في 561م، وبعد سلسلة حروب، وقعت الإمبراطوريتان العظميان الساسانية والبيزنطية، والمعروفة في السرديات الإسلامية بالفرس والروم، معاهدة صلح، منح بموجبها ملك الفرس الحرية الدينية للمسيحيين في مملكته دون التبشير بها بين المجوس، على أن يدفع قيصر الروم جزيه كبيرة نظير ذلك.

في الواقع، كان الصلح مذلًا للروم؛ لوجود الجزية، والعجز عن توحيد المسيحيين وضمهم للمملكة، لكنهم اضطروا للهدنة بسبب تهديدات التمردات السلافية والأمازيغية والجرمانية على الأطراف الأخرى للإمبراطورية.

كانت الأدبيات اللاهوتية في تلك الفترة تتمحور حول نهاية العالم وحرب آخر الزمان “هرمجدون”، والتي كان ينتظر وقتها أن تندلع بين الفرس والروم. كان اليهود في ربوع الإمبراطورية الفارسية ينتظرون مسيحهم المنتظر الذي يغزو القدس، في حين ينتظر المسيحيون عودة المسيح.

وفي 565، توفي الإمبراطور جستنيان الأول، وتولى ابن أخيه الشاب الطموح جستين الثاني، الذي يخطط لاستعادة الحدود الشرقية لدولته المحتلة من قبل الفرس والتخلص من الجزية، وإقامة الامبراطورية المسيحية العظمى التي تحكم العالم.

الربيع المسيحي

خطط جستين عبر جواسيسه لإثارة الأقليات المسيحية داخل دولة الفرس، لتكون نقطة انطلاق شرارة الثورة ضدها في 571 .

هذا “عام مولد الرسول”.

إثر الثورة التي بدأت من أرمينيا، يعلن جستين الحرب على الفرس، ويمتنع عن دفع الجزية، لتكون بداية حرب مقدسة استمرت 20 سنة، وانتهت بهزيمة البيزنطيين، قبل أن يتجدد الأمل على يد هرقل بعد توليه السلطة عام 610، وهو للمصادفة كذلك عام بعثة النبي ونزول الوحي عليه.

هذه الملحمة ستعيد السردية الإسلامية كتاباتها في أحاديث نهاية الزمان بعد أسلمتها، فتتحدث عن الصلح مع الروم، ثم نقض الروم وبدء حرب آخر الزمان، التي تنتهي بنزول المسيح لنصرة المؤمنين “وإلغاء الجزية”، والحديث مذكور في كتب السنن.

كيف تحول باباوات الكنيسة الرومانية إلى حكام فعليين؟

لغز الربيع.. شهر الخلاص

يرتبط فصل الربيع وشهوره في الأدبيات اليهودية والمسيحية بالخلاص والنجاة؛ ففيه نجاة اليهود من جيش فرعون وعبور البحر، وفيه دخول المسيح القدس وصلبه وقيامته، وفق التصور المسيحي، وكلتا المناسبتين حدثتا عند اكتمال البدر في ليلة 14 من الشهر القمري.

تكمن رمزية اقتران القمر المكتمل الربيعي بالخلاص في كون الربيع فصل التغيير للأفضل، والبدر يعني التحقق والاكتمال.

هل تأثر النبي بالمسيحية النسطورية؟

لغز إيوان كسري

تذكر كتب السيرة أنه في يوم ميلاد الرسول في منتصف ربيع سنة 571، اهتز إيوان كسرى، فتكسرت أجزاء منه.

ولو أخذنا تعبير اهتزاز إيوان كسرى بشكل مجازي، لكان ذلك حدثًا تاريخيًا؛ ففي ذلك العام، بدأ التمرد المسيحي في أرمينيا، وما تبعه من نقضهم للصلح وامتناعهم عن الجزية. يمكن من هنا فهم اختيار العام 571 كبداية للخلاص المسيحي.

هل أثرت التواريخ المذكورة على تأريخ السيرة النبوية لاحقا؟

ابن إسحاق.. سليل مسيحيي فارس

يعتبر المؤرخ المسلم المختلف في شأنه محمد بن إسحاق، المتوفي في حدود 151 هجرية، أول من كتب السيرة. وتذكر كتب التاريخ أن أصله من مسيحيي الحيرة بالعراق، فجده يسار كان مسيحيًا من مدينة عين التمر العراقية “قرب كربلاء حاليًا”. وتذكر المصادر أن جده كان ضمن السبي المسيحي الموالي للفرس، الذي أخذه خالد بن الوليد بعد معركة عين التمر.

والمتأمل لمرويات ابن إسحاق حول ميلاد الرسول يجد تأثيرًا مسيحيانيًا أشار له المستشرقون.

بين 20 نيسان والتقاويم القمرية

هناك شبه إجماع على أن التاريخ الشمسي لـ ميلاد الرسول هو الاثنين 20 أبريل/ نيسان وفق التقويم اليولياني القديم، وهو ما يوافق 22 أبريل بالتقويم الجريجوري الحديث. (الاختلاف يأتي في حساب ذلك بالشهر العربي)

وتكمن المشكلة الأساسية في عدم معرفتنا يقينًا بطريقة حساب النسيء في التقويم العربي قبل الهجرة، وموعد إضافة الشهور لمعاجلة التقويم الشمسي، حيث تتضارب الروايات بين ثلاث وسبع و19 سنة.

الحساب الفلكي يشير إلى ميلاد القمر في 11 أو 12 أبريل، فيكون الاثنين 20 أبريل هو الثامن من الشهر العربي، بحسب الخوارزمي والفلكيين القدماء، أو التاسع بحسب الجدد مثل محمود باشا الفلكي وحجة الله الدهلوي، في حين اكتمل القمر ليلة 24 أبريل، كما لوحظ على الموقع التالي لمعرفة منازل القمر.

فأما من قال إن النبي ولد 2 ربيع الأول، فهو يوم اثنين وفق الحساب الفلكي الحديث، وهو ما يعني أنه تم حسابه فلكيًا لأول يوم اثنين لشهر الربيع، ويوافق اليوم الثاني من الشهر في التقويم الفارسي، وهو تقويم شمسي.

تايم لاين في دقائق: اليهود وبنو هاشم.. المحاكاة التاريخية من كيبور إلى عاشوراء

وأما من قال إنه 10 ربيع الأول، فقد لوحظ أن تاريخ 20 نيسان 571 يوافق العاشر من أيار العبري سنة 4331 في التقويم العبري، وهو تقويم قمري شمسي.

أما الرأي الأشهر 12 ربيع الأول، المنسوب لابن إسحاق، فقد لوحظ أن 20 نيسان 571 يوافق 12 توت سنة 1319، وفق التقويم البابلي، وهو تقويم قمري شمسي شبيه بالعبري، بما يعيدنا لما ذكرناه سابقًا من انتساب ابن إسحاق لمسيحي العرب بالحيرة، حيث تذكر بعض المصادر التاريخية أن عرب الحيرة كانوا يسيرون وفق التقويم البابلي، بما يطرح شكوكًا حول اعتماد ابن إسحاق على التقويم البابلي في تحديد يوم 12 من الشهر.

مولد الرسول عند الشيعة الإمامية

أما الرأي الغريب الذي اعتمده الشيعة الإمامية من كونه الجمعة 17 ربيع الأول، فلا يوجد ما يدعمه من الروايات المبكرة ولا من الحسابات الفلكية، إلا أن الملاحظ تشابهه مع توقيت قيامة المسيح؛ فبحسب التاريخ المسيحي، قام المسيح بعد الفصح بثلاثة أيام. والفصح ليلة اكتمال البدر في الشهر الربيعي نيسان، ويوم قيامته 17 نيسان.

فهل هناك تأثير مسيحي في اختيار اليوم لدى الشيعة، خصوصًا أن التشيع الإمامي فيه نزعة مسيحانية بارزة؟