فيلم “الممر”.. شريف عرفة وضع الفن في كفة والذخيرة في الكفة الأخرى | أمجد جمال

فيلم “الممر”.. شريف عرفة وضع الفن في كفة والذخيرة في الكفة الأخرى | أمجد جمال

3 Jun 2019

أمجد جمال

ناقد فني

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

“متى نصنع فيلما حربيا؟” السؤال كان مصدر إزعاج لصناع السينما على مر عقود، وبمثابة إشارة على تقصيرهم في حق الوطن والتاريخ والفن بمفهومه الهادف.

والحقيقة أنه سؤال مثل غيره بمخزن الأسئلة الجينيرية للصحفي الكسول، كأسئلة “متى تتجه للتلفزيون؟” أو “ما وحشكش المسرح؟” …الخ. وأحيانا يتخذ بعض السينمائيين ذلك السؤال بجدية أكبر من اللازم، لكن تبقى حقيقتان. الأولى أنه ليس فرض عين على الفنان أن يصنع أفلاما عن موضوع بعينه. وثانيا: أننا وبالفعل صنعنا أفلاما حربية، بعضها بمستويات فنية جيدة، هذا إن كنا نعني بالفنيات عناصر كالقصة والتمثيل والبناء الدرامي وتصميم الشخصيات والعامل التوثيقي. ماذا كان ينقص؟ فيلم حربي ولكن على مستوى عالمي!

عالمية شريف عرفة

المشكلة أن “العالمية” في نظر الكثيرين تقتصر على جودة المؤثرات الصوتية والمادة البصرية للمعارك. ذلك هو الجديد، و”العالمي” الذي يأتي به فيلم “الممر” للمخرج شريف عرفة، وقد نجح بالفعل في صناعة تلك الجوانب الفيلمية بحرفية غير مسبوقة. ساعده مصمم المعارك الجنوب أفريقي “آندرو ماكنزي”، مع الاستعانة بقليل من المواد الأرشيفية، وتلقي دعم كبير من الجيش المصري.

يقول منتج الفيلم “هشام عبد الخالق” أن ميزانية الفيلم كادت تصل لـ100 مليون جنيه، لولا ساعدته القوات المسلحة بالمعدات والتدريبات وأماكن التصوير؛ لتخفف من العبء الإنتاجي، وهو أمر متكرر مع أي عمل حربي لأي فنان، ويحسب للجيش المصري ويجب أن يستمر.

لكن ماذا عن الجوانب الفنية في الممر؟

الممر يتناول فترة نكسة 67، والشهور أو السنوات القليلة التي تبعتها في حرب الاستنزاف، قبل الوصول لنصر أكتوبر 1973. في البداية يمر الفيلم على الآثار الاجتماعية والعسكرية والسياسية التي سببتها الهزيمة، بعيون الجنود الذين كانوا جزءًا منها، وبخاصة “نور” (أحمد عز) وهو الشخصية الرئيسية والقائد. ثم تتحول النكسة وآثارها إلى وقود للانتقام مع العودة للجبهة والاستعداد لاشتباكات جديدة مع الطرف الإسرائيلي، والأخيرة استحوذت على ثلثي زمن الفيلم (ساعتين و40 دقيقة).

رؤية مكررة عن النكسة

نقاط ضعف الإخراج تتجلى مع النصف الأول للفيلم في غياب الحِس الزمني للأحداث، نعرف أن النكسة حدثت في 5 يونيو 1967، لكن لا نستشعر موقع أحداث الفيلم زمنيا من تلك النقطة، ليس المقصود إمدادنا بتواريخ جامدة، بل تسلسل منطقي يربط ما قبل وما بعد، وليس بالتكثيف المخل للحادث، كأن يبدأ العدوان العسكري على سيناء، فيهرب الجنود، ثم نرى البطل في منزله يستحم وعلى جسده آثار دماء، يخرج فيجد زوجته وطفله ينتظرانه على مائدة الطعام!

ذلك تسلسل درامي يمكن قبوله لو كان البطل عائدا من مشاجرة في الشارع، وليس حدث تاريخي جلل، كان يستحق أن تُفرد له مساحة أكبر للتفسير والتأمل في حجم المأساة. وهناك زمن سينمائي وجبت مراعاته بتوازن بين الشق العسكري والشق الإنساني.

غياب هذا التوازن ضيّع على الفيلم فرصة كبيرة لإعادة رواية النكسة سينمائيا بصورة مغايرة وأكثر واقعية عن كل ما قُدّم في السابق، أتحدث هنا من الناحية التأريخية، قرأنا وسمعنا عن أهوال لم نشاهدها في الفيلم. ماذا عن رجوع الجنود من غرب سيناء إلى القاهرة سيرا على الأقدام؟ لماذا كل المشاهد تحدث تحت ضوء النهار ولم يتعاقب الليل على الجنود المنسحبين لنشعر بدينامية الزمن، وهي أداة سينمائية بديهية للتعبير كان ليستخدمها أي مخرج مبتديء.

قصة المونتاج.. الفن الذي ميّز السينما عن بقية الوسائط | أمجد جمال
أكثر المقولات إلهامًا حول صناعة الأفلام

لم يتجاوز الانسحاب العسكري على الشاشة عدة ثوان. لم نر الفِرَق التي كانت تستقبل الجنود المنسحبين قبل وصولهم للقاهرة للإسعاف وتحسين الهيئة. لم نعرف عن مصير الأسرى سوى أنهم أسِروا. هل يُعقل أن تكون محطة البطل الأولى بعد الانسحاب هي منزله؟ هل خاف عرفة أن يجرح مشاعرنا بالتفاصيل؟ لكن كيف يؤسس لدراما انتقامية دون استثمار وانغماس في سبب الانتقام؟ لا أفرض على صانع الفيلم محتوى بعينه، لكن تلك النظرة التبسيطية لمعلوماتنا العامة عن النكسة أفقدت الفيلم أي تميز موضوعي عن أفلام سبقته، لا جديد سوى كمّ الذخيرة المستخدمة والجثث والأشلاء.

شخصيات نمطية يقودها أحمد عز

الممر تأليف شريف عرفة، وأشيع أن قصته مبنية على عملية بطل الصاعقة “إبراهيم الرفاعي”، وهذا غير حقيقي. فبداخل الفيلم يُذكر الرفاعي، مع إشارة بأن العملية التي قام بها سبقت العملية التي ينفذها بطل الفيلم “نور”.

هو دور تقليدي للنجم أحمد عز، تقليدي في كون الشخصية بلا سمات واضحة، أو مبنية وفق قواعد نفسية غير ما يتطلبه الأكشن، فمثلا في بداية الفيلم يعترض نور على العشوائية في قرارات قياداته، ولاحقا ينتقد عنترية المجند الذي وقف أمام الطيران الإسرائيلي بدون ساتر، ذلك الإيحاء بالانضباط العسكري والالتزام الشخصي يتناقض مع بقية مواقفه خلال الفيلم، بميوله الانتحارية في العمليات ومخالفة آراء قياداته وتعريض حياة زملاءه للخطر بدون خطط للسلامة والعودة، وحتى مشاجرته في السنترال مع الموظف المدني الذي سخر منه، وأعتبره أقوى مشاهد الفيلم، بغض الطرف عن المحاضرة التي يلقيها ضابط الشرطة (شريف منير) لاحقا حول خفة ظل المصريين.

أحمد زكي.. كيف استحق اعتذار روبرت دينيرو عن “زوجة رجل مهم”؟ | أمجد جمال
الكويسين.. جرعة عشوائية من الكوميديا
40 عامًا من معاهدة السلام.. ماذا واجه السادات؟ وماذا جنت لمصر؟ | س/ج في دقائق

لم تبتعد كثيرا بقية شخصيات الفيلم عن التسطيح والتنميط، المجند الصعيدي بكل السمات النمطية عن الصعيد وأهله، وفاقها في البلاهة بدخوله قصة حب لحظية بلا جدوى أو أمارة مع الفتاة البدوية التي تمثل هي الأخرى كليشيها كبيرا. مع الاعتراف بنجاح الممثل “محمد فراج” في تفادي عيوب الكتابة النمطية والنجاة بشخصيته لمنطقة الكاريكاتورية، ما جعل الشخصية مقبولة في ذلك الإطار. أما شخصية الصحفي “إحسان” (أحمد رزق) فكانت الأفضل في تصميمها، وهي الشخصية الوحيدة التي تنمو مع القصة، شخصية غير تقليدية فنادرا ما تسلط الأضواء على صحفيي الحروب ومصوريها، وأداها رزق بسلاسة.

بين الشعر والحوار

استعان عرفة بالشاعر الغنائي “أمير طعيمة” لكتابة الحوار، وهو اختيار غريب خاصة مع أهمية الفيلم إنتاجيا وموضوعيا على كاتب سينمائي غير متمرس، والبعض قد يُخدع في جودة هذا الحوار لبلاغته الشعرية، لكنه حوار لا علاقة له بالسينما ويخالف أبسط مبادئها، كالولاء لصوت الشخصية وطريقة تحدثها ومفرداتها، المطرب العاطفي قد يقول جمل من عيار “مع شمس كل يوم جديد” .. لكن الشخص العادي لا يتحدث هكذا.

اعتمد طعيمة وعرفة على الجمل العاطفية الرنانة والأذكى تركيبا من شخصيات العمل، مع المبالغة في استخدام الحوار في وصلات الخطابة التاريخية وشروح الأحداث والإفصاح عن دواخل الشخصيات، إضافة لإقحام تعليقات سياسية عميقة على ألسنة المجندين حول قضايا كبرى كانتماء أهل النوبة والبدو، وكأن المؤلف يمرر وجهة نظره الخاصة عبر ألسنتهم.

سذاجة الحوار تتجلى أكثر في حدثين بعينهما، أولا: مشهد المواجهة بين “نور” و أليعازر قائد الكتيبة الإسرائيلية، حيث مناظرة دينية بين الشخصيات حول الأنبياء والتوراة والقرآن، يحاول كل منهما إفحام الآخر لا بشيء سوى ترديد معتقداته الدينية التي بطبيعتها تخالف معتقدات الآخر، وقد يكون حوار بهذه السذاجة آخر ما قد تطاله فعليا ألسنة قائد جيش مصري مع أسير إسرائيلي في سياق حصار جحيمي.

ابن لهيعة.. مفصل الخلاف في صحة “خير أجناد الأرض” | هاني عمارة | دقائق.نت
أفلام الويسترن على الطريقة المصرية .. من شمس الزناتي لـ”حرب كرموز”
كيف ربحت إسرائيل حرب أشرف مروان بجدارة في فيلم الملاك؟

ثانيا، مشاهد الفيلم الأولى حيث اجتماع للجنرالات الإسرائيليين وهم يناقشون قرار الحرب ويضعون الخطة، لم يكن الحوار سوى تجميع لمانشيتات تاريخية وتركيبها على ألسنتهم. “سنسمي العملية ضربة صهيون”، ضحكت عندما سمعتها، فلا يعقل أن تكون عبارة كتلك قيلت في سياق اجتماع سياسي مصيري يناقش جدوى الحرب وتداعياتها، حتى لو كانت المعلومة المجردة صحيحة. بالتأكيد كانت هناك طرق أكثر فنية لشرح السياق التاريخي للفيلم دون تلك الحوارات.

ممر بلا نقطة نهاية

بناء القصة الحربية من الفيلم يتشابه لدرجة ما مع تحفة سبيلبيرج Saving Private Ryan، فرقة من البحرية الأمريكية في طريقها للعبور لشواطيء نورماندي، يتلقون الأوامر بتغيير طبيعة المهمة والنزول بعمق الأراضي الفرنسية لتحرير الجندي المحاصر “ريان” بعد أن مات أشقاؤه الثلاثة في الحرب وأصبح وحيد أبويه. في “الممر” تذهب فرقة الصاعقة المصرية في مهمة لاختراق الضفة الشرقية وتدمير معسكر أسلحة للجانب الإسرائيلي، لكن تتغير طبيعة المهمة عندما يعلموا بوجود أسرى مصريين داخل هذا المعسكر، وتتبدل أولوية المهمة لإنقاذ الأسرى، وبينهم “محمود” (أحمد فلوكس) الضابط وحيد أمه.

أساطير هوليوود يخوضون الحرب العالمية بسلاح الكاميرا (جزء 1)
Sorry To Bother You.. الفيلم السياسي كما يجب أن يكون
الهوية المصرية.. حينما تكون جنسيتك حقيقة بيولوجية | مينا منير | دقائق.نت

إن كنا نتحدث عن السينما المشرفة أو العالمية، أو أي من المسميات التي تستدعي تقدير الآخر، علينا أن نفهم أولا أن سبب تأثر العالم بفيلم سبيلبرج لا يقتصر على الثراء الإنتاجي للفيلم ودموية المعارك وتصوير البطولات وحسب، بل القيمة الإنسانية من وراء القصة أو المورال. “إنقاذ الجندي ريان” ينتهي بنغزة لعاطفة المتفرج، لكن يدعمها بطرح فكرة إنسانية مركبة عن قيمة التضحية والروح الإنسانية، هناك تعليق ومعني من موت شخصية بعينها لأجل أن تحيا شخصية أخرى، في “الممر” لا توجد بوصلة فكرية تسترشد بها القصة، حتى إثارة بعض العواطف لم تكن خاضعة سوى لمبدأ “البكائيات”.

الممر .. نموذج لفيلم مصري طموح، أفسده أن جاءت الإرادة الإنتاجية قبل الإبداعية.

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك