أصل قيامة يسوع المختلف عليها بين الدين والتاريخ | مينا منير

أصل قيامة يسوع المختلف عليها بين الدين والتاريخ | مينا منير

19 Apr 2020
مينا منير دقائق

مينا منير

باحث بجامعة لوزان - سويسرا

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

يحتفل المسيحيون هذه الأيام بعيد القيامة، حيث يقضي المسيحيون الشرقيون تحديدًا أطول أصوامهم وأشقّها قبل هذا اليوم الذي يعتبرونه أهم أيام السنة على الإطلاق. فما هي “قيامة يسوع”؟

تتوقف الإجابة على قناعة المُجيب. إن كان مسلمًا، سيخبرك أن عيسى بن مريم لم يقم لأنه لم يمُت في الأصل بل “رُفِّع”، وإن كان يهوديًا فسيقول إن يشوع الذي من ناصرة الجليل، ذلك المُضلِّل مجهول النسب، مات شر ميتة، ولعل تلاميذه (الحواريين) قد أخفوا جسده ثم ادعوا أنه قام.

أما المسيحيون، فسيقولون إن يسوع قام من بين الأموات في مشهدٍ مهيب، وصعد إلى الله حيث يتلقى المكانة التي تليق بألوهيته.

كل تلك الإجابات عقائدية، أي أنها تكتسب شرعيتها من الوحي الإلهي الذي يقف وراء مصداقية كل ديانة في أعين معتنقها.

لكن، حينما يُقال أن فلانا حدث له شيء،  فإن هذا ليس مجرد معتقد مثل الاعتقاد في فكرة نظرية أو مبدأ مطلق ما مثل وحدانية الله أو قدسية كتاب أو أسماء الملائكة.

نحن هنا بصدد حدث في التاريخ حاله حال أي حدث تاريخي آخر مثل غزو الإسكندر لمصر. فتلك الغزوة ليست فكرة وإنما فعل يُستدل عليه تاريخيًا: إما إنه حدث أو لم يحدث، وبالتالي أنت لا “تؤمن” بمجيء الإسكندر لمصر.

هنا تكمن المعضلة: تلك القيامة المنسوبة لشخص حقيقي وُلد وعاش بيننا تُقدّم كحدث تاريخي، وفي نفس الوقت هي ليست حدثًا طبيعيًا، ولم تأتِ أخباره من نصوص تاريخية.

هذه معضلة المسيحية في العموم، فهي لم تبدأ كديانة بعقائد مُنزلة وإنما أحداث: شخص يولد في مكان ما بطريقةٍ ما، ثم يجول لمدة ثلاث سنوات في منطقة اليهودية ونواحيها يردد أقوالًا ويقوم بأفعالٍ محددة، ثم يُحاكم جهارًا ويُعدم على الملأ، ثم يُنادى به على أنه قام. فكيف تجري معاملته خارج إطار الردود العقائدية؟ بمعنى آخر ماذا يقول المؤرخون؟

التاريخ

في مادة “تاريخ يسوع” في جامعة هارفارد قبل 12 عامًا، كتبت في الورقة الأولى التي قدمتها لأستاذي الألماني: “يسوع المسيح Jesus Christ”. رد في الأسبوع التالي: “في الجامعة لا نقول إن يسوع مسيحًا. هذا معتقد ديني يمكنك أن تحتفي به في الكنيسة، لكن لا يمكنك أن تثبته أو تنفيه. هنا، هو مجرد شاب من الناصرة”. 

هنا، ينظر الباحثون منذ القرن الثامن عشر، خاصةً في ألمانيا وبريطانيا، لأقدام الوثائق المسيحية بعين تختلف عن أعين رجال الدين؛ فالأناجيل ما عادت مجرد أخبار عن أحداث تاريخية، وإنما قُرِأت في سياقها الأدبي التاريخي كنصوص ملحمية لا تختلف عن النصوص الملحمية (biographies of heroes) التي كُتبت عن أبطال وعظماء التاريخ. 

تعبير الإنجيل (Ευαγγελιον) في حد ذاته اصطلاح استُخدم للإعلان عن البشائر العظمى كما هي بشارة (إنجيل) أغسطس قيصر (المُخلِّص، ابن الله) الذي افتتح بمجيئه عصرًا جديدًا من السلام الروماني (Pax Romana)، كما هو مدون على جداريته الشهيرة (1).

ميلاد يسوع كان معجزيًا عذراويًا كما ميلاد أغسطس الذي بُشرت أمه ونالت “البذرة الإلهية” في الهيكل.

الموازيات بين أغسطس المذكور قصدًا في إنجيل لوقا (لو 2: 1) وحياة يسوع تستمر في مشهد معموديته، النبوءات التي تتحقق، فصاحته ومعجزاته (2). 

وبالتالي فإن طبيعة النص الملحمي (Epic) ونوعيته (Genre) وتاريخ أشكال النصوص داخل الأناجيل (ما نطلق عليه بالألمانية Formgeschichte) كلها تحكم طبيعة الخبر الذي يُنقل عن حياة صاحبه؛ عناية الآلهة التي تحرك حياة البطل من أولها لآخرها (Providentia deorum) هي المفسر للحدث التاريخي الذي يكتبه المؤلف، سواء عن القياصرة أو الفلاسفة أو غيرهم. 

حتى أن ذلك النوع من الكتابة عرفه يهود البحر المتوسط وأشهرهم يوسيفوس وفيلون اللذان أعادا كتابة التاريخ اليهودي وملحمة موسى وأنبياء العهد القديم في ضوء بطولات الأدب اليوناني-الروماني المعاصر.

هنا لا يجب أن يختلط الأمر على القارئ: فالتمييز الحاد الذي نعرفه اليوم بين الحقيقة والخيال كان يُعتبر من قبيل السذاجة في الماضي. فالميلاد العذراوي يظل أمرًا غريبًا على الأذن البشرية اليوم كما كان من ألفي سنة، لكنهم من ألفي سنة كانوا من المهارة أن يكتبوا بشكلٍ أدبي مروية ملحمية لحدث تاريخي خلفه، الأمر الذي لا نعرفه اليوم. 

انتزاع الميثولوجيا

في النصف الأول من القرن العشرين، انشغل الباحث الألماني رودلف بولتمان بمشروع عُرف لاحقًا ببرنامج انتزاع الميثولوجيا Demythologising Project وفيه يحاول الباحثون فهم الإطار الميثولوجي للنص التاريخي من أجل إيجاد النواة التاريخية (historical kernel). دراسات بولتمان أسست لنقلة كبيرة في فهم التاريخ داخل الرواية. ومن هنا باتت رؤية حياة يسوع مختلفة تمامًا عما عرفناه من الأديان.

هنا يشكل حدث قيامة يسوع معضلة للمؤرخ، فهو يختلف في شكل نصوصه عن النصوص الملحمية.

على سبيل المثال، لا يصعب على المؤرخ أن يرى القدر العظيم من الموازيات الميثولوجية (mythological embellishments) بين نصيّ الميلاد العذراوي (متى 1: 18- 25 ، لو 1: 26- 38)  وميلاد العظماء والأبطال في المرويات المعاصرة لها.

فتاريخيًا لا يمكن الاستدلال بأكثر من كون يسوع كان بالفعل مجهول النسب، كما هو وارد في نصوص الأدب الرابيني اليهودي، وأن باقي النصوص المسيحية المبكرة تقريبًا لم تأتِ على ذكر الميلاد العذراوي (3).

وبالتالي فالتوثيق التاريخي لا يرجح حدوث الميلاد العذراوي، فيكون يقين الأمر متروكًا للاعتقاد الديني.

أما نصوص قيامة يسوع فلم ترد في نصّين مقتضبين كما هو الميلاد، بل نجده في كل النصوص التي وردت من رسائل، إلى أناجيل، القانوني منها وغير القانوني، وصولًا إلى مصادر غير مسيحية تذكر لنا أن التلاميذ آمنوا بحدث قيامة يسوع(4).

أقدم النصوص التي تتحدث عن القيامة وردت في مجادلة لبولس الرسول مع بعض المسيحيين في مدينة كورنثوس (ما يُعرف برسالة كورنثوس الأولى). النص (1 كو 15: 3 – 8) مكتوب في خمسينات القرن الأول، إلا أن تحليله يُظهر أن له خلفية سامية قد تعود فعلًا لزيارة بولس للرسل في حدود العام 33 ميلادية، أي بعد موت يسوع بحوالي 3 سنوات فقط، مما يعطيه قيمة تاريخية كبيرة.

هنا لا نستطيع أن نقول إن بولس كتب ملحمة أو نصًا ميثولوجيًا، فقد كان خطابًا ينتهي بتحيات وطلبات شخصية.

أما بالنظر في نصوص الأناجيل، نجد أيضًا أن خبر القيامة يأتي في تقليدين منفصلين تاريخيًا: تقليد القبر الفارغ، وأن التلاميذ والرسل قد رأوه. أما تحديد التفاصيل فيستحيل؛ لأن النصوص كُتبت في سياق عقائدي طوع التاريخ لخدمة الجدليات اللاهوتية التي أتت لاحقًا في القرن الثاني.

أخيرًا، نسأل هل عنت كلمة القيامة (أي قيامة الجسد) لدى كُتاب تلك النصوص ما نعنيه بالكلمة اليوم؟

هذا أيضًا اختلف فيه الجميع حينها، فحتى طبيعة الحدث نفسه غير موحدة في النصوص المبكرة.

أكبر من التاريخ

بالتالي، ما يمكن توثيقه تاريخيًا هو أن الاعتقاد في حدث قيامة يسوع لم يكن يخص مجموعة أو طائفة مسيحية، وإنما الجميع، منذ لحظات نشأة المسيحية الأولى، الأمر الذي لا يتوفر تقريبًا في أي قول أو تعليم أو حدث آخر في حياة يسوع.

أما القفزة التاريخية نحو الإيمان بـ قيامة يسوع وتبعات الأمر العقائدية، فهي خارج الإطار التاريخي، متروكةً لتقدير الباحث الشخصي على أقصى تقدير، والقناعات الإيمانية للمصلي والمؤمن.


عن المؤلف مينا منير


 (1) Dittenberger (ed.), W. Orientis Graecae Inscriptiones Selectae )Leipzig: S. Hirzel( 1903–5.

(2) للمزيد انظر سوتينيوس عن حياة أغسطس، وقد كتبها تقريباً في نفس زمن كتاب الأناجيل Suetenius, Lives: Augustus الفصل 94. انظر:

Mina Monier, Temple and Empire: The Context of the Temple Piety of Luke-Acts (Minneapolis: Lexington Fortress Academic, 2020)

—, “Reading Luke in Rome: The Lukan Attitude to the Temple and Roman Pietas,” Studia Patristica 99 (2018): 115-138.

(3) الإشارة غير الملتبسة التالية هي في رسالة لإغناطيوس الأنطاكي في رسالته لأفسس، في مطلع القرن الثاني.

 (1) See Josephus’ Antiquities 18.3.3

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك