هل كان شكسبير غشاشًا؟ | مارك أمجد

هل كان شكسبير غشاشًا؟ | مارك أمجد

22 Apr 2019
مارك أمجد دقائق نت
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

قصدتُ مسرح كينجز حيث شاهدت (حلم ليلة في منتصف الصيف) التي لم أشاهدها من قبل، ولن أشاهدها أبدًا مرة أخرى؛ فهي أسخف وأتفه مسرحية شاهدتها في حياتي. وكان استمتاعي الوحيد هو بعض الرقصات فيها، وبجمال بعض الممثلات

من يوميات صامويل بيبس – 29 سبتمبر/ أيلول 1662

لطالما ترددت شائعات حول أصالة وبراءة مسرحيات وقصائد وليام شكسبير. حتى أنه في عام 2011، صدر فيلم يكشف ألغازًا خطيرة حول مسيرة كاتبنا، من إنتاج إنجليزي/ ألماني بعنوان ANONYMOUS. زاد صُنّاعه الطين بلة بجُملة دعائية بمنتهى الفجاجة وضعوها على الملصق الإعلاني للفيلم، تقول:

?WAS SHAKESPEARE A FRAUD

طرحت قصة الفيلم الذي أثار ضجة في الأوساط الثقافية وقتها، نظرية مفادها باختصار أن معظم المسرحيات الشكسبيرية التي عرفناها في طفولتنا، كتبها شخص آخر غير شكسبير، كان على علاقة بالبلاط الملكي والأوساط الأرستقراطية وقتها، يُدعى إدوارد دي فير.

لكن تُرى ما الأمور التي حشرت الكاتب المسرحي الإنجليزي الشهير في خانة الاتهام بالاحتيال طوال ذلك الزمن؟

بعد مئة وخمسين سنة فقط من تاريخ وفاته طفتْ على السطح كل تلك الشكوك من قِبل بعض الكتّاب والنقاد، وبدأوا يطرحون أسماء هي التي تستحق “مجده الباطل”، مثل كريستوفر مارلو وإدوارد دي فير وفرانسيس باكون.

ثم في القرن التاسع عشر، وبالتزامن مع موجة من الاحتفاء بالتراث الذي يُقال أنه من صنع شكسبير، تفاقمت الشكوك أكثر، وبات الدليل الوحيد حول مؤلف “روميو وجولييت” هو التسجيلات التاريخية التي ترصد حياة رجل ذي حياة متواضعة تزوج في سن صغيرة وعمل بالعقارات.

أما في القرن العشرين فصارت نظرية المؤامرة بحواف مدببة أكثر، إذ ذهبت رابطة شكسبير (تكونت عام 1957) إلى نسب أعماله إلى إدوارد دي فير نظرًا لعلاقته بالمجتمع النخبوي ودرجته العلمية، وورود تناص لحد التشابه في نقاط عديدة بينه وبين كتابات غريمه. وهو المسار الدرامي الذي انتهجه كما ذكرنا فيلم ANONYMOUS.

جابرييل جارثيا ماركيز.. ماذا يفيد الواقع لو ألهمنا أدبًا رديئًا؟ | مارك أمجد

بُقع ضبابية من حياة كاتب هامليت

للغرابة أن شخصية مثل شكسبير يحفظ العامة اقتباساته عن ظهر قلب، تشحّ جدًا المعلومات المتوفرة بشكل شخصي عنه. فباستثناء تاريخ ميلاده ووفاته، وعدد إخوته، ووظيفة والده كتاجر للجلود، والكنيسة التي تعمّد بها، وتعامله مع المسرح بشكل مهني وليس فنيًا فقط، نجد مناطق كثيرة مظلمة لا يصلها الضوء من مراجع البحث والمعلومات، ويسميها الباحثون بـ “السنوات الضائعة”.

ولا يتبقى للمهتمين سوى مصدرين لاستقاء ما يريدونه عن شكسبير؛ الأول قصائده ومسرحياته، والثاني سجلات الكنيسة والمحكمة.

ينضم لتلك الإشكالية ما تلقاه من تعليم، وفي أي مدرسة حدث ذلك؟ فبعض المصادر اختارت مدرسة الملك الجديدة ومقرها “ستراتفورد” ثم شككوا في مستوى تعليمه من الأساس، وبالتالي أثّرت تلك الصورة المهتزة على كتاباته، فكيف لشخص يملك مستوى منخفضًا من الإدراك أو الثقافة أن يكتب أعمالًا بتلك البلاغة!

أما عن المسار المهني لشكسبير فنجد لذلك أكثر من رواية، تقول إحداها أنه كان شريكًا إداريًا بشركة تمثيل مسرحي اسمها “لورد تشامبرلاينز مين” ثم تغير اسمها فيما بعد ليصبح “ذا كينجز مين” ويتطابق ذلك مع ما اقتبسناه في بداية المقال من يوميات “صامويل بيبس” حينما ذكر أنه قصد مسرح كينجز لمشاهدة مسرحية “حلم ليلة في منتصف الصيف”.

بيد أنه في عام 1605، يُقال أن شكسبير اشترى عقود استئجار لعقارات، ثم تضاعفت قيمتها فبدأ يجني الأرباح منها. ثم تعددت أشكال الوظائف، فقالت طائفة إنه عمل مساعدًا لمدير مدرسة، ورجحت أخرى أنه كان مديرًا لأحد إسطبلات أرقى مسارح لندن.

رغم هذا الالتباس المعرفي حول نَسَب المسرحيات والأعمال لويليام شكسبير، نستدل على شخص حقيقي بهذا الاسم عاش فعلًا في تلك الحقبة، وكانت له علاقة بالمسرح والتمثيل، والدليل على ذلك ما ورد في مقالة كتبها روبرت غرين يقول فيها:

ثمة غراب مغرور تجمّل بريشنا، يعتقد أنه يستطيع أن ينمق بيت شعر حر على غرار النخبة منكم، وكونه متعدد المهارات يجعله في تصوره الحدث الأهم في البلاد

كذلك، ونقلًا عن وكالة أنباء الشرق الأوسط، فقد عُثر عام 2018 على 21 وثيقة في الأرشيف القومي للمملكة المتحدة، توضح وجهات نظر وآراء الكاتب المسرحي الإنجليزي في الحياة السياسية إبان عصره، كما تضم عددًا من مسرحياته.

هل ضيّع ارتباك النصوص صورة الكاتب؟

بحسب مقدمة حسين أحمد أمين للترجمة العربية لمسرحية “حلم ليلة في منتصف الصيف”، يشير المترجم إلى عدد من التغييرات التي أضفيت على النص في مرحلة معينة غير معروفة، لكن الأكيد أنها أحدثت خللًا في الخط الزمني لأحداث المسرحية، فربما اقترفوا تلك الثغرة بعد وفاته حينما حاولوا تنقيح الطبعة، وربما شكسبير نفسه هو من تسبب في تلك المشكلة دون وعي ومراجعة منه.

زد على ذلك أنه من نفس المسرحية ظهرت الطبعة الثانية عام 1619، وكُتب على غلافها أنها طُبعت عام 1600، وهي معلومة غير صحيحة بالمرة. ويُذكر أن تلك الطبعة صححت أربعة أخطاء كتابية وردت في الطبعة الأولى، واحتوت على أكثر من ستين خطأ جديدًا!

يعرّي المترجم أيضًا حقيقة في غاية الأهمية، وهي أن معظم مسرحيات شكسبير لم تُنشر إلا بعد وفاته. أما أثناء حياته فكان من الصعب جدًا أن تُطبع المسرحيات التي يقدمها مع ممثليه على المسرح في كُتب، حتى لا تختلسها فرق أخرى وتقوم بتأديتها، وحتى لا يعرض الجمهور عن مشاهدة شيء قرأ نصه مسبقًا.

ووصل جشع بعض الناشرين لدرجة أنهم صاروا يعرضون الرشاوى على عدد من الممثلين الثانويين في فرقة شكسبير، كي يتلوا عليهم المقاطع التي حفظوها من حوارات المسرحيات خلال البروفات.

كما يوضح حسين أمين معلومة تاريخية حول المناسبة التي قُدمت فيها تلك المسرحية، إذ كانت عبارة عن حفل عُرس، ومثل الغموض الأول الذي أحاط بكاتب المسرحية، ظل صاحب حفل العرس شخصية مجهولة! والبعض رجّح أن الملكة إليزابيث الأولى بنفسها حضرت الحفل، ثم كذّب هذا آخرون، بالاستناد لتفاصيل ذكرها الكاتب في الفصل الأول من مسرحيته، تتنافى مع حضور الملكة.

أعظم النصوص استمدت نفسها من أعمال سابقة

يعترف أدباء كثيرون نالت أعمالهم شهرة عظيمة اليوم، بأنهم فشلوا طوال الكتابة في منع أنفسهم من التأثر بعمل بعينه. وهناك نظرية أدبية مفادها أن كل قصة تكتبها، تكون على ضوء قصة أخرى قرأتها، حتى لو لا تتذكرها. فما بالكم بكاتب مثل ويليام شكسبير

حين نتعرف على المصادر التي كانت موحية لشكسبير، نجده اقتبس بعض التفاصيل من “قصة الفارس” ضمن “حكايات كانتربوري” لمؤلفها “تشوسر”، كما تلقى بعض الأفكار من الكاتب الإسباني “مونتيمايور”، ومن تكتيكات “جاسبار جيل بولو” اقتطف ما ينفعه. كما اقتنص بعض العناصر المُكمّلة من كتاب “مسخ الكائنات” للشاعر اللاتيني “أوفيد”، وكتاب “اكتشاف السحر” من تأليف “ريجينولد سكوت”.

لكن هذا لا يمنع أن شكسبير استلهم في كتابته أمورًا ذاتية كثيرة ترجع لفترة شبابه في ستراتفورد، وهناك شخصيات مسرحية تفرّد هو بخلقها، دون أي إسهام مُقحَم من عمل آخر، مثل مجموعة العُمال في مسرحية “حلم ليلة في منتصف الصيف”.

وبالأخير، من الضروري الإقرار بأن الشاعر الذي صاغ الأدب الإنجليزي بشكله الكلاسيكي المعروف الآن، تأثر قبل أي شيء بالأدب الشعبي السائد وقتها، لكنه أعاد تطويعه، وإذا ابتعدنا عن نظرية المؤامرة قليلًا وصدّقنا أن شكسبير هو مؤلف تلك المسرحيات، فلا بد من الاعتراف بأن ذلك الرجل حتى لو كان غشاشًا، فقد ملك شيئًا من الدهاء الذي قصده بيكاسو، حينما قال إنه ليست هناك من لوحة إلا وتضمنت عناصر من لوحة أخرى لا يعرفها سوى الرسام نفسه.


في ذكرى معروف الرصافي.. هل حان الوقت لمراجعة قرار منع كتابه الشخصية المحمدية؟ | مارك أمجد

مان بوكر العالمية في دقائق: لماذا فازت قصة فتاة ورجل كبير متزوج على منافساتها

طه حسين وعباس العقاد.. من هو عميد الأدب العربي حقًا؟

اللقاح الفكري.. ما تحتاجه لتكون قارئا واعيا (إنفوجرافيك)


رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

التعليقات (3)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك