كيف تنبأ أبوحيان التوحيدي بسلوك عبد الله الشريف. هل يعيش الإسلاميون شبابا سويا؟ | عمرو عبد الرازق

كيف تنبأ أبوحيان التوحيدي بسلوك عبد الله الشريف. هل يعيش الإسلاميون شبابا سويا؟ | عمرو عبد الرازق

5 May 2020
عمرو عبد الرازق
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

“الهوامل والشوامل” كتاب صدر قبل ألف عام.. لكنه يجيب عن سؤال معاصر، يحلل به شخصية الشاب الذي يلتزم مظهر الشيوخ. عمرو عبد الرازق يتناول القضية والكتاب في هذا المقال.

 

بهيئة وسمات كاملتين لمتدين نموذجي بالقرن الـ 21، قدم عبد الله الشريف نفسه لرواد السوشال ميديا، بتكرار ممل لخليط الشيخ السياسي، الذي ينتقد السائد انتقادًا شديدًا، مسقطًا عليه كل صفات السوء والظلم والطغيان والفساد، دون أي استثناء تقريبًا، والحامل لروشتة الإصلاح الديني المزعوم، مع إصرار على تقديم نفسه كمزيج من صاحب تقوى، وحامل خبرات متراكمة من الفهلوة والذكاء، والتقاط الفكرة الطائرة.

وعبر أجهزة معادية، التُقطت إِشارته، وأعيد تشكيل هيئته وشخصيته، بإعداد جيد وبذل مالي، فتطور الشكل والأسلوب، وارتفعت المشاهدات، وهو ما كان مطلوبًا لصنع واجهة إعلامية جديدة تجذب الشباب لمعسكرهم، وإن شاب المحتوى أطنان من الأغلاط والأكاذيب فُنِّدت مرارًا.

من سوء حظ جيلنا

لسوء حظ جيلنا، عاصرنا نشأة أمثال تلك الشخصية، وكان نموذجها مبتغى للكثير من الأسر التي تتبارك بمثل هذه السلوكيات ظنًا أنها مسار البركة، متجاهلة ما ينتظرها من سوء المسار والمصير. وما زال البعض يسعى بسذاجة لتكرار نفس المسار مع أبنائه دون النظر للعواقب، كأن ينشأ ابنه بسمت ديني ملازم له منذ صغره، يشتهر به ويستكمل حياته على أساس تلك التنشئة حتى نهايتها.

وهي تنشئة – ناهيك عن كونها تتنافى مع الطبيعة الإنسانية لطفل أو صبي مراهق – ثبت بالتجربة أنها لا تصلح لعموم الناس، وأن من يقضي حياته على مسارها سليمًا معافى دون هلاك أقلية نادرة، أصحاب خصائص لا تتوافر للجماهير.. أما الغالبية فيفقدون الاتزان ويتخبطون بين مذاهب الأفكار، أو يرغبون خوض معترك الحياة في توقيت متأخر، أو يسقطون في فخ التطرف والإرهاب، أو الفخ المعاكس من الانحلال الأخلاقي الظاهر منه والخفي!

ليست أفكارًا إنسانية.. بل محاولة لعرقلة الآخرين

الحوادث التي أفلتت من ستر السماء لا تُعد. منهم مغمورون في قرى ومناطق شعبية، ومنهم مشاهير الدعاة والسياسيين كطارق رمضان وعلي ونيس وأنور البلكيمي.. وعبد الله الشريف.

هي سلوكيات قد تكون اعتيادية لو جرت لأفراد طبيعيين لم يحتموا بدرع الفضيلة، أو يقاتلوا بسيف العفة، أما هؤلاء فاتهموا العالم أجمع بالانحلال، ولوحوا للضعيف بعصا التهذيب ونيران التطهير!

في 2012، افتضح ادعاء نائب النور أنور البلكيمي بتعرضه لاعتداء وسرقة، واتضح أنه استخدم المال لتجميل أنفه، وهو الأمر الذي روِجت الصحوة الإسلامية لسنوات بشدة حرمانيته. لكن نتيجة الكبت ظهرت مع التمكين وتوافر المال، فطفت كل الشعارات ميتة، باعتبارها كانت مرادفة للعجز وقلة الحيلة، وأنها لم تكن أفكارًا إنسانية، بل محاولة لعرقلة الآخرين!

ولشدة إنكاره الذاتي أن يكون هو ذاته من قام بهذا الفعل، قال إن ما جرى مس شيطاني لا شأن له به!

هو صادق في شدة توهمه! فقد تشربوا حتى الثمالة أنهم صفوة البشرية الذين يحملون لنا ماء السماء الطهور لتطهيرنا من نجاساتنا، بتعبير مهدي عاكف!

رد عبد الله الشريف كان أكثر عصبية، على قدر الجماهيرية والثراء وشبكة العلاقات التي حازها بوضعه الجديد، حتى صار مخلصًا بالنسبة لمتابعيه. فكانت مكابرته أشد، واختار استغلال الدين للنهاية بالكذب من أجل النجاة، مقررًا إطالة المعركة حتى يأتي الفرج؛ فالمصطفون لا تتركهم السماء.

هؤلاء نشأوا وهم يعتقدون أنهم امتداد الأنبياء، محملين نفسيًا بأعباء ليست لهم أو لغيرهم. يعتقدون باليقين في محل الشك، ويتحينون لحظات التمكين، فإذا حانت أظهر كل منهم ما كبته لسنين.

هنا تنتهي تجربة صغار الصالحين وكبرائهم بالفشل، وتتهشم تصوراتهم على عتبة الواقع. 

حقيقة الحال أن بداخل كل إنسان ما هو مكبوت وناقص. وأن الأمر كان ليمر باعتباره ضعفًا إنسانيًا أو بإطار الحريات الشخصية، ما لم يتجاوز حد التعدي والادعاء، لكنهم بالأخص لم يتوانوا في سحق أصحاب الهنّات، وربما روجوا لقتلهم رجمًا! فلم يكن ممكنًا أن تُمرر أفعالهم باعتبارها ضعفًا إنسانيًا عابرًا.. فلم يرحموا زالًا من قبل، بل أرهبوا من لم يزل!

مباراة التوحيدي ومسكويه

في القرن 4هـ/ 10م نشر الأديب والفيلسوف المسلم أبو حيان التوحيدي تساؤلاته فى كتاب أسماه “الهوامل” وهي لفظة تعنى الإبل السائمة التي تُترك لترعى بنفسها دون ضابط. وفي المسمى تشبيه لأسئلته المنطلقة دون قيود. وهي سلسلة أسئلة فلسفية ووجودية وأخلاقية تبحث عمن يستقبلها، ويقدح زناد فكره لإيجاد تلاقح فكري تنتج عنه مباراة فكرية ممتعة.

رد عليه معاصره الفارسي مسكويه بكتابه “الشوامل” وهي لفظة تعنى حيوانات الرعي التي تحاوط الإبل المنطلقة، فتجمعها وتضبطها في نسق منتظم، وكأن إجاباته قد ضبطت أسئلة التوحيدي الشاردة!

جُمع الكتابان في “الهوامل والشوامل” ليصبح مع كل مسألة للتوحيدى إجابتها لمسكويه.

وفي الكتاب مساجلات فكرية ممتعة كانت تشغل عقول النخبة، ولها تلامس مع عموم الناس جرت قبل ألف عام.

«لمَ حمقَ الشاب إذا تشايخ، وأخذ نفسه بالزماتة والمتانة، وآثر الجِد، واقشعر من الهزل، ونبا عن الخنا، وسدد طرفه في مشيه، وجمع عطفه في قعوده، وشقق في لفظه، وحدق في لحظِه؟»

معنى السؤال: لماذا يُنظر إلى الشاب اليافع باعتباره أحمقَ إذا عاش ككبار السن، وتزمت فى حياته وتعاملاته، وافتعل جدية لا تناسب عمره، ونفر من المزاح واللطائف وتجنب فحش الكلام، واستخدم العبارات الجزلة، وبالغ في إظهار استقامته؟

السؤال مدهش في طرحه، غريب في دلالاته، فمثل هذا الشاب الآن نظن أنه ممدوح الخصال، ويسرى بيننا أنه صاحب فضيلة وذو مستقبل مطمئن، وأنه صاحب هداية من السماء، فكيف يروج له منذ ألف عام باعتباره أحمقَ، في نقاش بين اثنين من كبار المفكرين حينها؟!

«السبب في ذلك أن الشاب إذا تشايخ فإنما يُظهر أن لا حركة لطبيعته نحو الشهوات، وهذه القوة والطبيعة هي في الشباب على غاية التمام والتزايد؛ لأنها في حال النشوء، ولا تزال متزايدة إلى أن تبلغ غايتها، وتقف، ثم تنتقص على رسم سائر قوى الطبيعة.
فإذا ادعى الشاب مرتبة الشيخ التي قد انحطت فيها هذه القوة علم أنه كاذب، فاسُقبِح منه الكذب والرياء في غير موضعه، ومن غير حاجة إليه.
والكذب إذا كان صُراحًا وغير خفي، وكان صاحبه يأتيه من حاجة إليه، ازداد مقت الناس له، واستدل به على رداءة جوهر النفس.
فإن اتفق لهذا الشاب أن يكون صادقًا – أعني أن تكون طبيعته ناقصة وشهوته خامدة – استدل على نقصان طبائعه، وبرئ من عيب الكذب، إلا أنه يكون مرحومًا لأجل نقص بعض طبائعه عما فطر عليه الناس، ويصير بالجملة غير مذموم، ولا معيب إذا كان صادقًا. وأما إن كان صادقًا في نفسه مع حداثة سِنِّه، والتهاب شهواته، ومنازعة قواه إلى ارتكاب اللذات، فإن مثل هذا الإنسان لا يلبث أن يشتهر أمره، ويعظم ذِكرِه، ويصير إمامًا معصومًا، أو نبيًا مبعوثًا، أو وليا مستخلصًا.
وليس يخفى على الناس المتصفحين حركات الصادق من حركات الكاذب، وأفعال المتصنع من أفعال المطبوع. على أن هذا الشاب الصادق الذي استثنينا به، إنما يوجد في القرانات الكبيرة والأزمنة المتفاوتة، والأكثر هو ما قدمنا الكلام فيه، فلذلك سبق الناس إليه بالحكم عليه.»

معنى الإجابة: أنه في مرحلة الشباب تكون الرغبات فى أوج توهجها، بينما الشيوخ كبار السن تخمد شهوتهم وتقل حركتهم. والشاب إذا ترك شهواته وتوجه نحو الخمود فإنما هو بالضرورة كاذب؛ لأن هذه ليست حقيقة طبيعته، بل سعى لإظهار ما ليس فيه! وهنا يستقبح المجتمع منه الرياء والادعاء الذى سعى إليه دون داع! والكذب دون داعي يجلب احتقار الناس لصاحبه، وهذا من سوء النفس وليس من الفضائل! أما إذا صدق الشاب فى سلوكه المتعفف، فهذا يعنى نقصان في غريزته، ولا يلُام عليه لأنه صادق فى مساره ضعيف في تكوينه بغير ذنب اقترفه! والاحتمال الأخير أن يكون الشاب صادقًا عفًا مع حداثة سنه وذروة شهواته، فإننا هنا بصدد نادر يحدث على فترات زمنية وأحقاب متباعدة، تنتج لنا نبيًا معصومًا أو إمامًا نابغة. ولكن هذا قليل ما يحدث، لذا تكون الغالبية ممن وصفهم الناس بالحماقة والكذب!

 المدهش هنا ارتكان الإجابة إلى شأن الطبيعة البشرية وحدها، دون ارتكان زائد إلى أمر الدين.

ليس لدي تصور تام لتفاصيل المجتمع منذ ألف عام، وكيف كانت تسير أموره، كما أنني لا أطمح بالطبع لغياب الجانب الأخلاقي لدى النشء، لكن لدي بكل تأكيد تصور عن مجتمع عاصرته، يعلي من شأن الصغار، إذا ما نبتت لحاهم واستقام سيرهم وغُض بصرهم وزادت تمتماتهم، وسعوا حثيثا نحو المساجد والحلقات، تصعد بهم نحو قمتها مبكرًا، واشتهر أمرهم بين الناس، حتى صاروا بين مولانا وشيخنا!

وتبدأ رحلة الانغلاق المبكر، وتسير الرحلة نحو نهايتها المحسومة بصدمة شخصية أو تحول حاد أو تصادم مع المجتمع، ومع كل جيل يعاد إنتاج المزيد من خصوم المجتمع وأعدائه، ولا تتوقف الخسائر!

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك