باحث في جماعات الإسلام السياسي والتراث الإسلامي
صحيح البخاري (المتوفى سنة 257 هجرية) أهم كتب الحديث عند غالبية المسلمين من أهل السنة والجماعة، الذين يعتقدون تمامًا بصحة الأحاديث الواردة فيه، بدرجة اعتباره أصح كتاب بعد القرآن.
تقول الرواية الرسمية إن البخاري أتم كتابه في ١٦ سنة؛ بدأ تدوينه في المدينة المنورة، وأتم كتابته في بلده بخارى، وبعد إكمال كتابته عرضه على عدد من أكابر المحدثين فأقروه.
غير أن رأيًا آخر يقول إن صحيح البخاري ليس إلا مسودة لم تكتمل توفي صاحبه محمد بن إسماعيل قبل إخراج نسختها النهائية المحررة، بينما كان يعمل على تعديلها إضافة وحذفًا. الرأي قديم على عدم شهرته، وقال به حفاظ بارزون:
أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن داود البلخي المستملي هو ناسخ البخاري، المتوفى 376 هجرية.
ينقل الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري نقلًا عن أبي الوليد الباجي ما نصه:
المهلب بن أبي صفرة التميمي المالكي الأندلسي هو صاحب أول مختصر للبخاري، المتوفى سنة 435 هجرية.
قال المهلب التميمي في مقدمة كتابه “المختصر النصيح تهذيب الكتاب الجامع الصحيح”:
الحافظ ابن حجر العسقلاني هو صاحب فتح الباري (شرح صحيح البخاري)، المتوفى سنة 852 هجرية.
ورغم أن الحافط لم يصرح بهذا الرأي بإطلاق، إلا أنه أشار في عدة مواضع في تعليقاته على بعض الأحاديث ما يفيد بأن البخاري مات قبل أن يتمها كما سنبين لاحقًا.
أول من أعاد فتح الحديث في هذه المسألة كان الشيخ محمود أبو رية في كتابه (أضواء على السنة المحمدية) بشكل موجز دون تفصيل وتبعه عدد من المعاصرين.
وفيما يلي سنعيد طرح هذا الرأي المدعوم بسبع نقاط:
روايات مقطوعة السند أوردها صحيح البخاري. واتفق المحدثون على أن المعلق من الحديث ليس صحيحًا ولا يحتج به.
إشكالية المعلقات تكمن في نقطتين:
الأولى: أن البخاري لم يضع هذا التعريف، وإنما صك الاصطلاح من جاء بعده. يدعم هذا القول أن المهلب في اختصاره لم يستخدم هذا المصطلح مطلقًا، ووصف الأحاديث ناقصة الإسناد بالمقطوعة.
الثانية: أنها تعارض ما ورد في قول البخاري نفسه إنه لم يضع في كتابه إلا الصحيح كما روي عنه. وهو ما دفع كثيرين لإيجاد أسانيد متصلة للمعلقات؛ ليظل الكتاب لا يحوي إلا الصحيح، كما فعل الحافظ ابن حجر في كتابه “تغليق التعليق”.
واختلفت أقوال المبررين لوجود المعلقات، فمنهم من قال إنه بغرض الاختصار، لكنه تبرير يتناقض مع تكرار الروايات في صحيح البخاري حتى بلغت أكثر من نصف حجم الكتاب.
التبرير الثاني ذكره ابن حجر في مقدمته ونصه: “وقد يورده معلقًا، وإنما يفعل هذا لأنه أراد الاحتجاج للمسألة التي ترجم لها”.
لكن، إذا كان أساس الاستدلال صحة الدليل، فكيف يدلل بما لم يثبت سنده؟!
أما السبب الذي نراه، فإنها روايات صحيحة ذكرها البخاري بجزء من السند، ولم يسعفه الوقت لتحضير إسناد مكتمل لها على شرطه بعكس تبريرات الشراح.
مما يؤيد هذا التفسير أن بعض الأحاديث وردت معلقة في بعض نسخ البخاري وموصولة في نسخة أخرى، ما يعني أن الرواية المعلقة نقلت عن نسخة قديمة.
ومن الأمثلة على ذلك: حديث قصة بني إسرائيل في القروض، فإنه جاء في أغلب النسخ معلقًا على الليث بن سعد، وفي نسخة الصغاني موصولًا ما بين البخاري والليث.
من يطالع صحيح البخاري لأول مرة سيفاجأ بورود أحاديث في أبواب لا علاقة لها بموضوع الحديث، وهي المسألة الأكثر إشكالًا في البخاري.
كثيرون من شراح البخاري اجتهدوا في محاولة إيجاد علاقة ظاهرة أو خفية بين الحديث وعنوان الباب، مثل كتاب “المتواري على أبواب البخاري” لابن المنير و”مناسبات تراجم البخاري” لابن جماعة، بل أنكر البعض وجود بعض الأحاديث في صحيح البخاري لعدم وجودها في أبوابها المتوقعة.
ولهذا السبب كان أهل المغرب والأندلس يفضلون صحيح مسلم على صحيح البخاري لجودة تصنيفه وحسن ترتيبه وعدم تكرار الأحاديث مع جمع أسانيدها في نفس الباب .
والسبب هنا أن البخاري كان يضع الحديث وقت تذكره في الباب الذي يعمل عليه إلى أن يجد مكانه المناسب في وقت لاحق.
تكرار الأحاديث من الأمور البارزة في صحيح البخاري حيث بلغ المكرر نصف حجم الكتاب تقريبًا، بما دفع بعض المصنفين لاختصاره بحذف المكرر والمعلقات والمراسيل، وهو ما ذهب إليه المهلب التميمي في “المختصر النصيح” والزبيدي في “التجريد الصريح”.
والسبب هنا أن البخاري مات بينما صحيحه في مرحلة الجمع قبل التنقيح.
من غريب صحيح البخاري أن صاحبه عنون أبوابًا للحديث ثم تركها فارغة دون نصوص تندرج تحتها، كما ورد في باب “الخروج من الفزع” في كتاب “الجهاد والسير”
برر الشراح الفراغ بأن البخاري تعمد ذكرها ليثبت أنه لم يصح في الباب حديث.
يقول الحافظ ابن حجر في فتح الباري: وقد ادعى بعضهم أنه صنع ذلك عمدًا. وغرضه أن يبين أنه لم يثبت عنده حديث بشرطه. وكلام ابن حجر ظاهر في رفضه لهذا التبرير.
يضيف ابن حجر في شرحه لباب “الخروج من الفزع”: ثبتت هذه الترجمة بغير حديث، وكأنه أراد أن يكتب فيه حديث أنس المذكور من وجه آخر فاخترم (أي توفي) قبل ذلك.
وكلام ابن حجر هنا صريح بأن البخاري مات قبل أن يتم بعض مواضع الكتاب.
تختلف نسخ البخاري في عدد الأحاديث؛ فتنفرد نسخ بذكر أحاديث لا تحويها نسخ أخرى، بخلاف التغيير من ألفاظ الأحاديث من نسخة لأخرى.
ومن أشهر الامثلة حديث: زنا القرود ، وحديث (عمار تقتله الفئة الباغية)، وهما من الاحاديث المشكلة سندًا ومتنًا.
والسبب أن البخاري ربما أضاف الحديث في تعديل لاحق، أو أسقطه لظهور علته.
يحمل صحيح البخاري أخطاء رصدها بعض النقاد في تحرير بعض الأحاديث، مثل خلط متن حديث بإضافة راوٍ، أو عدم دقة بعض الأسانيد التي خالف فيها البخاري المشهور. وهي أخطاء يصعب أن تقع من البخاري في كتاب محرر.
وذكر المهلب التميمي في مقدمته عددًا من تلك الأحاديث، وهي حديث صفة عيسى وموسى في رؤيا النبي لهما في منامه عند الطواف، وحديث الإفراد والقران في الحج، وحديث رافع في المزارعة، وحديث جابر فيما دون الحد من العقوبة، وحديث بيع الجمل واشتراط ظهره.
ثم عقب: أعجل البخاري رحمه الله عن تهذيبها، وتقليب الصواب لأهلها من رواتها.
لا يشمل صحيح البخاري مقدمة، عكس مسلم الذي وضع مقدمة لكتابه شرح فيها منهجه. كما لم يدون البخاري منهجه الحديثي وشرطه، وإنما جاء بعضها من بعض الروايات عنه، والبقية من استنباط المحدثين والشراح.
ومعلوم أن المقدمة آخر ما يدون من الكتاب بعد الفراغ من متنه.