سالمونيلا.. هل أصبحت الأغاني أذكى من الجمهور؟ | أمجد جمال

سالمونيلا.. هل أصبحت الأغاني أذكى من الجمهور؟ | أمجد جمال

7 Jan 2020

أمجد جمال

ناقد فني

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

يصعب فصل أغنية “سالمونيلا” لتميم يونس عن أغنيته السابقة “انتي أي كلام”، والتي لاقت نجاحًا كبيرًا وقت صدورها (صيف 2018) بسبب غرابتها.

الأغنية التي تتكون من ثلاث كلمات فقط شارك في تأليفها سبعة شعراء، وغناها تميم – وهو ليس مطربًا – بصوت لا بأس به على إيقاع المقسوم التسعيناتي الرتيب، وبلحن مألوف للأذن بكل تحولاته. ثم صوّرها مع أصدقائه في فيديو فكاهي، مليء بمبالغات طريفة تؤكد أن العمل كله ليس إلا محاكاة ساخرة من أغاني البوب المصرية، وبرهانًا على سهولة النجاح بتلك الطريقة الكسولة.

صحيح أن تاريخ الأغنية المصرية عرف المنحى الهزلي. لكن ما قدمه تميم يونس كان مستوى آخر من الهزلية، فقد صنع المعادل الغنائي لأدب الميتا (metafiction)، بأغنية تفكك نفسها وتحلل عناصرها الأولية، أغنية تقوم على أنقاض أدوات صناعة الأغاني في السوق المصري. لكن سواء كانت مجرد “تهريج” أو كانت بيان يبشر بموت الموسيقى، في كل الحالات نجح الإيفيه، واستوعبها الجمهور بشكل واسع وسليم.

سالمونيلا.. امتداد “أي كلام”

المشكلة جاءت مع الخطوة التالية: “سالمونيلا”، الأغنية التي اتخذت نفس الطابع الساخر، عن شاب يتودد إلى فتاة بكلمات رومانسية ويعدها بالنعيم إذا قبلت الارتباط به، لكن سرعان ما يكشف وجهه الآخر حين ترفضه الفتاة، فيصير أعنف وأكثر ضجيجًا وتهديدًا ووعيدًا؛ عقابًا لها على رفضه.

جزء من الجمهور سيضع الأغنية في نفس قالب “انتي أي كلام”، سيتفهم السخرية ويستوعب الإيفيه بسهولة، تميم يريد انتقاد هذا النوع من الرجال بإظهاره بشكل مثير للشفقة، كالمهاويس وصعاليك النواصي، يتوسط مجموعة من صبية المدارس الإعدادية في طور البلوغ وفورة الهرمونات، وبصحبة رجل مفتول العضلات يؤدي رقصة مضحكة، في إطار يضيق بالذكور والموسيقى التي تتحول فجأة لطابع موسيقى العشوائيات، وكأن مظاهر الميزوجينية (كراهية النساء) حكمت على جميعهم بالبقاء الأبدي في قاع المجتمع، وقفص من الكبت والانعزال الجنسي.

هذا لم يكن كافيًا لتوضيح مغزى الأغنية. كثيرون هذه المرة استشعروا خللًا في أدوات تميم التعبيرية، جعله في نظرهم لا يضع خطًا فاصلًا بين الاستهزاء ببطل الأغنية ورفاقه، وبين تمجيد هذا البطل، أو – على أقل تقدير – إظهار ما يفعله في إطار مقبول وخفيف الظل يدعو للتقليد في مجتمع يعاني ظواهر العنف ضد النساء.

يصبح تميم يونس متهمًا بالترويج للتحرش، وتظهر – الآن – بعض الفتيات لتتهمنه بارتكاب أفعال غير ملائمة جسديًا معهن في الماضي؛ باعتباره دليلًا دامغًا على كون ذلك مقصده بالأغنية. المجلس القومي للمرأة ترك مشاغله الأساسية، وتفرغ لإصدار بيان احتجاجي على الأغنية مطالبًا بمنعها.

والأنكى أن يربط البعض بين الأغنية وحادثة التحرش بفتاة المنصورة التي حدثت قبل صدور الأغنية بـ 12 ساعة على الأقل.

أغاني تشبه صانعها

تميم يونس كان وجهًا معروفًا لدى نسبة من جمهور السوشال ميديا المصري؛ له مشروع يسبق الأغنيتين، مشروع إبداعي له ملامح واضحة تتناسب مع عصر تحولت فيه الميديا بمفهومها القديم لما يُعرف الآن بصناعة المحتوى.

هو العضو الأبرز في جيل قاد موجة إبداعية كانت مسؤولة عن طفرة في مستوى البرامج والإعلانات والأفكار الدعائية بكل صورها، جزء من هذا التيار – وحتى تميم يونس – جاء من خلفية الإنترنت ومواقع التواصل؛ أي بدأوا من الفضاء الحر وهو ما ساعدهم على التميز. لكن التحدي استمر في فقدانهم التدريجي لطزاجتهم ولصوتهم المميز كلما توغلوا أكثر في دائرة الاحتراف، وكلما تعرضت منتجاتهم الإبداعية للحكم من شرائح جماهيرية أوسع من تلك الدوائر الصغيرة التي كانت تشبههم في الماضي.

يحسب لتميم أنه يحاول من حين لأخر الحضور بصوته، والتمسك بروح مشروعه الشخصي، حتى لو أنتج لنفسه تلك الأغنيات غير الهادفة للربح. الخوف أن ينصاع لتلك الأصوات التي تقيم الفن بمعايير غير الفن، فيفقد أهم مميزاته: الجرأة وتكسير الأنماط، ويتراجع لتقديم أعمال توافقية مكررة، صوابية، مباشرة، أليفة، وبلا طعم.

“سالمونيلا” خطوة للأمام لتميم، تظهر تطورًا ملحوظًا في حرفته كمخرج إبداعي يخلق لوحة غنائية مكتملة، متفهم للغة الموسيقى، واعٍ بتوظيف الألحان والتوزيع والأداء الصوتي والحركي والكريوغرافيا لتخدم مضمونًا جديدًا على الأغاني العربية، مصنع للأفكار لا تجف خطوط إنتاجه.

بقليل من الموارد استطاع حجز مكان في أسبوع مليء بالتريندات والأغنيات المنافسة الأعلى طموحًا وميزانية.

سكاكين السوشيال ميديا التي تحتاجها صناعة الفن أحيانًا | حاتم منصور

هيستريا تتجاوز الحدود

الهيستيريا ضد تميم ليست ظاهرة محلية، لمسنا شبيهتها قبل عرض فيلم Joker مثلًا، وتتشابه أكثر مع أزمة سابقة للمغني الهزلي الأمريكي Bo Burnham، وهو يتبع أسلوب المحاكاة في الغناء كتميم، ساخرًا بأغنياته من سطحية موسيقى البوب وتكرارها في أغاني مثل Repeat Stuff وArt is Dead، يسخر من ذكورية مطربي الراب في أغنية Oh Bo، ومن رهاب المثلية بأغنية My Whole Family Thinks I’m Gay، يسخر من مهاويس الأديان في أغنية From God’s Perspective، يتناول مفهوم الكوميديا بجرأة في أغنية Sad ويتعرض خلالها للهولوكوست وأحداث 11 سبتمبر بأسلوب شائك.

هذا الأسلوب أدى لمنعه من تقديم حفل بإحدى الجامعات سنة 2010، بعد احتجاج روابط الأقليات العرقية والجنسية هناك على وجوده، “بو” علق آنذاك أن محتوى أغانيه يتعاطف مع قضايا هؤلاء لا العكس، لكنه لا يستطيع المبالغة في توضيح مقاصده لأن هذا يتنافى مع الكوميديا.

والحقيقة أن معظم المحتجين يفهمون مقاصد تلك الأعمال الفنية، لكنهم يدعون خشيتهم من أثرها على الأغبياء والأميين والسيكوباتيين، وكأن الشرور المحتملة من هؤلاء ستتوقف بتوقف تلك الأعمال، وهو ادعاء وصائي مغرور ينفيه الواقع. هتلر نفسه كان رسامًا ومولعًا بأفلام الكارتون وبكوميديا لوريل وهاردي، لكن هذا لم يمنعه من ارتكاب الشرور. ولا توجد ثمة علاقة أو سبب منطقي لتكبيل المبدعين الأذكياء وإعادة هندسة العالم ليتلاءم مع الأغبياء والمجرمين بالفطرة.

التحرش أقدم من سالمونيلا

مشكلة المنشغلين بأثر الفن على المجتمعات أن الأمر ينمو معهم ويتحول لهوس يستنزف منهم الوقت عن تذوق الفن نفسه، والطاقة والقدرة على استيعابه في إطاره الطبيعي.

لا نملك سوى تذكيرهم الدائم بخطأ مزاعمهم وبعدها عن المنطق والعلم. كلا، “مدرسة المشاغبين” لم تفسد النظام التعليمي المصري، وإلا كان الأصل الإنجليزي المقتبسة عنه المسرحية أفسد منظومة التعليم هناك، والجوكر اكتمل عرضه وسُحب من دور السينما بسلام ودون حوادث إطلاق نار جماعي كما حذر أقرانهم بالخارج.

وليس عادل إمام من علم الرجال التحرش، وإن كان هناك سبب يجعلنا نضحك على حركاته بالأساس فإقرار ضمني بأنها تمثل الخروج عن الطبيعة والقيم، مثلما نضحك على أفلام الكوميديا الصامتة القائمة على معاناة أبطالها ووقوعهم في مواقف مهينة ومحرجة؛ ليس تلذذًا أو شماتة في ضعفهم بل هي الدهشة الطبيعية لرؤية غير المألوف والمنتظم والتقليدي.. أو ما يُعرف بالفن!

بعض الفنون تستمد قيمتها من اشتباكها مع المألوف؛ لا كي تغيره بل لتدهشنا وتحرك أعماقنا. الفن يؤثر في المجتمع قطعًا، وسيظل يؤثر بالطريقة التي يقودنا بها لننفعل ونضحك ونخاف ونتأمل ونفكر، وبالطريقة التي يقربنا بها من الآخر والبعيد فيكسر حاجز الجهل ومن ثم الخوف. الفن يصنعه فنان بغرض جوهري وأساسي هو أن يسعدنا ويمتعنا لبعض اللحظات أو الساعات، وهو هدف نبيل دائمًا، ونبيل في ذاته، ويستوجب تقديم حسن النوايا في تلقيه.

مشكلات مجتمعاتنا لها أسباب قديمة ومترسخة ومعروفة، البعض يخشى مواجهتها بشجاعة، فيحملها – استسهالًا -على شماعة الفن.

لذا، فهذا المقال لن يهتم بتحليل ما كان يقصده تميم يونس حقًا من وراء عمله الإبداعي، ولن يبرئه في محكمة التفتيش المنصوبة، بقدر اهتمامه بالتأكيد على سمو الفن، وأن الحرية باقة تؤخذ كاملة أو تترك؛ فمن غير المنطقي أن يتحول المدافعون عن حرية جسد وملبس المرأة، والمتحمسون دومًا لنفي العلاقة بين التحرش واللبس، ليصادروا على ذات الحرية – في لحظة – حين تتعلق بالتعبير، أو يحاكموا الفن وفق الحياة الشخصية لمبدعيه. مثلهم في ذلك مثل خصومهم من المستبدين والرجعيين.

LEAVING NEVERLAND.. قضية مايكل جاكسون: السينما قاضٍ والجمهور هيئة محلفين | أمجد جمال



رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك