الاختيار.. بدأ قويًا ثم تعثر بين المخاطرة والمهادنة | أمجد جمال

الاختيار.. بدأ قويًا ثم تعثر بين المخاطرة والمهادنة | أمجد جمال

9 May 2020

أمجد جمال

ناقد فني

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

نجاح مسلسل الاختيار بدأ فعليًا في 6 أكتوبر 2019، وهي ليلة عرض فيلم الممر على القنوات الفضائية المفتوحة.. ليلة الالتفاف الشعبي غير المسبوق حول “عمل فني”.

كان أمرًا غايةً في الإيجابية رغم تحفظاتي الفنية على الفيلم. لا زلت عند رأيي بأن الإرادة الإنتاجية في صناعته سبقت الإرادة الفنية، لكن يبقى اعترافي بأن تلك الإرادة الإنتاجية كانت بعيدة النظر عندما لمست وجود تعطش قوي لهذه الأعمال في ذلك التوقيت تحديدًا. بل أن السوق ما يزال يحتاج للمزيد.

 وإن كان مسلسل الاختيار للمخرج بيتر ميمي والمؤلف باهر دويدار يأتي ليعزز إشباع الجمهور بتلك الأعمال، فقد تفوق – من وجهة نظري – على الممر حين اختار الطريق الأصعب والمحفوف بالمخاطر والمهدد بالمزايدات، وخاض بعض الرهانات الفنية والموضوعية الرابحة في الحلقات السبع الأولى، جعلت منه واحدًا من أهم مسلسلات الموسم الرمضاني.

وإن كانت البداية القوية لم تستمر طويلًا، وواجهت الحلقات التالية بعض التعثرات الدرامية.

 اختيار المعركة

نبدأ بمميزات مسلسل الاختيار. البعض يصنف تلك الأعمال باعتبارها “بروباجاندا”، وإن كانت كذلك فالبروباجاندا ليست مشكلة. 

تاريخ السينما وتطور تقنياتها على مدار 100 سنة مدين بالفضل لمخرجي البروباجندا. المشكلة تتركز في: كيف تُصنع البروباجاندا بشكل فني مقنع، وتنجح في أن تكون بروباجاندا فعلًا، فلا ترتد عكسيًا كنيران صديقة تنال من أصحابها.

فرانك كابرا عجز عن صناعة فيلم عسكري أمريكي يرد على أفلام ألمانيا النازية؛ لأنها في رأيه كانت شديدة الإتقان والإبهار، فاكتفى بإحضار تلك الأفلام وعرضها للجنود الأمريكيين كي يتأكدوا من صدق الخطر الذي تمثله النازية على العالم، وهو حدث بمثابة درس لكل من يستهتر بالبروباجاندا باعتبارها نقيضا حتميا للفن.

ولإن كان الاختيار والممر قد اتفقا على سبب أول وراء صناعتهما، فسيكون الاصطفاف الشعبي للمصريين خلف جيشهم في المعركة النبيلة ضد المجرمين والمهاويس دينيًا التي نخوضها الآن.

لكن الممر لجأ للتاريخ كاستعارة عن معارك الحاضر، فاستحضر معركة الماضي مع إسرائيل بهدف تذكير المصريين بالدور المفصلي للجيوش في حفظ توازن الأمم،

بينما يفعلها الاختيار مباشرة، ويحدد عدو المرحلة نفسه، عدوا لم تبرد خصومتنا معه بفعل السنين، ولم تجف الدماء التي أسالتها هذه الخصومة، رمزيًا أو حرفيًا.. لا تنس أن الاختيار أحيانًا تقطعه نشرات وعناوين إخبارية عن أعمال خسيسة ما زالت تستهدف جنودنا. 

نحن في معركة بالفعل، تحاربنا فيها جماعات الإسلام السياسي لا إسرائيل، والراديكالية الفنية بمعناها الجذاب تقتضي نبذ المجازات والتوريات كما فعلها الاختيار.

الاقتصاد في عرض السياسة

مسلسل الاختيار بدا شديد السخونة في الحلقات الثلاث الأولى. يمزج بين الوثائقي والدرامي باحترافية، ويستعيد ذكريات سياسية لواحدة من أسوأ الفترات في تاريخنا المعاصر. يذكرنا بكيف بدأت الخصومة، وكيف تطورت إلى حرب. 

بعض المتحمسين لمسلسل الاختيار تمنوا أن يحافظ على تلك الوتيرة السياسية في أحداثه بالتوازي مع خط قصة الشخصيتين الرئيسيتين في العمل، البطل أحمد منسي والإرهابي هشام عشماوي.

 لكن المسلسل خان توقعاتهم، ومع الحلقات التالية ظل التركيز منصبًا على الخطوط الدرامية الأساسية للعمل: الشخصيات والإنسانيات وسيناء، مع تجاهل الأحداث السياسية الكبرى في القاهرة، ولم يتوقف كثيرًا على أحداث مثيرة بعينها، تمنى البعض لو كان أفرد لكل حدث منها حلقة كاملة.

 بيتر ميمي وباهر دويدار هنا كانا أمام اختيار مثل اختيارات أبطالهما، والثنائي اختارا المسلك الفني الإنساني على حساب البورنو السياسي، حتى لو خيّب ذلك عشم الجمهور؛ لأن الاختيار الفني سيضمن إبقاء فكرة أن معركة الإرهاب مع البشر العاديين قبل أن تكون مع السلطة السياسية. 

كذلك، فهذا الاختيار الفني يضمن أيضًا التأكيد على أن خطر الإرهاب الديني ليس مربوطًا شرطيًا بالمشهد السياسي، وأن هؤلاء المجرمين سيجدون في كل وقت ومكان ذرائع ليمارسوا العداء ضد المجتمع الحديث. 

الكُتاب العظماء وخبراء السيناريو أجمعوا أن التحدي الأكثر قسوة أمام كل كاتب ليس في ما يختار أن يمرره بل في ما يختار أن يحجبه ويختصره.

ضيوف الشرف 

عبارة “ضيف شرف” تحولت في السنين الأخيرة للمعنى النقيض. لم يعد في الظهور أي شرف، خاصة وقد زادت هذه السمة عن الحد، وأتت على الندرة التي كانت تجعل للظهور قيمة، لدرجة أن نجومًا بعينهم اتخذوها كمهنة جديدة، وأتمنى ألا يظهر هؤلاء تحديدًا في الاختيار.

المسلسل أعاد الاعتبار لفكرة “ضيف الشرف”، والعكس صحيح، أعطى فرصة لكل نجم وقع عليه الاختيار ليعبر عن مشاعره الوطنية بدور يخلد ذكرى شهيد، ويخلد صورة النجم نفسه في عمل فني ملحمي بالمعنى الحقيقي، ولديه العزم ليبقى طويلًا في ذاكرة الأعمال الوطنية. 

كذلك استفاد المسلسل بالنتيجة الشعورية عند المتلقي بظهور نجم محبوب ثم استشهاده داخل الأحداث؛ فالألفة السابقة لدى الجمهور عن النجم تزيد من التأثر عند رحيله، وبالتالي تختزل صفحات مهمة من الدراما. فالشهيد هنا ليس مجرد رقم، بل شخص نعرفه جيدًا.

تامر كروان 

يبدو من مقدمة اتتر أن تامر كروان راجع أعمال مخرج العمل بيتر ميمي السابقة وتوقف عند موسيقى تتر كلبش تحديدًا، فهناك تشابه نسبي بين المقطوعتين، بفارق لصالح الاختيار بالطبع، حيث حافظ كروان على ملحمية التيمة الرئيسية للعمل باستخدام الوتريات بنفس الشكل الإيقاعي السيمفوني بتكنيك Spiccato، لكنها هذه المرة ملحمية مخدومة بعمق ورهافة وشجن.

موسيقار محترف يعي كيف يتلوّن بموسيقاه وينتقل من عوالم كاملة أبو ذكري وتامر محسن لعالم بيتر ميمي دون أن يخسر شخصيته في أي مرة.

لاحظت استخدامه لآلة الكلارينيت بشكل منفرد في مشاهد المعسكرات الحربية بنفس الطريقة التي استخدمها عمر خورشيد في “الرصاصة لا تزال في جيبي”، وهي تحية ذكية، أو تأثر في محله.

موسيقى مسلسل الاختيار لها وعي، ومثلما تعمل كشاهد على البطولات والتضحيات، تعمل كذلك كشاهد على الخسة والجبن.

 التعثر بين المخاطرة والمهادنة

 التعثر بين المخاطرة والمهادنة من أكثر النقاط المحيرة في المسلسل؛  فسبب تميزه الرئيسي هو نسبة المخاطرة العالية في عدد من العناصر، وعلى المنوال نفسه، جاءت أبرز عيوبه في المهادنة.

بين المخاطرة والمهادنة فقد المسلسل النبرة الموحدة.

أبرز سمات المخاطرة الفنية أنه يحكي قصة حقيقية نعرف جيدًا نهايتها، وهو ليس أمرًا بسيطًا، خاصة وأننا نعيش عصر دراما التويست حين يكتب المؤلفون الآن يكتبون “التويست” قبل كتابة العمل نفسه!

أيضًا، الاختيار مسلسل عن الإرهاب الديني المنسوب لجماعات إسلامية، ويقوم بإخراجه اسم تفوح منه الهوية المسيحية، وهي نقطة شديدة الإيجابية مهما استغلها المزايدون.

هي نقطة تؤكد أن من يقفون خلف هذا المسلسل لم يسيروا خلف الاختيارات الآمنة، بل الاختيارات الأفضل؛ فبيتر ميمي الآن طاقة إخراجية شابة لا يستهان بها، يتفوق بطموحه وعصريته على مخرجين مخضرمين شابت رؤيتهم وخملت طاقاتهم. إضافة إلى التأكيد على أنه ليس صراعًا بين المسلمين وغيرهم، بل صراع بين الوطن وأعدائه.

الاختيار بدا أقل اعتذارًا، وشعار إدارة الشؤون المعنوية للقوات المسلحة – وهي من الجهات المنتجة – يتصدر تتراته بعلنية غير مسبوقة في الدراما والسينما المصرية. والأحداث تتبنى وجهة نظر الدولة الرسمية دون تنكر.

حواراته غارقة في الحجج والمناظرات الفكرية عن مفاهيم الجهاد والتكفير والحاكمية، بعضها وقع في فجاجة المباشرة، وبعضها نجا، أخص بالذكر أفضلها في المشهد الذي يخطب فيه المنسي في عساكره ويحاججهم عن سبب وجودهم في الجيش، وأيًا كان رأيك في مفهوم التجنيد الإجباري، لا تملك إلا تقدير هذا التتابع الحواري، وما به من حجة.

لا يلتزم المسلسل بالتعقيد في رسم شخصياته فمعظمهم نماذج نمطية من الخير والشر والعادية.

هشام عشماوي شخص كريه مبالغ في تصوير كراهته؟ لا مشكلة في ذلك، وهو في الحقيقة سفاح أقر بجرائمه صوتًا وصورة.

وعلى عكس المتوقع، تلك الراديكالية جعلت المسلسل أكثر صراحة وصدقًا فيما يعرضه، لكنها تأثرت لاحقًا بنبرة غير منسجمة من المهادنة تلخصت في التأكيد المبالغ فيه على تدين الطرف الوطني وحرصه على أداء الطقوس الدينية في موعدها، وفي خطب رنانة صمم مؤلف العمل أن يدرجها على لسان البطل ويملأها بالاستشهادات الفقهية والآيات والأحاديث التي يمكن تفهمها من رجل دين لا قائد حربي، الأمر الذي حوّل صراع المسلسل وصراع واقعنا من سؤال عن قيمة التضحية وبديهية حماية الوطن والأرض في كل الظروف، إلى تحدٍ فقهي ومزايدات دينية ومناظرات عمن الأكثر إيمانًا وفهمًا لصحيح الدين.

أتفهم أن الحرب لها بُعد ديني فقهي، وبالتالي فالمحاججة بهذا المنطق دائمًا مطلوبة عند طرفي الصراع، لكنها ليست السؤال الجوهري، ولا يجب أن تزيد عن قدرها الطبيعي سواء في الواقع أو في الدراما.

المشكلة الأخرى أن المسلسل منذ حدث محاولة اغتيال وزير الداخلية، الذي تم تصميمه وتصويره بإتقان مبهر خاصة بتغذيته بلقطات أرشيفية من الواقع توضيحًا لقدر الجهد الذي بذله فريق العمل اهتمامًا بالتفاصيل، لكنه منذ تلك الحلقة وقع في فخ المط والتطويل مثله مثل بقية أعمال الموسم، فزادت حصة جلسات الحوار على المصاطب بين الشخصيات على حساب الحدث والصورة، وانشغلنا بخطوط أسرية فرعية، وبات النمط محفوظًا ومتوقعًا بعملية إرهابية في حلقة يعقبها الرد بعملية عسكرية للثأر في الحلقة التالية، وبين العمليتين كثير من الحشو والإطناب.

وهو عيب أتمنى أن يتداركه صناع المسلسل في الحلقات التالية.

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك