محمد عبده “الكافر” الذي أسس جماعات الإسلام السياسي| عبد السميع جميل

محمد عبده “الكافر” الذي أسس جماعات الإسلام السياسي| عبد السميع جميل

10 Jul 2019
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

رغم حلول الذكري ١١٤ على وفاة الشيخ “محمد عبده” إلا إنه لا يزال من أكثر الشخصيات جدلًا في تاريخ مصر الحديث. فهو عند البعض الأب الروحي لجماعات وتيارات الإسلام السياسي. وعند آخرين إمام التنوير وداعية الإصلاح الذي خرج من عباءته كل رموز مصر الثقافية!

كفّره الأزهر في حياته. وتجاهل سيرته وفكره بعد مماته.

يتهمه السلفيون بالماسونية والابتداع والكفر، وبعض المثقفين يتهمونه بالرجعية والتخلف والتسلف. وغالبيتهم يعتبرونه رمزًا للاستنارة والعقلانية، فمن هو “محمد عبده” بالضبط؟

من الميلاد إلى منصب الإفتاء

“محمد عبده”، شيخ أزهري، ولد عام ١٨٤٩م في قرية “محلة نصر” بمحافظة البحيرة. بعد الدراسة في كتّاب القرية التحق بالأزهر، وحصل على شهادة العالمية عام ١٨٧٧م. عمل مدرسًا للتاريخ بمدرسة دار العلوم، ورغم خوفه من ثورة عرابي – لتسببها في وقوع مصر تحت الاحتلال البريطاني – اشترك فيها عام ١٨٨٢م. وحكم عليه بالسجن ثم النفي إلى بيروت بعد فشل الثورة.

 سافر بعد النفي إلى باريس، وأسس صحيفة “العروة الوثقى” ثم عاد إلى بيروت مرة أخرى. وعاد إلى مصر بعد حصوله على عفو من الخديوي “توفيق”، كان تلميذه “سعد زغلول” هو من دفع اللورد “كرومر” إلى التوسط له من أجل هذا العفو. الذي اشترط فيه عدم خوض المجال السياسي مرة أخرى، فوافق “محمد عبده” وتحول مسار حياته من العمل الثوري على طريقة أستاذه “جمال الدين الأفغاني” إلى طريق الإصلاح التدريجي. فانفصل عن الأفغاني الذي كان قد تآمر معه لاغتيال الخديوي إسماعيل شخصيًا: طبقا لقوله: “كنا نتكلم سرا في هذا الشأن، وكان الشيخ جمال الدين موافقًا على الخلع. واقترح على أنا أن أقتل إسماعيل، وكان يمر في موكبه كل يوم على جسر قصر النيل”!.

بعد الانفصال عن جمال الدين الأفغاني وبالتحالف مع اللورد كرومر. عين قاضيًا بمحكمة بنها ثم الزقازيق ثم عابدين، ثم عين مستشارًا في محكمة الاستئناف عام ١٨٩١م، وعين مفتيًا للديار المصرية، ليكون أول مفتٍ رسمي في مصر.

شيخ مجتهد ليس أكثر من ذلك

كانت فتاوى مثل إجازة فوائد البنوك وشهادات التأمين، وتقييد تعدد الزوجات، ورفض الطلاق الشفهي، وإباحة حق المرأة تطليق نفسها، وجواز شق بطن الحامل الميتة لإخراج الجنين، وجواز أكل ذبائح غير المسلمين، وجواز نحت التماثيل، وغيرها من الفتاوى التي انفرد بها “محمد عبده” في عصره، دافعا لاهتمام البعض بالرجل ووصفه بالمصلح والمجدد. خاصة بعدما وجَّه انتقادات حادة للأزهر، ووقف ضد وصاية الأزهر على المسلمين. وقال:

“لكل مسلم أن يفهم عن الله من كتاب الله، وعن رسوله من كلام رسوله بدون توسُّط أحدٍ، لا من سلفٍ ولا من خلف”.

كما حمّل مناهج الأزهر وطرق تدريسه سبب تأخر المسلمين. فهاجم الأزهر هجومًا شديدًا، بقوله: 

“إذا كان لي حظ من العلم الصحيح، فإنني لم أحصّله إلا بعد أن مكثتُ عشر سنين أكنس من دماغي ما علق فيه من وساخة الأزهر. وهو إلى الآن لم يبلغ ما أريد له من النظافة”!.

كما حاول التوفيق بين الإسلام وبين منتجات العلم الحديث. فاستحضر مفهوم العدل عند “المعتزلة” لإثبات مبدأ السببية الذي يقوم عليه العلم الحديث. ومن ثمَّ هاجم أشعرية الأزهر في هذا الباب، رغم أنه ظل على مفهوم التوحيد الأشعري. ولم يأخذ من المعتزلة إلا مفهوم العدل ليؤكد أن الله وضع للعالم قوانين يسير بها. وأعطى للإنسان إرادة حرة للتصرف. وعلى الإنسان أن يفهم تلك القوانين الطبيعية ولا يقف منتظرًا لقوى خارقة لإحداث تغيير في حياته.

نفي وقوع المعجزات في الإسلام، وحاول تقديم تفسيرات عقلانية لآيات مثل الطير الأبابيل فقال إنها أشبه بميكروبات الجدري.

كما انتصر لمفهوم العقل عند المعتزلة، فقال: “إذا تعارض العقل مع النص، يُقدم العقل”. صحيح هو لا ينتصر إلى العقل بمفهومه الحديث، ويقول عن مفهوم العقل عنده، إنه: “تحرير الفكر من قيد التقليد وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف”. ولكن هذا طبيعي من الرجل الذي لا يعدو كونه أكثر من مجرد شيخ مجتهد.


شيخ الأزهر في خطاب المولد النبوي.. إحياء الخطاب السياسي لأنصار الخلافة الإسلامية


أشهر مقولاته

زعم الشيخ “محمد عبده” حين سافر إلى أوروبا وشاهد قيم الحداثة والحضارة الغربية أنه وجد عندهم: “إسلاماً بلا مسلمين، وفي بلادنا مسلمين بلا إسلام”!. متجاهلا بتلك الجملة أن القيم الإنسانية العظيم ليست بالضرورة إسلامية الديانة، وليست حكرا على ثقافة بعينها، وليست ثابتة أو غير قابلة للتطور.

نحن – مثلاً – أبناء ثقافة تُحرم الاختلاط وعمل المرأة ولا تساوي بين الرجل والمرأة في الولاية والشهادة والميراث وحتى الدية. بينما الغرب تخطي هذا كله وبات لديه قيم إنسانية جديدة في التعامل مع المرأة. ويجب أن نأخذ بتلك القيم دون أن نكذب على أنفسنا ونزعم أن تلك القيم الحديثة قيم إسلامية قديمة وموجودة عندنا مسبقًا وأن سر نجاح الغرب استعارتها منا كما يزعم الشيخ “محمد عبده”.

لسنا في حاجة إلى الكذب على أنفسنا حتى نقبل تلك القيم الحديثة بحجة أن الإسلام جاء بها داخل كتالوج جاهز بأفضل ما يكون من النظم والأفعال البشرية. لأن هذا المنطق المشوه الذي استخدمه محمد عبده في تمرير منتجات الحداثة بعدما فرضت نفسها علينا، هو نفسه المنطق الذي نرفض بسببه كل النظم الحديثة الأخرى لعدم وجودها داخل هذا الكتالوج حتى تفرض نفسها علينا. وهو ما حدث بالفعل مع إلغاء الرق والجزية والخلافة واستبدال بذلك كله قيم المساواة والمواطنة والمدنية. وشتى النظم الأخرى مثل الاشتراكية والرأسمالية والديمقراطية التي كنا نحاربها ونزعم اليوم أنها من الإسلام.

استنارة مشوهة

لكي يتم تسويقه إمامًا للتنوير تم تحويل عنوان كتابه من “الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية” إلى “الإسلام دين العلم والمدنية”!. وتمت مقارنته دائماً بالتيار السلفي الوهابي حتى تظهر استنارته أكثر. وتم التغافل تمامًا عن مناظرته الشهيرة مع “فرح أنطون” حتى لا يظهر على حقيقته مجرد شيخ مجتهد. فقد تمسك في تلك المناظرة بالخلافة والحكم المطلق والهوية الدينية. ورفض العلمانية والديمقراطية والمواطنة. وأعلن صراحة ميله إلى فكرة “إنما ينهض بالشرق مستبد عادل”. 

ولم ينحز لأي دور للجماهير في التغيير. فكان من أنصار تكوين نخبة وصفوة تقود المجتمع “إنما السلطة للصفوة المستنيرة”. و”ليس من الحكمة أن تعطى الرعية ما لم تستعد له”. صحيح أنه انتقد حكم العثمانيين وجعلهم سبب تأخر المسلمين، ولكنه انتصر لفكرة الخلافة العثمانية ذاتها، وقال:

“لا يوجد مسلم يريد بالدولة العثمانية سوءا.. أما الخلافة فلابد من إعادة إقامتها على أساس روحي أكبر”. كما رفض “المواطنة” وانتصر لفكرة الهوية والرابطة الدينية، وقال: “لأبذل ما في وسعي لإحياء الأخوة الإسلامية”. لقناعته بأنه “لا يجوز لمسلم أن يقبل سلطان غير المسلم”!.

المفكر الراحل “علي مبروك” يرى خطاب “محمد عبده” قائما من الأصل على التلفيق والتجاور بين المتناقضات. فهو يمرر الحداثة عبر مفاهيم تراثية مناقضة لها. وهذا ما يفسر لنا سر ولادة خطابه لمدرستين متناقضتين تمامًا؛ الأولى مدرسة نقد التراث التي كان من أشهر تلامذته فيها “قاسم أمين” و”على عبد الرازق” و”طه حسين” وغيرهم. والثانية مدرسة الإسلام السياسي التي أنتجها تلميذه “محمد رشيد رضا” الذي أصبح أستاذ “حسن البنا” مؤسس الإخوان. والذي كان حلقة الوصل بين السلفية (الوهابية) والإخوان عندما جعل مجلة “المنار” الناطق الرسمي باسم السلفية بعد وفاة “محمد عبده”.

صحيح هو يعلن مخالفته لعبده، بقوله: “لما استقللت بالعمل بعد وفاته، خالفت منهجه”. ولكن هذا لا يبرئ خطاب عبده من التناقض.


الإسلام وأصول الحكم.. قصة كتاب كشف ملامح مصر بعد ثورة 1919


ملف أفخاخ الإسلاميين في دقائق


رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك