رأفت الهجان بين الحقيقة والخيال: ٢- ملف المخابرات المصرية الذي أبكى صالح مرسي| دقائق.نت

رأفت الهجان بين الحقيقة والخيال: ٢- ملف المخابرات المصرية الذي أبكى صالح مرسي| دقائق.نت

11 Nov 2018
مينا منير دقائق

مينا منير

باحث بجامعة لوزان - سويسرا

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

في المقال السابق، تعرضنا للرواية الإسرائيلية الخاصة بنشاط رفعت الجمال التي تقول في مجملها إنه اكتُشف مبكرًا، وحوله الموساد إلى عميل مزدوج ولاؤخ لإسرائيل.

لم أتعرض لكل تفصيلة في الرواية الإسرائيلية؛ لأنني رأيت أن أناقشها بالمقارنة مع السياق المصري الذي سأتكلم عنه في هذا المقال.

المصادر الرئيسية

لا يختلف اثنان على أن الشرارة الأولى لمعرفة قضية رفعت الجمال برمّتها خارج أروقة أجهزة المخابرات كانت رواية “كنت جاسوسًا في إسرائيل”، وهي رواية صالح مرسي التي نُقِلت إلى شاشات التلفزيون المصري بعدها بعام.

يحكي مرسي أنه كان قد قرر التوقف عن كتابة أدب الجاسوسية، لكن تحت إلحاح صديق في جهاز المخابرات (عرفنا لاحقًا أنه عبد العزيز الطودي)، قبل مرسي أن يقرأ ملفًا من سبعين صفحة عن حياة بطل مصري.

اصطحب مرسي الملف إلى سريره، وأمضى الليل في قراءته حتى الفجر، حين وجدته زوجته باكيًا من التأثر، فقال لها:

“إنتي فاكرة إنك متجوزة راجل، وإن اللى حوالينا دول رجالة؟ هناك رجالة لهم طعم تاني خالص، وهناك رجالة نوعيات مختلفة”.[1]

في مقدمة الطبعة الأولى من الرواية يظهر أن الملف الذي حصل عليه هو نص كتبه الطودي، واختار الأسماء التي تم تحويرها بطريقة من المسلي كشف أصولها، فنجد أنه اختار ياكوف بنيامين حنانيا  كبديل لجاك بيتون (جاك هي ياكوف بالعبري، والاسم الثاني يبدأ بالباء)، إفرايم سولومون بديلًا لفريد سلامة، محسن ممتاز بديلًا لعبد المحسن فائق، وطبعًا رأفت الهجان بدلًا من رفعت الجمال (الجمال والهجان مترادفان)، إلا أنه أبقى على عدد كبير من الأسماء كما سنرى.

أما محتوى الرواية، فلا يخفي مرسي أنه درامي بشكل كبير، لكنه طرح سؤالًا غاية في الأهمية والغرابة في لا منطقيته: “هل يستطيع الخيال أن يرتفع إلى مستوى الحقيقة؟” عادةً يكون الخيال هو الجموح الحر والمطلق في الارتفاع عن واقع رتيب، لكن ما حدث في حالة رفعت الجمال هو العكس، فقد هبطت الرواية كثيرًا في خيالها عن الحقيقة، ويبدو أن مرسي قد علم بذلك.

لسنا هنا بصدد نقاش أدبي. سأكتفي بالقول أن الرواية تحوي في جنباتها معلومات كثيرة تتسق مع معلومات موجودة في مصادر أخرى، وبالتالي يجب ألا تُهمل كمصدر من مصادر معرفتنا عن رفعت الجمال، وإن كان يجب التعامل معها بحذر شديد.

في العام التالي لصدور الطبعة الأولى للرواية، ينشر صاحب نفس دار النشر (الصحفي حسني أبو اليزيد) نسخة أخرى عن الحقائق لا الرواية، وقد صدرت في قبرص وليس مصر (هل هذا متعمد؟)، ولم تحُز على أية شهرة.

لكي أصل إلى نسخة منها، اضطررت إلى تقديم طلب للمكتبة البريطانية، التي وجدت منه نسخة مهترئة في إحدى أقبيتها في مدينة يورك، وقد صُدِمت لكثافة المعلومات والوثائق المنشورة، وفيها صور لجميع جوازات سفر رفعت الجمال الإسرائيلية والألمانية، ويظهر عليها تشميع يهيأ لي أنه مختوم من قِبل جهاز المخابرات.

الكم الكثيف من المعلومات وطريقة طرحها يشير إلى أن الرجل قد أُعطي بكرم كبير فرصة رؤية هذه المادة المهمة، دونًا عن غيره.

أما الكتاب الثالث والأخطر بلا شك هو كتاب “18 عامًا خداعًا لإسرائيل”، وهو من تأليف زوجة الجمال: السيدة فالتراود بيتون. فيه تحكي ما حدث بعد موته، وتعرض ما لديها من وثائق، بما في ذلك نسخة من الخطاب الذي كتبه الجمال على فراش الموت، وتركه لها في حوزة محاميه لتقرأه بعد وفاته بثلاثة أعوام (كما طلب هو) وقد كشف فيه عن حقيقته لها (أنه ليس جاك بيتون)، أي أن الكتاب يحتوي على صوت الجمال نفسه (إن صحّ ذلك).

الكتاب صدر عن دار الأهرام في العام 1994، وفي ذلك أمران: الأول هو أنه بلا شك تم تنقيحه ومراجعته والتصديق على محتواه من قِبل جهاز المخابرات لكي يصدر في مصر ومن خلال الأهرام، وهو أمر يجب أن نأخذه في الحسبان، والثاني هو التأخر النسبي في زمن نشره مقارنةً بالكتب السابقة والمسلسل. هذا قد يفسر بعض الأمور الجديدة التي ظهرت فيه.

التعامل مع النص المنسوب للجمال يجب أن يكون بحذر، فبينما تقول فالتراود أن النص لم يره أحد قط، وأنها احتفظت به لنفسها لأنه لا يوجد به “أسماء أو وقائع”، نجد المعلومات الخاصة بالأسماء والوقائع غزيرًا فيما يجعلنا نتساءل: لماذا يحكي الجمال لزوجته عن دقائق تفاصيل وأسماء الخلية اليهودية التي اخترقها!

النص أيضًا يتغير فيه الأسلوب، من صيغة المخاطب لفالتراود، إلى صيغة الغائب.

في المقابل، النص يحوي ما يجعلنا نثق في أنه ليس مفبركًا؛ لأن الوثائق المرفقة في هذا الكتاب وكتاب أبواليزيد (والتي يمكن بالتقصي التأكد من محتواها) متسقة مع المحتوى، فضلًا عن كونه يحتوي على قدر من الصراحة في التعامل مع مسألة دور المخابرات، فهو في أكثر من مقطع ينتقد أمورًا خاصة بأسلوب التعامل معه (وهذا ينطبق عليه الـ Principle of embarrassment). لا يسعنا إلا القول إن الكتاب هو الأهم، ولكنه ليس وثيقة تاريخية خالصة، وهل هناك وثيقة خالصة في التاريخ كله؟

بين تلك المصادر الثلاثة الأساسية والمستقلة، هناك مواد فيلمية لأبطال العملية، سواء اللواء محمد نسيم، الذي كان المسؤول عن رفعت الجمال، أو لقاءات السيدة بيتون، بالإضافة إلى المقالات والردود على الرواية الإسرائيلية.

لكن تظل الكتب الثلاثة المذكورة هي الأساس؛ نظرًا لأنها ترتكز على الملف السري للجمال في جهاز المخابرات العامة، بالإضافة إلى صوت الجمال نفسه.

تتفق تلك المصادر في الرواية العامة: رفعت الجمال شاب دمياطي، عاش في حي مصر الجديدة في بيت أخيه سامي، لكنه كان شديد الطموح والتهور، فخاض مغامرات حول العالم، قادته إلى السجن. إمكانياته الكبيرة في التخفي والذكاء الحاد، دفعت جهاز المخابرات للعرض عليه بأن يتعاون. يقبل الجمّال، ويتم تلقينه ملامح الهوية اليهودية المصرية، وتقديمه بالهوية الجديدة للمجتمع المراد اختراقه. بعد نجاحه في الاندماج في المجتمع اليهودي المصري، هاجر إلى إسرائيل. هناك، اندمج تمامًا، وأسس شركة سياحة كغطاء لنشاطه، ونجح في جمع معلومات حساسة أهمها: مواعيد وتفاصيل حربي 1956 و1967، كما وفر “معلومات” حساسة مهدت لانتصار أكتوبر. تبع ذلك استقراره في ألمانيا واعتزاله عالم التجسس، والتفرغ لعالم الأعمال، حتى إصابته بالسرطان وموته في العام 1981.

نظرًا لطول مدة خدمته كجاسوس (تقريبًا 20 سنة) فقد تقاطعت حياة الجمال مع أهم الأحداث والمعارك بين مصر وإسرائيل، ولذلك فإن تفاصيل حياة الجمال مهمة. سأسلط فقط الضوء على محطات هامة تختلف فيها المصادر مما يثير تساؤلات حولها.

الوحدة 131

بينما ترى رواية ميلمان أن نشاط الجمال (جاك بيتون) الجاسوسي قد بدأ في إيطاليا، مما يفسر (بحسب روايته) انكشافه في أول حديث له مع يهودي مصري على متن الباخرة المتجهة إلى إسرائيل، فإن الروايات المصرية تفرد جانبًا طويلًا عن نشاط الجمال في مصر ووسط المجتمع اليهودي، مما أهله إلى الذهاب لإسرائيل. الأمر لا يحتاج مجهودًا في الاعتقاد بصحة الرواية المصرية؛ فليس من المنطق أن يكون أول تعارف لجاك بيتون مع اليهود المصريين في إسرائيل.

لكن الخلاف بين الروايات المصرية في هذا الصدد جوهري: هل اخترق رفعت الجمال المجموعة 131 التي أسسها الموساد في مصر، والمسؤولة عن عدة عمليات، أبرزها العملية سوزانا الشهيرة باسم فضيحة لافون؟

في دراما رأفت الهجان، يستلهم جهاز المخابرات المصري فكرة زرع جاسوس مثل الجمال وسط اليهود بعد إسقاط الخلية 131، بعد الكشف عن عملية سوزانة بالصدفة البحتة. يظهر بعد ذلك الجمال (الهجان) ويخترق ما تبقى من نشطاء اليهود، ويتعامل مع شخصيات بعينها: سوسو ليفي، إفرايم سولومون، وسارة.

أما في رواية الجمال (أو المنسوبة إليه)، فإنه اخترق الوحدة 131 نفسها قبل عملية سوزانة، وذلك بمساعدة إيلي كوهين، وصديق يهودي اسمه فريد سلامة (الاسم الأصلي لإفرايم سولومون في رواية مرسي)، وقد أقام علاقة مع مارسيل نينيو. أما “سارة” فهي أيضًا حقيقية، لكنها ستظهر في حياة الجمال على الباخرة، بحسب رواية الجمال على لسان ابن اخيه محمد الجمال.

هل بالفعل اخترق رفعت الجمال أخطر خلية إسرائيلية في الشرق الأوسط وأسقطها؟ تاريخيًا، الأسماء التي ذكرها الجمّال حقيقية: مارسيل نينيو كانت من ضمن من سقطوا في قبضة الداخلية، وقد حُكم عليها بخمس عشرة سنة، أما إيلي كوهين فسيصير بعدها بعشر سنوات أهم جاسوس إسرائيلي اخترق سوريا.

لا يعرف الإسرائيليون إلى هذا اليوم تحديدًا تفاصيل سقوط الشبكة، فأثناء القبض على فيليب ناتانسون، الذي لم ينجح في تفجير العبوة الناسفة، كانت هناك 14 عملية في نفس التوقيت ولم تحدث، كيف؟ هنا تتقاطع الرواية مع أمر آخر تم الكشف عنه بعد 40 سنة تقريبًا: تظهر وثائق متأخرة أن قائد العملية نفسه أفري إيلعاد (باول فرانك) قد أثيرت الشكوك حوله داخل الموساد؛ لأنه ظل داخل مصر بعد حدوث العملية ولم يهرب سريعًا، وفي ألمانيا تم الكشف عن تواصله مع ضابط مخابرات مصري يُدعى عثمان نوري، فهل (كما يعتقد بعض رموز الموساد) قام إلعاد بإبلاغ المخابرات المصرية وكشف الخلية؟ أم أن الجمّال هو الذي كشفها؟ يقول الجمّال إنه استغرب لنسب فشل العملية لخيانة باول فرانك، في حين أنه هو من أبلغ عنها.

وبالتالي نحن أمام لغز غاية في الخطورة: إن  كان الجمال فعلًا بطل عملية لافون، فإن هذا الإنجاز المهول يجب أن يتم تسليط الضوء عليه، وهو ما لم يتم في دراما الهجان.

أشير فقط إلى حجم وفداحة العملية أن مؤسس دولة إسرائيل بن جوريون استقال من منصبه لشعوره بالخزي، وسقطت معه حكومته التي شملت وزير الدفاع فنحاس لافون، الذي التصق اسمه بـ “فضيحة لافون.” هل أرادت مصر تركهم على هذا النحو من الحيرة إلى اليوم؟

إيلي كوهين

جانب آخر لا يقل أهمية، وهو علاقة رفعت الجمال (جاك بيتون) بإيلي كوهين. ولد كوهين ونشأ في الإسكندرية لأبوين يهوديين جاءا إلى مصر من حلب، وانضم سريعًا لحركات صهيونية، وأخيرًا إلى الوحدة 131، ولكن، مثل جاك بيتون، يبدو أنه كان على حافة الوحدة ولم يكن له دور مركزي، الأمر الذي حماه من السجن على إثر أحكام فضيحة لافون.

وسط موجة الهجرة اليهودية التي حملت جاك بيتون إلى إسرائيل، هاجر كوهين أيضًا، وعمل في أجهزة أمن مختلفة، حتى زرعه الموساد في المجتمع السوري باسم كمال أمين ثابت، تاجر أثاث سوري مقيم في الأرجنتين، قرر العودة إلى دمشق.

تدرج كمال ثابت في المناصب المرموقة في حزب البعث، حتى عُرض عليه منصب نائب وزير دفاع سوريا. في العام 1965، نجحت المخابرات السورية في كشفه وأُعدم في ميدان عام، وإلى اليوم مازالت أطراف من أسرته وجمعيات يهودية تتوسط لدى بشار الأسد لاسترداد جثمانه.

كيف تم كشفه؟ هنا تقول الرواية الشائعة في إسرائيل إن المخابرات السورية استعانت بأجهزة إعاقة الإشارات اللاسلكية وكشف أماكنها، وبمتابعة بعض الموجات، تم الكشف عن المصدر، وقد كان منزل كوهين.

ومكمن السؤال، كيف تم اختيار القطاع السكني الذي قرروا اصطياد الموجات فيه، ومعرفة أنه على المخابرات متابعة موجة في هذا المكان تحديدًا في دمشق؟ لا توجد إجابة من الجهة الإسرائيلية.

أما في مصر، فقد عُرف أن الجمال هو من فضحه. بحسب كتاب أبو اليزيد، فإن الجمال رأى صورة كمال ثابت في صحيفة عربية تحت عنوان “الفريق علي عامر.. بصحبة العضو القيادي لحزب البعث العربي الإشتراكي كمال ثابت”، فيتعرف عليه ويبلغ محمد نسيم، الذي يزوره في الليلة التالية، بحسب شهادة فالتراود بيتون (رأى رأفت رجلا أسمر على مدخل الباب. بدا أن له سلطة على الجمال، الذي كان وجهه شاحبًا من المفاجأة، وأدخله إلى المكتب وأوصد الباب).

يرحل الجمال إلى باريس في زيارة غامضة يختفي فيها تمامًا، فلا تتمكن فالتراود من الوصول إليه (الأمر الذي جعلها تشك أنه في علاقة أو نزوة) وهناك يكمل الحديث مع محمد نسيم. يُطلع نسيم المخابرات السورية، ويتم القبض على كمال ثابت (كوهين).

بالنسبة لإسرائيل، يبدو أن هذه كانت الحلقة المفقودة، والتي كانت محل شك قطاع داخل الموساد: لقد كشفه أحد رجال المخابرات المصرية، ولكن لم يعرفوا التفاصيل، وفضلوا الاكتفاء بالقصة المجتزأة المذكورة سابقًا.

هذا كان اكتشاف يوسي ميلمان الذي كتب في هآرتس بالعبرية بعد قراءته لحوار أدارته صحيفة Cairo Weekly Times مع فالتراود بيتون، والذي ذكرت فيه نفس الرواية المذكورة، حيث تقول إن الرواية مذكورة في مذكراته التي أودعها مع المحامي.

ويبدو أن هذا التصريح قد أكد لميلمان شكوك الموساد حول دور عميل مصري في كشف كوهين، وبالتالي جعلها الرواية الأرجح.[2]

هنا أسئلة لا يمكن تجاوزها:

أولًا: إن كان هذا ما حدث في العام 1965، فعلى ميلمان أن يتساءل: هل بالفعل روايته عن تحويل رفعت الجمال لعميل إسرائيلي (في تاريخ سابق لهذا التاريخ – راجع المقال السابق عن رأفت الهجان) متسقة مع هذا الاكتشاف؟

ثانيًا: لماذا تم إخفاء هذا الإنجاز الخطير (كشف أهم جاسوس إسرائيلي) من دراما الهجان كما كان الإخفاء حول دوره في الخلية 131؟

ثالثًا: وإن كانت مذكرات رفعت الجمال كما نشرتها فالتراود قد طرحت قضية معرفة الجمال بكوهين، إلا أنها لم تتضمن رواية الجمال حول الكشف عن كوهين. هذا دليل على أن النص المنشور في مصر كان مجتزأً، وكما هو حال الدراما، تم إخفاء هذا الجزء البطولي.

ليس هذا هو الالتباس الوحيد في القضية، هناك إلتباس مُربك بين المصادر في أمر آخر.

بالإضافة إلى صمت دراما الهجان عن علاقة رفعت الجمال بكوهين، فإن مذكرات الجمال كما ذكرنا تعود بمعرفة الجمال بكوهين إلى أيام الوحدة 131 في مصر، وقد استمرت اللقاءات بينهما بعد أن هاجرا إلى إسرائيل. أما رواية الجمّال، على لسان محمد الجمال، في حواره المنشور في كتاب أبو اليزيد، فيقول فيها إنه تعرف على كوهين صدفةً في لقاء عام بإسرائيل. أيهما حقيقي؟!

هل قال “مع السلامة”؟

في المقال السابق، رأينا أن ميلمان قد غير روايته عن كيفية القبض على الجمال مع الوقت. في مقاله الأخير عن المسألة، طرح فكرة أن شريك بيتون في شركة السياحة (إيمري فريد) قد تشكك في أمره؛ لأن بيتون يطيل في رحلاته إلى أوروبا، فكيف يحصل على الأموال لذلك، والشركة في حالة ركود بسبب انهيار السياحة في اسرائيل بعد حرب 1956![3] يذهب فريد للشاباك أثناء إحدى رحلات بيتون إلى أوروبا ويبلغهم بشكوكه، فيراقبونه في إيطاليا ويتم القبض عليه فور وصوله.

بالطبع لن تجد في النصوص المصرية ما يذكر تفاصيل كهذه، ولكن هناك أمرا مثيرا وغامضا يستحق الذكر. في دراما الهجان، يُطلب منه أن يأتي لمقابلة مسؤوليه في مكاتب الجهاز بروما وجنوى. يذهب الهجان إلى إيطاليا وهو محبط ويريد إنهاء خدمته الجاسوسية (وهذا اللقاء مذكور في شهادته فعلًا)، ولذلك يهمل في إبلاغ سكرتيرته بتفاصيل الرحلة، فيختفي أثره في إيطاليا، مما يثير شكوك شريكه أورلو زوروف (إيمري فريد) الذي يُبلغ الشاباك بذلك، وهم بدورهم يبدؤون عملية تقصٍ حوله. ليس هذا فقط، بل فور وصوله – بحسب الدراما – يتصل الهجان بمكتب المخابرات ويخطئ خطًأ كبيرًا، حيث ينهي مكالمته بالقول “مع السلامة”، وكان قد تم تنبيه الهجان إلى ضرورة عدم استخدام هذه العبارة إلا في حالة واحدة، وهي أنه تم كشفه. طبعًا في الدراما يُصلح الهجان هذا الخطأ، كما ينجح في خداع الشاباك، ويعود سالمًا لخدمته.

هل تَلاقي هذه الإشارات في الدراما، وما يقابلها في رواية ميلمان من قبيل الصدفة؟

فإن كانت بالفعل صدفة فإنها عجيبة بالفعل، إلا إذا افترضنا أن ميلمان قد شاهد المسلسل، أو قرأ كتاب صالح مرسي، واستوحى روايته منها. هذا وارد، إلا أنه صعب؛ لأنه كما يظهر من كتاباته لا يعرف العربية، ويعتمد على ما تيسر من ترجمة.

تبقى هناك إشارة قالها عبد العزيز الطودي (عزيز الجبالي في الدراما) في أوراقه التي أعطاها لصالح مرسي: “وأتوقع أن ينبري البعض في إسرائيل – مدفوعًا بالمكابرة والمغالطة – فيدعي أن السلطات الإسرائيلية كانت على علم بهذه العملية، وأنها كانت تسيطر عليها وتوجهها بمعرفتها ولصالحها… ولهؤلاء عندي الكثير، أقله وأبسطه أن دواعي السرية والأمن اقتضت – بالضرورة – حجب بعض الوقائع والتفاصيل. وإنني أتحداهم أن يذكروا ولو واحدة – واحدة فقط – من هذه الوقائع!”.

استوقفني هذا التعليق الذي بادر به الرجل من دون مناسبة. ليس من المعتاد إسقاط الجواسيس وتحويلهم إلى عملاء مزدوجين، ولم تقل إسرائيل إنها جندت أحدًا من قبل والحالات كثيرة، فكيف يتنبأ الطودي بهذه النبوءة الدقيقة جدًا، والتي يقول فيها ليس فقط إن إسرائيل لم تعرف فقط بنشاط رفعت الجمال، بل وجندته بالشكل الذي ستقوله روايات إسرائيل بالفعل بعدها بعشر سنوات؟ أما “الكثير” الذي عنده، فهو يبين فقط أن نشاط الجمال لم يكن خاضعًا لتحكم إسرائيل بشكل كامل، وليس أن إسرائيل لم تكشفه. فهل قال الجمال في العام 1958: “مع السلامة”؟

حياة ونشاط الجمال في إسرائيل

قد يتفق الجميع أن أهم جانب من حياة رفعت الجمال هو نشاطه وعملياته في إسرائيل. للأسف الشديد، فإنه الجانب الأكثر غموضًا، والمعلومات محل الثقة عنه محدودة جدًا، مقارنةً بما يمكن توقعه من رجل عاش هناك 20 عامًا.

دراما الهجان لا توفر شيئًا يستحق الذكر؛ لأن الأدوات الأدبية Literary Forms لمرسي استخدمت بثقل شديد يمنع معها استنباط شيء تقريبًا.

كل الشخصيات المذكورة في مجتمعه (سيرينا أهروني، آستر بولونسكي، إلخ) لا تتقاطع مع المصادر المذكورة أعلاه، وكلها يغلب عليها طابع الأشكال النمطية التي يريد كاتب ناصري تصوير وتلوين المجتمع الإسرائيلي بها. لا شك أن طيفًا من الحقيقة التاريخية يقف وراء هذه الشخصيات، لكن الحبكة تجعلها مستحيلة المقارنة مع النصوص الأخرى. فبينما يظهر رأفت الهجان كصديق للعديد من ضباط سلاح الجو تحديدًا، وأصدقاء من حزب امباي والهستدروت من شخصيات ليست بالغة الأهمية، نجد في شهادة فالتراود بيتون ووثائق أبو اليزيد أن الرجل كان صديقًا عزيزًا لـ موشيه ديان تحديدًا، بالإضافة إلى جولدا مائير، ديفيد بنجوريون، وعزرا وايزمان، قائد سلاح الجو الذي سيصير لاحقًا رئيس دولة إسرائيل. لماذا تم إخفاء ذلك بينما سمح به في الكتب المنشورة؟

الجمال ووايزمان، عن كتاب “18 عامًا خداعًا لإسرائيل” ص37

لا يوجد دليل قاطع من الوثائق على معرفة الجمال بهذه الأسماء اللامعة، باستثناء صورة محيرة يظهر فيها عزرا وايزمان وزوجته يرتديان زيا عربيًا بدويًا وتظهر عليهما ملامح المرح، وأمامهما الجمال راكعاً على ركبتيه، وكأن وايزمان يحمل سيفًا على رقبته، ويبدو على الجميع المزاح.

تتضمن الشهادة المنسوبة لابن أخيه محمد الجمال، الذي رافقه حتى نهايته، أنه أراه صورة “تجمعه مع عيزرا وايتسمان وموشيه ديان وجولدا مائير وهم يرتدون عباءاتٍ وكأنهم في حفلة تنكرية، وهو ممسك بسيف يضعه على رقابهم”، ويعلق: “أولاد الـ… لم يعرفوا أنني بالفعل أضع السيف على رقابهم!”.

يبدو أن هذه الصورة تتسق في تفاصيلها مع الحفلة التي تظهر فيها الصورة التي نشرتها فالتراود (أنظر أعلاه). صورة فالتراود لم يعرف أبو اليزيد بها، وبالتالي فهو لم يختلق الوصف المذكور على لسان محمد الجمال، مما يؤكد إمكانية أن تكون الصورة التي تحدث عنها محمد الجمال من نفس الحفلة التي أُخذت فيها صورة فالتراود حقيقية.

على أية حال، في النص المنسوب للجمال في كتاب فالتراود، يظهر جاك بيتون بشكل أكثر منطقية واتساقًا: فقد كان يهتم بعمله ويعقد صفقات حكومية كبيرة من خلال مكتبه السياحي الذي يبدو أنه مازال قائمًا وإن كان مهجورًا، وكانت أهم الصفقات هي تسهيل إقامة الجسر الجوي الذي نقل يهود لبنان إلى إسرائيل سنة 1958، غداة المناوشات الطائفية بين السنة والموارنة هناك.

يذكر رفعت الجمال أنه بالإضافة إلى نقل المعلومات الخاصة بزمن الحربين 1956 و67، فقد كان ينقل معلومات دقيقة عن صفقات التسليح الفرنسية والألمانية الغربية، كما أنه نقل معلومات خاصة بإنشاء مفاعل ديمونة.

أبو اليزيد ينقل عن ملف الجمال شذراتٍ عن دوره بعد أن تحول إلى ضابط حالة مسؤول عن تجنيد العملاء. أهم العمليات التي تقاطع معها الجمال هي عمليتا جابرييل زوسمان (أبو اليزيد يغير اسمه إلى ميكائيل سميث)، ومستشار بن جوريون وصاحب أعلى منصب وصل إليه جاسوس في تاريخ إسرائيل يزرائيل بار. موقع الشاباك وكتابات أخرى يذكرانهما بأنهما من أخطر من عمل ضد مصلحة إسرائيل، ويكمل كتاب أبو اليزيد الصورة بأن الجمال وراء تجنيدهما وإرسالهما إلى مصر.

بمقارنة النصوص التي لم يعرفها أبو اليزيد، وما اطلع عليه في ملف الجمال بالمخابرات، نرى أن دور الجمال كان بحق هو مفتاح فهم لغز هذين العميلين، الأمر الذي سيحتاج الإسرائيليون أن يقرأوا عنه في رأيي. ولهذا أرى أن القيمة التاريخية لهذه الأمثلة كبيرة.

أخيرًا، تجمع كل المصادر على دور رفعت الجمال في إمداد مصر بخرائط النشاط الإسرائيلي في سيناء، بما في ذلك خط بارليف. الأمر الذي أجد أن الإسرائيليين قد تجاهلوه بشكل مثير للتساؤل. أحد أبرز الملاحظات هي أن الجمال يقول إنه علم أن إسرائيل كانت تنوي القيام بضربة استباقية، ولما قرأت الملاحظة لم أفهم كيف توصف حرب أكتوبر بأنها ستبدأ بضربة استباقية إسرائيلية، إلا أنني في مقالي عن أشرف مروان أوضحت أن وثائق جديدة تثبت أن السادات كان يدفع الإسرائيليين دفعًا للقيام بضربة استباقية لكي يصور الإسرائيليين كجناة، وفي نفس الوقت يحطم سلاح الجو.

لقد كانت تلك الملاحظة غاية في الأهمية، ودليل قاطع في رأيي على حقيقة وتاريخية الكلام المنسوب للجمّال.

رفعت الجمال.. الإنسان

لقد حاولت تناول المتاح بشيء من الحياد والالتزام بمبادئ النقد العلمي على أمل الوصول إلى حقيقة هذا الرجل. ما هو متاح عنه لا يجعلنا قادرين على طرح صورة كاملة ويقينية لهلهلة وتناقض المواد المتاحة، لكن الخطوط العامة التي يمكن أن أستنتجها هي أننا أمام رجل فاق في تأثيره وعظمته أي جاسوس آخر، إذا كان هو الذي أسقط دولة بن جوريون بتفكيك الوحدة 131 ، وكشف أعظم جاسوس اسرائيلي، وفضح معلومات مفاعل ديمونة وحربي 56 و67، وأخيرًا بفضله كان العبور في أكتوبر 73 بأقل خسائر.

هو أيضًا إنسان بسيط، يحب الحياة والعاطفة تتفجر من النصوص التي تركها، فقد حافظ في قلبه على الشاب الشقي الذي أحب بشارة وكيم ومثل في أفلامه كفتى استعراض، وتحمل الإهانات والحسابات التي أجبرته على خياراتٍ كثيرة، وهو أيضًا من حاول المسارعة لاسترضاء أخيه الأكبر حتى بعد تحوله إلى أسطورة من أساطير الجاسوسية.  رفعت الجمال هو إنسان تتلخص حياته في كلمةٍ له وآيةٍ آمن بها ورددها في كل مناسبة متاحة:

أما الكلمة فهي تعكس رؤيته التي تفسر قدرته على “المغامرة والمقامرة بأعز شيء في الوجود”، أي الحياة، فقال: “كنت مكرهًا من ناحية على أن أعيش هذه الحياة، وأحببتها من ناحية أخرى لأنها عرض مسرحي مثير”.

وأما الآية فهي: “وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ”. (لقمان 34).

شكر واجب:

يوجه المؤلف امتنانه للأرشيف القومي البريطاني، المكتبة البريطانية في لندن وأرشيف جامعة مينسوتا، بالولايات المتحدة الأمريكية، على توفير بعض المواد النادرة.


[1] http://web.archive.org/web/20060720032654/http://www.al-araby.com:80/articles/929/041003-12-929-spc03.htm

[2] אלמנת מרגל מצרי שפעל גם בישראל טוענת: בעלי הוא זה שחשף את אלי כהן

https://www.haaretz.co.il/misc/1.969677

[3] Y. Melman, “How Istael Won the Six-Day War,” Haaretz 31/3/2011. DOI: < https://www.haaretz.com/1.5144940>

 

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك