عملية الصقر الأحمر : 20 عاماً من المعلومات المضللة بين إسرائيل وسوريا| مينا منير

عملية الصقر الأحمر : 20 عاماً من المعلومات المضللة بين إسرائيل وسوريا| مينا منير

16 Jul 2019
مينا منير دقائق

مينا منير

باحث بجامعة لوزان - سويسرا

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

لم تمضِ أيام على وصول بنيامين نتنياهو لرئاسة الحكومة في 1996 حتى اقتحم عليه اسحق مردخاي، وزير الدفاع الجديد، مكتبه دون سابق إذن مخبراً إياه بمعلومةٍ في غاية الخطورة: سوريا تعلن التعبئة وتتحرك قواتها بشكلٍ مريب، وتحرك منصات الصواريخ الروسية الجديدة استعداداً للهجوم بغية استعادة هضبة الجولان. كان الخبر، في مطلع سبتمبر 1996، صاعقاً، فسأل نتنياهو وزيره إن كان واثقاً من المعلومات قبل اتخاذ أي إجراءات عسكرية. فكان الرد جلياً: إن المصدر من داخل دائرة الأسد الضيقة، والمسئول عن المصدر هو ضابط فوق مستوى الشبهات، كلماته صادقة “ككلمات التوراه.”

هنا لاحت في الأفق ذكرى حرب الغفران (حرب أكتوبر 1973) والتي أخطأت فيها الإدارة الإسرائيلية حينما لم تتحرك لضرب مصر وسوريا ضربةً وقائية، فدفعت الثمن غالياً. لم يكن نتنياهو يمتلك الوقت لاتخاذ قرارات حاسمة، فأعطى أوامره لقيادة الجيش بالتعبئة واتصل بالولايات المتحدة في اجراء أخير لعل الأخيرة تقدر أن توقف سوريا عن الهجوم. وبعد أيامٍ صعبة وعصيبة على كل الأطراف، قرر نتنياهو قيادة مجموعة من كبار رجال الموساد والأمان (المخابرات الحربية) في طائرة خاصة إلى لانجلي بالولايات المتحدة، حيث التقى بكبار رجال المخابرات الأمريكية. وبعد ساعاتٍ طويلة، تكشف أن الأمر غير حقيقي وأن تقديرات المخابرات الأمريكية ترى أن سوريا غير مزمعة على الدخول في حربٍ، على الأقل في المستقبل القريب. 


أشرف مروان من الزاوية الأخرى: كتاب إسرائيليون يؤكدون أنه خدع إسرائيل خدعة كبرى


دبلوماسياً، أكد الأسد شخصياً للمبعوث الأمريكي أن هناك خطأ في التقديرات الإسرائيلية وسخر من حالة الهوس التي انتابتهم، ولكنه أخبر الدبلوماسي الأمريكي برسالة مقلقة: إن كان الإسرائيليون يحاولون خلق إشكالية تبرر اتخاذ ضربة وقائية ضد سوريا، فلن تنتظر سوريا ذلك كي يحدث، وطالب الأمريكيين بكبح التعبئة الإسرائيلية الضخمة التي تحدث حينها. في لانجلي ألقى رجل المخابرات الأمريكي بكلماتٍ تسببت فتح ملف واحدة من أغرب وأكثر عمليات الإستخبارات الإسرائيلية غموضاً، وإحراجاً: ماذا إن كان المصدر في سوريا، أو من يشرف عليه في الموساد، يكذب أو يضللكم؟ هذه المرة لم يمتلك رجال الأمن الإسرائيلي نفس اليقين في الرد كما حدث في حالة نتنياهو. لقد كان حجم الإحتقان وحجم القتال، والذي كان متوقعا أن يكون في حجم معارك حرب أكتوبر، أكبر بكثير من أن يسمح بإطلاق أحكام مطلقة حيال مصداقية المصادر. على طريقة أفلام الكوارث الأمريكية، لكن هذه المرة في الواقع، اتصل نتنياهو بوزير الدفاع وأمر بوقف العمليات قبل أن يتحرك الجيش بساعات، وبات الهدف هو الإجابة على سؤال ضابط الاستخبارات الأمريكي.

فتحت إسرائيل تحقيقاً دام سنة، وكشفت فيه النقاب عن عملية “الصقر الأحمر” والتي وصلت إلى القضاء الإسرائيلي وحوكم فيها ضابط الحالة، يهودا جيل. أما ما هو متاح من تفاصيل فقد ظهر في كتابٍ حديث لمؤلفه رونين بيرجمان، الذي تحدث مع كل المتورطين في العملية بما في ذلك بطلها، يهودا جيل، والذي نحن بصدد عرضه الآن.

الصقر الأحمر والرجل ذو الألف وجه

في ديسمبر 97 غزت الصحف الإسرائيلية صورة قديمة لرجل بشارب ضخم قيل عنه إنه يهودا جيل، وقد حُكم عليه بالسجن خمس سنوات بتهمة تضليل المخابرات الإسرائيلية وإمدادها بمعلوماتٍ خاطئة عن عمد بقصد الإضرار بالأمن القومي. وباعتبار تاريخه الطويل في خدمة البلاد فقد خرج في أقلَّ من عامٍ، ويبدو أن الأمر جاء ضمن صفقةٍ مفادها أن يصمت بالكامل. بعدها بأعوام وعلى إثر محاولاتٍ كثيرة، نجح مؤلف الكتاب بيرجمان في الالتقاء به وبمحققيه تباعاً لمعرفة تفاصيل قضية الصقر الأحمر. 


انهض واقتل أولًا.. كتاب جديد يكشف أسرار وحدة الاغتيالات في الموساد


كانت البداية من وقف إطلاق النار في حرب أكتوبر 1973 والبدء في مراجعة أخطاء إسرائيل التي أدت إلى ما أسماه المؤلف بعقدة حرب الغفران. فقد رأت القيادات الأمنية أن ما حدث في حرب أكتوبر كان نتيجة مباشرة لفشل أجهزة الدولة المعلوماتية الثلاثة: الأمان، الموساد والشاباك. كان الحل المقترح في الموساد هو تشكيل وحدة خاصة تشرف على عملية البحث عن عملاء يمكن تجنيدهم من داخل الدوائر الضيقة لصناعة القرار في مصر وسوريا حتى يمكن إعلام اسرائيل بمواعيد أي هجوم عليها في المستقبل.

هنا وقع الاختيار على ضابط الحالة (Case Officer) يهودا جيل ذي الإنجازات الكبيرة لقيادة عملية البحث والتجنيد. كان جيل صاحب أكبر الإنجازات في تجنيد عملاء لصالح إسرائيل في دول أفريقية كتشاد ونيجيريا، ولاحقاً سيشرف على العملية موسى التي سينقل فيها 8000 يهودي إثيوبي إلى إسرائيل. هو أيضاً من قاد فريق وحدة الاغتيالات استخباراتياً، في عملية “غضب الله” التي استهدفت المتورطين في مجزرة أولمبياد ميونخ 1972.

كان جيل معروفاً في الموساد بالجاسوس “ذي الألف وجه” نظراً لقدرته على التخفي في عدة شخصيات في نفس الوقت وقيادة عشرات العمليات حول العالم على التوازي.


سقوط الجاسوس إيلي كوهين.. أدلة جديدة تؤيد الرواية المصرية


بدا لجيل أن اختراق مصر مستحيل، سواء من الداخل أو من خلال هيئاتها الدبلوماسية في الخارج، فالمخابرات المصرية باتت مؤمِّنة تماما لتلك المسألة، فكان اهتمامه بالأطراف الضعيفة داخل حلقة القيادة السورية الضيقة.

وفي أحد الأيام منتصف السبعينات رصد في باريس رتبة كبيرة في الجيش السوري، وهو شخص على صلة مباشرة بالأسد، وهنا قرر استهدافه. بعد عدة محاولات فاشلة تدخل شخصياً في العملية متنكراً في هيئة رجل أعمال إيطالي من أسرة فاشية تكره اليهود، ولكن في نفس الوقت يعمل لصالح حلف الناتو في مجال بيع المعلومات. بعد غمر الضابط السوري الكبير بالمال وكسب وده بطرق مختلفة، انتهى الأمر لتجنيده وأُطلق عليه لقب الصقر الأحمر.

كانت المهمة الأساسية الموكلة للصقر الأحمر هي إعداد تقرير عن المفهوم العام لدى لقيادة السورية حيال كيفية استعادة الجولان. شرح الصقر لجيل أن التوجه العام هو تكرار أمر القتال الذي وجهه السادات لجيشه في حرب أكتوبر: تحقيق انتصار عسكري محدود يغير الأمر الواقع ويفتح الطريق لمفاوضات مباشرة من موقع أقوى.

بات شعور الموساد دائماً تحت التهديد بفضل التصورات التي ينقلها الصقر الأحمر مصحوبةً بمعلومات ذات مصداقية. يتسبب الصقر الأحمر في تعبئة الجيش الإسرائيلي على الأقل ثلاث مرات مما يكلف الدولة بشكل كبير، وتستمر المعلومات المعقدة في الوصول إلى تل أبيب ويضعها في حالة الاستعداد والشد العصبي على مدار عشرين عاماً، وآخرها كان في سبتمبر 96 حينما كان الصقر هو مصدر المعلومات “المؤكدة” وذات مصداقية “ككلمات التوراه.” 

الرجل ذو الألف وجه

بعد حادثة الحشد للحرب في العام 96، خاطب رئيس الموساد سراً رئيس جهاز الشاباك ليقوم بعملية تحقيق داخل جهاز الموساد نفسه لمعرفة إمكانية أن تكون تلك المعلومات المغلوطة هذه جزءا من مؤامرة لتضليل الموساد.

وهنا كثف الشاباك تحقيقاته السرية حول يهودا ليكتشف ما يكفي من الأدلة أن الرجل كان يضلل الموساد بطريقةٍ أو بأخرى.

للأسف لا يمدنا الكتاب بتفاصيلها نظراً لكونها حبيسة ملفات الموساد. لكن هل كان يهودا جيل، بطل أكبر عمليات الموساد على مدار ربع قرن، عميلاً مزدوجاً؟ هل كان، كما اقترح البعض، مريضاً نفسياً لكثرة العمليات السرية والتي بسببها قد يكون نسي شخصيته الحقيقية، الأمر الذي حدث لبعض ضباط المخابرات من فرط تغييرهم المقنع لشخصياتهم؟ هل كان الصقر الأحمر يتلاعب به؟ ومن هو الصقر الأحمر؟ يأخذنا الكتاب في تفاصيل عالم الخدمة السرية وكيفية التجنيد، التحقيق من المعلومات العمليات المختلفة لنقل المعلومات إلخ في واحدة من أغرب العمليات في التاريخ الحديث للموساد.


رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك