هل كان الأستاذ رشاد جاسوسًا؟! دليل المخابرات الأمريكية لأكثر طرق التجسس مللًا وتخريبًا | مينا منير

هل كان الأستاذ رشاد جاسوسًا؟! دليل المخابرات الأمريكية لأكثر طرق التجسس مللًا وتخريبًا | مينا منير

3 Feb 2019
مينا منير دقائق

مينا منير

باحث بجامعة لوزان - سويسرا

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

موظف الحكومة شديد البيروقراطية أحد أكثر الشخصيات نمطية في حياة المصريين. مادة ثرية للسخرية في الأفلام والمسلسلات. يتعمد تعطيل أوراقك في المصلحة الحكومية التي يعمل بها؛ طمعًا في رشوة، أو لأنه ببساطة لا يريد أداء عمله.

الإرهاب والكباب

فيلم “الإرهاب والكباب” تحديدًا يصور هذا الوضع بشكلٍ ساخر، فنرى الأنماط المختلفة من هذا الموظف تجتمع تحت سقف مجمع التحرير. يجد عادل إمام نفسَه مضطرًا للتردد على المصلحة لمدة شهر؛ لأن الأستاذ رشاد لا يريد ببساطة التأشير على ورقة نقل أولاده.

الأستاذ رشاد يداوم على الصلاة في غير وقتها، بينما الموظفة التي تقوم بدورها إنعام سالوسة لا تفرغ من النميمة على الهاتف، أما الأستاذ مدحت – صاحب الشأن – فلا يظهر أصلًا.

وسط هذا الوضع المؤلم، يتعطل عادل إمام، فلا يزاول عمله في شركة المياه، لتؤثر العطلة غير المبررة في مجمع التحرير على كفاءة محطة المياه.

تخيل معي كم من شخصٍ مثل عادل إمام تعطلت أعماله بسبب هذه المجموعة الصغيرة في أحد مكاتب مجمع التحرير! كم مجموعة مماثلة ضمن السبعة ملايين موظف في الجهاز الإداري للدولة! وبالتالي كم حجم التدمير الهائل الذي تسببه البيروقراطية!


أفّاق بدرجة مستشار: إسرائيل بير تجسس على بن جوريون فتجسست عليهما مصر

فوضى على ضفاف النيل.. كتاب عن دونالد ماكلين يكشف صراع المخابرات في مصر الملكية


الجاسوس الموظف.. خطة ويليام دونوفان

هذا السؤال طرحه ضابط المخابرات الأمريكي ويليام دونوفان في ثلاثينيات القرن الماضي. رأى دونوفان أن تأثير البيروقراطية المدمر يمكن استخدامه لتدمير البنية التحتية للدولة المعادية، دون أن تدرك حكومتها ما يحدث.

حينما صار ويليام دونوفان رئيسًا لجهاز الخدمات الاستراتيجية OSS، والذي سيتحول لاحقًا لجهاز المخابرات المركزية الأمريكية CIA، قاد الخطة التي كان لها أثر بالغ في تحجيم إنتاج وقدرات الدول المعادية، سواء في الحرب العالمية الثانية أو بعد ذلك في الحرب الباردة، فأطلقوا عليه Wild Donovan.

كانت الخطة تقضي بتجنيد الموظفين النمطيين لممارسة البيروقراطية المعتادة لتخريب القدرات الحكومية في نطاقهم دون ممارسة أي أعمال مشبوهة أو خطيرة.

كل ما هو مطلوب منهم أن يكونوا مثل الأستاذ رشاد حتى وإن عُرضت عليهم الرشوة. في 1944، وضع ويليام دونوفان الخطة، فيما يشبه دليل إرشاد سري يجري تعميمه على أقسام الجهاز، والتي تعمل على مواجهة دول المحور (ألمانيا، اليابان وإيطاليا) لتنظيم هذا العمل التخريبي في الهيكل الحكومي لتلك الدول.

دليل التخريب المنخفض

منذ وقتٍ قريب رُفع وسم السرية عن الدليل وصار متاحًا للباحثين، بعد إخفاء بعض المواد: The Simple Sabotage Field Manual.

ويليام دونوفان

يشرح ويليام دونوفان في مقدمة الدليل أن التخريب على أرض الدولة المعادية يمكن أن يحدث بطريقتين: التخريب العالي Sabotage as a coup de main، والذي يحتاج تقنيات معقدة وعملاء على قدر عالٍ من التدريب لإسقاط الأنظمة، أو التخريب المنخفض، المعروف اصطلاحًا “Human Element”، والعلو أو الانخفاض هنا يكونان على مستوى الشريحة المستهدفة وليس مدى التأثير. فالتخريب المنخفض يمكنه تحقيق اهتزازات عنيفة تشل قدرات وإمكانيات الدول أو الأنظمة المستهدفة، وهي محور الوثيقة المذكورة.

أدوات التخريب في الحالة الثانية ليست بنادق أو مدافع، وإنما يمكن أن تكون أوراقًا وأقلامًا، أو حتى طباعات وأختام. تستهدف العملية البحث عن عميل يعمل ببساطة في مصلحة حكومية أو هيئة بيروقراطية يشغل فيها وظيفة متوسطة، ليتحول إلى المخرب الأساسي Chief Saboteur الذي يجري خلاله تجنيد موظفين آخرين في المصالح المختلفة لتنفيذ عملية التخريب الروتيني Sabotage Routine باتخاذ إجراءات وخيارات اعتيادية جدًا وقانونية وغير ملفتة للنظر.. فقط الإجراءات الأبطأ والأقل إنجازًا.

يخبرنا ويليام دونوفان أنه وقت كتابة الدليل (1944) كانت المخابرات الأمريكية تدير بالفعل سلسلة كبيرة من الموظفين المخربين في شتى دول أوروبا التي كانت خاضعة للسيطرة الألمانية، ويضيف أن السلسلة أثبتت نجاحًا ملموسًا في توجيه الخيارات الإدارية بما أدى إلى إبطاء قدراتها الإنتاجية.

يخضع المخرب The Saboteur لتدريبات على طريقة إبطاء وتسويف قراراته، والبعد عما اعتاد عليه من خيارات نشطة، وتحويله سيكولوجيًا إلى الأستاذ رشاد.

لا أخفي أنني ضحكت كثيرًا حينما قرأت أنواع القرارات التي يجري تشجيع الموظف المخرب على اتخاذها؛ لأنها ببساطة ما نراه بشكل يومي في المصالح الحكومية.

جاسوسية حرامي الشنقل

على المستوى الصناعي مثلًا، يُنصح المخرب بتجنب إغلاق صنابير المياه بإحكام، والتغاضي عن توفير محارم ورقية في المراحيض، وخفض مستوى نظافة المكان عمومًا، وترك الأتربة وأية أدوات صغيرة لتعلق في فوّهات التبريد والتدفئة، إلخ، من أشياء بسيطة قادرة على خفض كفاءة المكان.

أما على مستوى الإدارة، فينصح ويليام دونوفان الموظف المخرب بتجنب الطريق الأقصر أو الأسرع لإنجاز معاملة إدارية (تجنب الـ Short-cuts). الإكثار من الكلام والخطابة (Speechifying the situation)، مع دس الكثير من التعليقات الوطنية بسبب أو غير سبب، وتشكيل لجان تنبثق عن لجان، والعمل على دراسة كتابة لوائح إضافية. هذا يذكرنا أيضًا بالمشهد الشهير بـ “لجنة حرامي الشنقل” في فيلم أرض النفاق.

أما التوجيه الألطف فهو في أن يكون الموظف “منطقيًا وحذرًا” بشكل مبالغ فيه، وبذلك يقوم بتبرير اتخاذ كم مبالغ فيه من المراجعات بحجة الحفاظ على المال العام.

وبالطبع لدينا إجراء الإكثار من إصدار الأوراق والوثائق والتي تتطلب الوقت الطويل لجمعها وتوثيقها من مصالح حكومية مختلفة، ويا حبذا إذا فُقد بعضها.

الوثيقة تتضمن قائمة طويلة ومفصلة لتوجيهات على هذا الشكل. تدفع للسؤال عما إذا كان يمكن تنفيذ هذا “التخريب” في دولة بها هيكل إداري ضخم يمارس فيه الموظفون كل هذه الأمور التخريبية كجزء أصيل من ثقافتهم البيروقراطية؟

باقية وتتمدد

على أي حال، يبدو أن خروج ويليام دونوفان وفريقه من الخدمة بعد التقاعد، جعل ثقافة التخريب الوظيفي نفسها وسيلة يمكن التوصية بها في القطاع الخاص.

بالبحث يمكن قراءة كيف أن شركات قطاع خاص متنافسة، ومنها شركات مشروبات شهيرة، نفذت هذه الخطط، وأنفقت الأموال لتحويل الهيكل الوظيفي في الشركات المنافسة مماثلًا لمكتب مجمع التحرير الذي تسبب في جنون عادل إمام في فيلم الإرهاب والكباب.

في المرة القادمة، إذا واجهت حالةٍ كهذه في السجل المدني أو الشهر العقاري ، تذكر أن الأمر قد يكون أكبر من مجرد عدم وجود حبر في الطابعة، أو أن الأستاذ رشاد مشغول بالصلاة، أو أن الأستاذة اعتماد انصرفت مبكرًا لحصولها على ساعة الرضاعة، رغم أنها ليس لديها أطفال.

وإن كان الأمر مجرد “فانتازيا” فمجرد التفكير في الأمر بهذه الصورة قد يضفي على الأجواء لونًا من الغموض والإثارة المعروفة في عالم الجاسوسية، بما يجعلك تمضي الساعات الثقيلة هذه في تفكير مشوق لحين الانتهاء من معاملاتك المطلوبة.


قراءة الطالع في خطوتين – الإخوان العثمانيين والساموراي | خالد البري | رواية صحفية في دقائق

الحرب الدائرة على أرضنا ولا نراها | خالد البري | رواية صحفية في دقائق


رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك