلى ما أسماه بعض الأمريكيين بالـ Utopian Other. ولأن النظام البائد حينها كان دائمًا يطل بوجهه القبيح من خلال ساسة رأوا فيما يحدث ثورةً على برازيليتهم الرمادية الفقيرة، أُجبر الرئيس التالي لكوبيتشك على اتخاذ قراراتٍ منها إعادة التأميم مرة أخرى، الأمر الذي لم يكن كافيًا؛ فقد نجح رجال فارجاس في اختراق المؤسسة العسكرية والانقضاض على الحكم في 1964، لينتهي الحلم الجميل بلا رجعة، وتنتهي معه البوسانوفا داخل البرازيل.

رأى النظام الأشبه بالناصري أن البوسانوفا كانت تعبيرًا صارخًا عن نظام الليبرالية الاقتصادية والاجتماعية التي قامت عليه “الثورة المباركة”. اعتقل الكثير من الموسيقيين والشعراء حتى هرب الثلاثي المذكور إلى كاليفورنيا واستمروا في الكتابة والغناء، حتى نجح جوبيم وسيناترا في عمل أنجح ألبومات الأخير مبيعًا في تاريخه Francis Albert Sinatra & Antônio Carlos Jobim، وتصدرت فيه أغنية فتاة إيبانيما السوق حينها.

اليوم على الأرجح لم يبقَ من البوسانوفا إلا الحالمين أو المستمتعين بيها، وهم ليسوا بالكثيرين مقارنةً بنهاية الخمسينيات والستينيات.

لعلك ستجدها كموسيقى في مصاعد الفنادق الراقية أكثر من المسارح والملاهي. لكنها ستظل رمزًا وتعبيرًا صادقًا عما يمكن للسياسة أن تحدثه من تغيير إيجابي.


علاء الدين بين زمنين.. ربع قرن من الصوابية السياسية | مينا منير

جريتا ثونبرج.. دليل اليسار لإنتاج جماعات الكراهية | مينا منير

بين حكايات الأخوين كيبلر وروايات سلافوي كجيجك.. من صنع بؤس العالم؟ | مينا منير


ملف بستان الاشتراكية في دقائق


 

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك