البنك المركزي التركي يعترف علنًا للمرة الأولى باستخدام ما يمكن اعتباره “خدعة بسيطة لكن مؤثرة” في إعلانه عن احتياطي النقد الأجنبي الذي تملكه البلاد.
الاعتراف جاء بعد تحليلات أجرتها صحيفة “فاينانشال تايمز” كشفت لجوء البنك المركزي التركي لنظام مقايضة العملة للتلاعب بحقيقة أرقام احتياطي النقد الأجنبي التي تعلنها السلطات المالية التركية دوريًا، لتوضع مصداقية البنك على المحك.
فماذا كشفت التحليلات؟ ومتى ولماذا لجأت تركيا لهذه اللعبة؟ وما تأثيرها المتوقع على السوق؟ الإجابة عبر:
وفق عمليات قصيرة جدًا وعالية المخاطر، يحصل البنك المركزي التركي على قروض تبادلية بالدولار من البنوك المحلية، وفق اتفاق مسبق يضمن إجراء صفقات مقابلة (رد الدولار إلى البنوك) في وقت لاحق.
مستثمرون تحدثوا لـ “فاينانشال تايمز” قالوا إن العملية تستمر أسبوعًا واحدًا في الحالة التركية، وتهدف لرفع أرقام احتياطي النقد الأجنبي المعلنة، لكنها لا تعكس حقيقة تحكم البنك المركزي التركي في هذه الاحتياطيات.
تراجعت الليرة التركية لفترة وجيزة في أواخر مارس/ آذار، وسط مخاوف من انخفاض حاد في احتياطي النقد الأجنبي، في ارتداد للأزمة التي اجتاحت العملة المحلية الصيف الماضي، وتسببت في انفجار لمعدلات التضخم وأول حالة ركود في تركيا منذ عقود.
بنهاية المطاف عاودت أرقام الاحتياطي النقدي التي أعلنها البنك المركزي التركي الارتفاع عن طريق مليارات الدولارات من أموال القروض قصيرة الأجل.
بلغ الاقتراض قصير الأجل للبنك المركزي ما يصل إلى 13 مليار دولار بحلول 8 أبريل/ نيسان، في زيادة حادة عن الأرقام المسجلة بين أول يناير/ كانون الثاني و25 مارس/ آذار، عندما لم يتجاوز الاقتراض 500 مليون دولار، وفقًا لأرقام البنك المركزي المتاحة من خلال خدمة بيانات بلومبرج.
اقترض البنك المركزي التركي العملة الأجنبية من البنوك المحلية، التي تغمرها الدولارات بعدما اندفع الأفراد والشركات على العملة الصعبة كملاذ آمن.
الأمر لا يقتصر على ذلك، فالزيادة في الاحتياطيات لا تتطابق بدقة مع حجم الاقتراض الذي حصل عليه البنك المركزي من خلال مقايضة العملة، مما أثار تساؤلات حول ما إذا كانت بعض الأموال المقترضة قد استخدمت لدعم الليرة.
تلك الممارسات تزامنت مع الانتخابات البلدية، التي كان يتخوف الرئيس رجب طيب أردوغان من نتائجها، والتي أدت بالنهاية لخسارة حزب العدالة والتنمية الحاكم للبلديات المفتاحية، وأهمها العاصمة أنقرة، والمدينتين الأكبر إسطنبول وإزمير.
بدأت مخاوف تظهر بين المستثمرين والمحللين في مارس/ آذار من أن البنك المركزي التركي كان يحرق رصيده من العملة الصعبة لإبقاء الليرة ثابتة في الفترة التي تسبق الانتخابات البلدية التي أجريت في آخر أيام الشهر.
وانخفض صافي الأصول الأجنبية في تركيا بمقدار 9.4 مليار دولار بين 6 و22 مارس/ آذار، لتصل إلى 19.5 مليار دولار، وهو أدنى مستوى لها على أساس الدولار الأمريكي منذ 2007.
لكن بحلول 5 أبريل/ نيسان، انتعش الرقم فجأة إلى 23.6 مليار دولار، مدعومًا بزيادة بقروض قصيرة الأجل من البنوك المحلية (مقايضة العملة).
خمسة مستثمرون ومحللون درسوا ممارسات البنك المركزي التركي في الأسابيع الأخيرة عن كثب نقلوا مخاوفهم حول احتياطي النقد الأجنبي في تركيا إلى فاينانشال تايمز.
تقول الصحيفة إن المستثمرين والمحللين تخوفوا من الحديث علنًا في القضية على خلفية إطلاق السلطات التركية تحقيقًا حول نصائح أصدرتها جي بي مورجان الشهر الماضي للعملاء ببيع الليرة التركية.
أجرت الصحيفة تحليلاتها الخاصة، والتي أظهرت تذبذب صافي الأصول الأجنبية، المحسوبة بخصم التزامات البنك المركزي الأجنبية من أصوله وتحويلها إلى دولارات، ارتفاعًا وانخفاضًا بالتوازي مع قروض قصيرة الأجل حصل عليها البنك المركزي من البنوك المحلية بأسلوب مقايضة العملة.
باستثناء تلك القروض، بلغ صافي الأصول الأجنبية أقل من 11.5 مليار دولار خلال أبريل/ نيسان بأكمله، منخفضًا من 28.7 مليار دولار في بداية مارس/ آذار على نفس الأساس.
تأثير معاملات مقايضة العملية يظهر بشكل أكثر وضوحًا في الميزانية اليومية (أرصدة البنوك من العملات الأجنبية) للبنك المركزي، والتي تحتوي أرقام صافي الأصول الأجنبية والالتزامات، التي فحصها المحللون بشكل مكثف في الأسابيع الأخيرة.
بحسب إعلان البنك المركزي التركي في أوائل أبريل/ نيسان، بلغ صافي احتياطي النقد الأجنبي 28.1 مليار دولار، لكن الحسابات التي أجرتها “فاينانشال تايمز” تشير إلى أن هذا الإجمالي تعزز من خلال الارتفاع غير المعتاد في استخدام الاقتراض قصير الأجل “مقايضة العملة” بعد 25 مارس/ آذار.
حسابات “فاينانشال تايمز” نفسها توصلت إلى أن احتياطي النقد الأجنبي في تركيا لن يتجاوز 16 مليار دولار حال استبعاد عمليات مقايضة العملة.
حتى قبل الكشف عن لجوء تركيا لمعاملات مقايضة العملة كان المستثمرون يتخوفون من ضخ أموالهم في السوق التركي وسط شكوك حول اتجاهات السياسات الاقتصادية للرئيس رجب طيب إردوغان، لكن الكشف الجديد يعزز حالة القلق من ضعف الدفاعات المالية للتركية للدفاع عن اقتصاد البلاد في مواجهة أية أزمة سوق محتملة.
وأبدى مستثمرون تخوفهم من أن احتياطي النقد الأجنبي الذي تملكه تركيا لا يكفي لسد حاجتها الشديدة للدولار لتغطية الديون والتجارة الخارجية.
وأثار الكشف مخاوف بين المحللين والمستثمرين من أن تركيا تبالغ في تقدير قدرتها على الدفاع عن نفسها في أزمة الليرة الجديدة.
وتظهر بيانات ريفينيتيف أن الليرة التركية انخفضت بـ 1.9% في التعاملات الصباحية في لندن يوم الخميس، ليصل الدولار الواحد إلى 5.847 ليرة، وهي أضعف نقطة تسجلها العملة التركية منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2018.
البنك المركزي التركي اعترف لأول مرة بتأثير ممارسة مقايضة العملة على أرقام احتياطي النقد الأجنبي المعلنة، ردًا على سؤال لـ “فاينانشيال تايمز” بعد كشف نتائج التحاليل، لكنه زعم أن طريقته المحسابية كانت “متوافقة تمامًا مع المعايير الدولية”.
يؤكد البنك المركزي أن معاملات العملة كانت من بين الأدوات العديدة التي استخدمها “للمساهمة في كفاءة ومرونة البنوك المحلية في إدارة السيولة”، مضيفًا: “يدير البنك المركزي التركي، مثل البنوك المركزية الأخرى، جميع احتياطياته الإجمالية التي يمكن استخدامها بحرية لتلبية الالتزامات ومجموعة من أهداف السياسة”.
ورفض البنك المركزي التعليق على حقيقة استخدام تلك الممارسات للتأثير بطريقة ما على نتائج الانتخابات البلدية، كما لم يرد على أسئلة حول عدم التطابق بين حجم القروض التي حصل عليها والزيادة في الاحتياطي النقدي الأجنبي، أو ما إذا كان استخدم تدابير لدعم الليرة التركية بعد انتخابات 31 مارس/ آذار.
البنك المركزي التركي أكد أيضًا أن الدولارات المقترضة في الجزء الأول من هذه المعاملات “الوارد من البنوك المحلية” تضاف إلى الميزانية العمومية، لكن الالتزام برد الدولار لاحقًا يسجل كبند خارج الميزانية العمومية.
وينتقد البنك المركزي تركيز المحللين على صافي احتياطي النقدي الأجنبي، زاعمًا أن تدابير كفاية الاحتياطات الدولية تستخدم الأرقام الإجمالية لاختبار استعداد البلد. وبلغ إجمالي احتياطيات تركيا الأجنبية حوالي 77 مليار دولار في الأسبوع الأول من أبريل/ نيسان.
مسؤول كبير سابق في البنك المركزي التركي طلب عدم ذكر اسمه انتقد الممارسات التي لجأ إليها البنك لتعزيز احتياطي النقد الأجنبي لديه، ليؤكد تيم آش، خبير الأسواق الناشئة الاستراتيجي في بلوباي أسيت مانجمينت للخدمات المالية في لندن أن “ثمة قلقا عاما بشأن ما يجري خلف الكواليس”، محذرًا من أن غياب الشفافية يقوض مصداقية البنك المركزي التركي الهشة فعلًا.
ويطالب بعض المستثمرين بتجريد الأموال الناتجة عن عمليات مقايضة العملة من صافي بيانات الاحتياطي الأجنبي.
بيوتر ماتيس، استراتيجي عملات الأسواق الناشئة في رابوبنك، يقول إن استخدام مقايضة العملة يبدو نوعًا من تزييف الحقائق لخلق انطباع بوجود احتياطيات أعلى.
جوليان ريمر، متخصص في تداول الأسهم في الأسواق الناشئة في إنفستك بنك، يصف عمليات البنك المركزي التركي بـ “أقل شفافية إلى حد ما، مضيفًا: “لا أعتقد أن هذه العمليات سارت وفق المتبع. لا يمكن لبنك مركزي أن يخاطر بأن ينظر إليه على أنه يختصر الحقيقة”.
ورغم مطالبة البنك المركزي التركي للمحللين بالتركيز على الإجمالي وليس الصافي، لكن العديد من المحللين يرون أن إجمالي المبالغ والصافي غير كافٍ لبلد يعاني من تقلب العملة، وديون خارجية قصيرة الأجل تبلغ 177 مليار دولار مستحقة السداد في الأشهر الـ 12 المقبلة.
يقول تيم آش: “خلاصة القول هي أنه ليس لديهم ما يكفي، سواء كان صافيًا أو إجماليًا. السوق بالكامل يعلم أن تركيا ليس لديها احتياطيات كافية من العملات الأجنبية لتكوين دفاع مستدام وموثوق به عن الليرة “.