تشرنوبل.. الانفجار السينمائي القادم من مفاعلات التليفزيون | حاتم منصور

تشرنوبل.. الانفجار السينمائي القادم من مفاعلات التليفزيون | حاتم منصور

16 Jun 2019
حاتم منصور
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

أنت تتعامل مع شيء لم يحدث أبدًا من قبل في تاريخ الكوكب.

بهذه العبارة التي تتردد في مسلسل Chernobyl يحاول العالم والكيميائي ليجاسوف، أن يشرح للسياسي وعضو مجلس الوزراء السوفيتي بوريس شربينا، أن مفاعل تشرنوبل المشتعل أمامهم ليس مجرد حريق آخر يحتاج إلى مياه وإطفاء، لكن كارثة نووية هي الأولى من نوعها في التاريخ، وأنه لا توجد بعد خبرات سابقة، أو كتيب إرشادات للتعامل معها.

في الأعمال التي تدور عن كوارث حقيقية، نسبق نحن كمتفرجين الشخصيات من حيث المعرفة. نعلم مثلًا أن تيتانك ستغرق، وأن هناك هجمات إرهابية ستحدث في 11 سبتمبر، وأن انفجار تشرنوبل ليس مجرد انفجار عادي. لكننا نتابع تدريجيًا وقع هذه الكوارث على أبطال الدراما، وتسلسل استيعابهم لحجمها وتأثيرها. الإثارة تتحقق بمعرفتنا أن الخطر المنتظر أكبر من تخيلاتهم، وبرغبتنا في أن ينجوا منه.

أنجح 10 أفلام رعب في التاريخ |حاتم منصور

الملفت هنا في تشرنوبل كحادثة وكمسلسل – وعلى عكس كارثة مثل غرق تيتانك مثلًا – أننا نستشعر الرعب باعتباره خطرا يهددنا نحن. لا تحتاج إلى ركوب سفينة أو طائرة عندما تتعلق الأمور بكارثة نووية من هذا النوع؛ لأن تهديداتها وأضرارها يمكن أن تصلك حتى لو كنت في قارة أخرى!

جدية المسلسل وصرامته من حيث البناء الدرامي مُناقضة 180 درجة لتاريخ المؤلف جريج مازن. هذا رجل ينحصر تاريخه في تأليف أفلام كوميدية لسلاسل من نوعية The Hangover – Scary Movie. لكنه بشكل ما نجح في تغيير وجهته فنيًا، وسجل أولى علاماته المهمة كمبدع، بفضل ثلاث مزايا رئيسية لتشرنوبل (الاختزال – الترتيب – القالب الدرامي).

1- الاختزال

يحمل المسلسل خامات يمكن تفكيكها لأكثر من مسلسل. ومع سيناريست آخر، كان من الوارد أن تتشعب الأحداث والقصص، لتدور مثلًا في 15 – 20 حلقة، بدلًا من خمس حلقات وخمس ساعات سرد فقط.

مازن – ربما بسبب كونه سيناريست سينما يكتب مسلسلًا للمرة الأولى – يميل إلى الاختزال والتركيز. يمكن ملاحظة ذلك من الطريقة التي يتعرض بها هنا لقصص رجال الإطفاء، وعمال المناجم، وعساكر الجيش، وزوجات الضحايا. منهجه هو التركيز على شخصية وقصة واحدة، لتعطينا لمحة مؤثرة عن معاناة وتضحيات الفئات السابقة. أي زيادة وتكرار ستسحب من رصيد هذا التأثير.

من اللطيف أن تشرنوبل بدأ عرضه في رمضان. المقارنة بينه وبين الهراء السنوي الذي تقدمه مسلسلاتنا العربية، نقطة تعطينا لمحة عن قيمة الاختزال، وعن الفرق بين الكم والكيف. تشرنوبل خمس ساعات صُنعت باتقان وحرفية، وبخبرات قنوات HBO للتسويق عالميًا. مسلسلاتنا 30 حلقة من الهراء والملل والابتذال والفقر الإبداعي، لحشو مدة زمنية يومية على مدار شهر، لمتفرج العالم الثالث.

ما سر رداءة مسلسلات رمضان ولماذا ستظل كذلك؟

2- الترتيب

كل متفرج تقريبًا يعلم جيدًا قبل مشاهدة المسلسل أن تشرنوبل مفاعل نووي سينفجر ويخلق كارثة. نقطة الإثارة واللغز هنا: كيف ولماذا حدث الانفجار؟ هذا السؤال يؤجل مازن إجابته تفصيليًا للحلقة الأخيرة، بعدما نصل لمرحلة تفهم ومعرفة بكل آثار الكارثة، وهو ما يجعل لهذه اللحظة ثقلا دراميا ونفسيا أكبر.

3- المحور الدرامي.

نظريًا، تبدو قصة تشرنوبل كقصة فشل بشري في تجنب مخاطر التكنولوجيا، لكن مازن يرتكز هنا على محور آخر. محور لا يخلو من إيجابية، مضمونه أن الكارثة المسجلة ضمن أكبر كوارث البشرية، كانت ستصبح أسوأ ألاف المرات لولا تكاتف بشر ومواطنين عاديين. بشر قاموا وقتها بواجبهم وعملهم، حتى لو كان الثمن المؤكد حياتهم.

في البدء كانت العدوى.. 10 أفلام رسمت نهاية البشرية بالفيروسات | حاتم منصور

يصوغ المسلسل الكارثة باعتبارها تراكم خطايا في المنظومة الإدارية للاتحاد السوفيتي. ويصوغ لحظات الانتصار وتقليل الأخطار باعتبارها تراكم جهود وتضحيات مواطنين عاديين. هذه رؤية يسهل التفاعل معها لأي متفرج عالميًا. الرجل العادي هنا بطل، لا بفعل الخوارق على طريقة السوبرهيروز، لكن فقط بالقيام بعمله.. بالصمود وقت الشدائد.

لهذا السبب كان من المنطقي أن يحصل المسلسل على إعجاب الروس أنفسهم، باعتباره “تعظيم سلام” لهم كشعب، وأن يحصد أيضًا في المقابل موجات كراهية وشجب ورفض من الاشتراكيين والماركسيين في كل العالم، باعتباره “بصقة” على منظومة إدارة، لا يزالون يؤمنون بها كنموذج نجاح!

طبقا لتصريحات الحزب، فالمسلسل يشيطن ويشوه عمداً حكومة وشعب الإتحاد السوفيتي، ويزيف التاريخ، وهو ما يجعل محاكمة مؤلفه…

Posted by ‎دقائق‎ on Friday, June 14, 2019

ملاحظة التناقض بخصوص التاريخ الفني للمبدع تمتد من المؤلف للمخرج، لأن السويدي يوهان رينك مخرج المسلسل صاحب تاريخ طويل وعريق في عالم الفيديوكليب، قبل أن يشارك في تنفيذ بعض حلقات مسلسلات مثل Breaking Bad – Vikings.

لا وجود هنا للألاعيب البصرية التي تستهدف الإبهار والبهرجة على طريقة الفيديوكليب. توجد صرامة ونزعة واقعية. المسلسل لا يبدو فقط كعمل تدور أحداثه عن واقعة حدثت عام 1986، لكن أيضًا كعمل ينتمي إلى هذه الفترة تقنيًا.

الجملة السابقة لا أقصد بها وصم المسلسل بـ “البدائية”، بل هي على العكس جملة إشادة. هذا الأسلوب جعل المسلسل أكثر مصداقية وإقناعًا. جعله يلتحم مع الكارثة ليصبح حاليًا في 2019 – وغالبًا للأبد – العمل الذي سيعتبره الملايين التوثيق الأهم لتفاصيلها.

إلى حد ما لامس المسلسل بصريًا وأسلوبيًا فيلم أعراض صينية The China Syndrome الذي عُرض عام 1979 ودارت أحداثه أيضًا عن تسرب نووي. غالبًا تأثر به صناع المسلسل بدرجة ما. نقطة غياب الموسيقى مثلًا عن أغلب المشاهد هنا، كانت ضمن أساليب زيادة الواقعية التي استخدمها الفيلم.

لعبة المصداقية والواقعية والتوثيق تمتد إلى اختيار الممثلين أيضًا. تحتاج بالتأكيد لممثل مقارب شكلًا للأصل، إذا كنت تقدم فيلمًا عن جورج بوش، أو شارلي شابلن، أو فريدي ميركوري، أو السادات، لأنها شخصيات يعرف الملايين شكلها وصوتها وسلوكياتها. هنا في تشرنوبل لا تبدو هذه ضرورة؛ لأن أغلبنا كجمهور عالمي لا يعرف أبطال الواقعة، ولن يتضرر من اختيار ممثلين مختلفين شكلًا.

رغم هذا سعى صناع المسلسل لتحقيق تطابق شكلي حتى مع أصغر الشخصيات، وفائدته الملحوظة هنا في ألبوم الصور التالي مزدوجة. إنه أولًا يدشن في وعينا أكثر وأكثر نقطة المصداقية والتوثيق. وثانيًا يمثل أيضًا حيلة تسويقية ذكية في عصر السوشيال ميديا والإنترنت (انظروا درجة الدقة التي صنعنا بها مسلسل تشرنوبل – يجب أن تشاهدوه فورًا!).

نال مسلسل "تشرنوبل" Chernobyl الذي عرضته قنوات HBO مؤخرا، ودارت أحداثه على مدار 5 حلقات، عن كارثة المفاعل النووي الشهيرة…

Posted by ‎دقائق‎ on Monday, June 10, 2019

هذا التطابق الشكلي المشروط لم يأت على حساب الفن والأداء، لأن التمثيل ضمن أفضل عناصر المسلسل. نقطة عدم وجود نجوم، تمنح هنا ممثلي الصف الثاني فرصة ذهبية للتألق. هذا مسلسل لا يحتاج لنجوم ويقف بثبات على ساقين تسويقيًا: الأولى هي أهمية وشهرة الكارثة تاريخيًا، والثانية هى الجودة الفنية، التي جعلت تشرنوبل حاليًا، يتصدر قائمة موقع IMDB لأفضل المسلسلات في التاريخ.

The Queen’s Gambit | سبع نقلات منحت مناورة الملكة السيطرة على رقعة نتفلكس| حاتم منصور

رينك كمخرج يفهم أيضًا جيدًا أهمية تدشين الإحساس بالوقت في بعض المشاهد، عندما تصبح المعادلة ببساطة:
مزيد من الزمن بالقرب من مصدر الإشعاع = مزيد من حتمية الموت.

في أحد هذه المشاهد، نتابع فريقًا يحاول استخلاص أحجار من سطح الكارثة، ونقلها لمكان آخر. مهمة نقل بسيطة، لكنها هنا بسبب طبيعة المكان والمواد، مهمة انتحارية مهلتها 90 ثانية فقط. اختار رينك تنفيذ المشهد في مقطع واحد 90 ثانية بدون أي تقطيع، والطريقة التي يصوغ بها كل ثانية منهم، أقرب لمطرقة يدق بها على كل حواسنا بعنف، لأننا نعرف فداحة الثمن المنتظر لكل ثانية.

مشاهد أخرى كثيرة ممتازة حفرت مكانها في الذاكرة، وتستحق وقفات مطولة للتحليل، لكن منعًا للإطالة، وتجنًبا لحرق الأحداث على البعض، سأكتفي فقط بذكر علاماتها (سارينة إنذار في الشوارع – غبار فحم – كلاب – لقد كنت أنت أهم فرد على الإطلاق).

نصل الآن لسؤال إجباري منتشر: هل يسرد المسلسل “حقائق”؟

أغلب التفاصيل التقنية بخصوص أسباب الحادثة، وطريقة إدارة الأزمة في الأسابيع التالية، متوافقة مع نتائج التحريات وقتها، ومع سجلات التاريخ. وبالتأكيد يستحيل لوم المؤلف على توجيه المسؤولية للنظام ككل، وليس لأفراد؛ لأن المفاعل النووي في النهاية منظومة.

الثورة الصناعية الرابعة.. هل يرث الذكاء الاصطناعي وظائف البشر كليًا؟ | س/ج في دقائق

الأهم من ذلك أن طريقة إدارة الأزمة كما هي مسجلة تاريخيًا بعيدًا عن المسلسل، تؤكد أيضًا درجة من التخبط والعشوائية، وإصرارًا على التكتم. بصياغة أخرى بيروقراطية الاتحاد السوفيتي وقتها، ورغبة الإدارة في الإنكار، وتمركز القرار عند قيادات غير مؤهلة لاستيعاب الأبعاد العلمية للكارثة، كانت عوامل أخرت القرارات الضرورية. وهو الأمر الذي تسبب طبقا لأغلب التقديرات في وفاة 10 ألاف شخص على الأقل.

حوادث السيارات يمكن أن تحدث بسبب فرد أو فردين. حادث نووي كهذا هو سلسلة من تراكم الأخطاء الإدارية والحكومية والعلمية، التي سمحت بوصول فريق غير مؤهل معرفيًا لإدارة أخطر تكنولوجيا على الإطلاق من ناحية، وسمحت أيضًا بتدشين وبناء نموذج مفاعلات غير آمن بشكل كاف أمام الأخطاء البشرية.

أما عن التغييرات في المسلسل، فكلها تقريبًا تمت بغرض خلق الدراما بين الشخصيات، وتفاعلها مع الحدث. وهو إجراء منطقي وضروري ومسموح، ما دمنا نتحدث أولًا وأخيرًا عن عمل درامي. لذا إجمالًا، يمكن القول أن المسلسل دقيق إلى حد كبير من حيث تفسير أسباب الكارثة وآثارها، ودرامي ومتحرر من حيث تناول شخصياتها.

س/ج في دقائق: ألغاز الـ GRU تتواصل.. ماذا نعرف عن استخبارات روسيا العسكرية؟

أما عن الصيت الحالي، فعاجلًا أو آجلًا سيفقد تشرنوبل بالتأكيد المركز الأول في قائمة IMDB، لكنه في المقابل حقق إنجازين مهمين: أولهما أن العام الذي بدأ وكل عشاق المسلسلات في انتظار موسم ختامي ملحمي من مسلسل Game of Thrones أصبح الآن (عام تشرنوبل)!

وثانيهما أنه كسر الحواجز بين الأفلام والمسلسلات، على صعيد السرد والصورة والجوانب التقنية. لذا وعلى سبيل إثارة حماس عشاق السينما لمشاهدته، لنقل فقط أن تشرنوبل فيلم ممتاز مدته 5 ساعات، وغير متاح في دور العرض للأسف!

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (1)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك