هيثم أحمد زكي.. الشخصية التي لم يكتبها نجيب محفوظ في بداية ونهاية | عمرو عبد الرازق

هيثم أحمد زكي.. الشخصية التي لم يكتبها نجيب محفوظ في بداية ونهاية | عمرو عبد الرازق

10 Nov 2019
عمرو عبد الرازق
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

الأستاذ الأكبر نجيب محفوظ سُئل ذات مرة عن النهاية المأسوية لنفيسة بطلة بداية ونهاية، رغم تضحيتها من أجل استقرار الأسرة والحفاظ على البيت بعد وفاة الأب، وهل تستحقها تلك الشخصية الرحيمة؟!

كانت إجابته:

هذه نهاية طبيعية للغاية لشخصية مضحية، اختارت التضحية بكامل إرادتها وبقرارها الشخصي. هي مجرد نتيجة منطقية للغاية للمقدمات

مسار نفسية

نجيب أسماها “نفيسة”، العنصر النفيس الذى اختبرته نار التجربة، وأصقله معترك الحياة على قسوته وغياب إنصافه أغلب الوقت.

منطق محفوظ أن المضحي لا بد أن يفقد شيئًا. لا بد أن يتذوق الخسارة، وإلا ما صارت تضحية. ونفيسة ضحت من أجل بيت بأكمله. وهنا التضحية توازي سعة المضحَى من أجله، وعلى قدر نبل المضحِي. فكانت حياتها بحالها المقابل. الحياة هنا لن تختلف، كانت بمعنى إزهاق الروح أو الحياة التي ضاعت دون سعادة؛ فخروج الروح ليس سوى تحصيل حاصل لحياة فقدت رونقها بلا لذة ولا سعادة ولا راحة.

والمنتظر بحسب رغبة السائل أن تجد هذه الشخصية مكافأة نهاية الخدمة وحسن التقدير وتصفيق الملائكة، وأن تلاقي وعد السماء وجائزتها.. لكنها إما تأجلت إلى موعد أخروي، أو أنها التراجيديا لا تجيز لأحد سوى أن يكمل كتابة مأساتها على نحو كامل غير منقوص.

نجيب – على غير المألوف – كان يتماهى مع الحياة، لا يوجهها بحسب عواطفه وانفعالاته، ولا يرغب فى الأمر.. حتى أنه لما اختلف البعض حول إيمانه من عدمه بسبب كتابته رواية “أولاد حارتنا” كان رأيي أن الهدف لديه ليس إثبات الإيمان من الكفر، بل تقديم رؤية فنية أدبية موازية. أما الإجابة: فلا إجابة. فكما أن الحياة لم تقدم لك إجابة قاطعة لتساؤلاتك.. فلماذا يسعى هو لتقديم تلك الإجابة، ويدعي اكتشافًا ليس من حقه؟

هو على نهجها أيضًا، يدخل بك بسؤال، ويخرج بك وقد تراكمت تساؤلاتك.. وأتفه ما يمكنك أن تسأل عنه: هو عقيدة الكاتب.

المسار المقابل

وفاة هيثم أحمد زكي هي المسار المقابل لمسار “نفيسة”. ليست بقدر مأسوية نفيسة بالطبع، لكن – بحسب مغزى رد نجيب محفوظ – مقدمات تقود إلى نتائج باختصار، دون أي تغير في مسار الأحداث، ولا تجيز لك الأقدار أن تدعوه “هيثم زكي” مثلًا.. لا يجوز. لا بد أن يوصل اسم الابن بالأب ولا يقفز للجد مباشرة، وإلا فسدت العبرة التي من أجلها تشكل هذا النسيج الحزين عبر أربعة عقود.

الشخصية هنا لا تمثل – كما هو بحكم العادة – امتدادًا ونسلًا للأب فقط! بل هي متكاملة معها تمامًا، مستمرة في استقبال أقدارها. لا يصح أن تنظر لأحدهما بمعزل عن الآخر، حتى أنك ستضطر اضطرارًا لأن تضع معهم الأم الرقيقة الشابة، التي بدأ بها القدر فى رسم أول إشاراته الغريبة باللوحة باختطافها، دون أن ينتبه أحد حينها لكون موتها ليس سوى جزء بسيط من مقدمة معزوفة حزينة، ستكتمل ملامحها فيها بعد.

ليست المأساة أن يموت شابًا صغيرًا، فهذا أمر متكرر. بل المأساة مقرونة بالأب الذي لو امتد عمره بمعدل أعمار جيله الفني، كنت ستراه اليوم خارجًا من فندق معاشه وحيدًا، ليحمل جثمان نجله الوحيد، وليقضي بقية عمره شريد الذهن فاقد الرغبة في الحياة.

المأساة مأساة سيرة الأب بالأساس، بطل القصة الرئيسي الذى اختارته الأقدار ليكون حجر أساس هذا البناء الثري، وكل من التحم مع حياته كتب عليه الشقاء، أو تقاسمه معه.. أراد القدر أن ينقطع نسله دون أن ينقطع ذكره، فيصير ذِكرًا بلا امتداد، وهو على كل أفضل كثيرًا من امتداد بلا ذكر.. ينصرف الصغير تاركًا لوحة تضم ثلاث زهرات حزينة بمتحفنا.

تجربة خادعة

يرحل هيثم كزائر لطيف لم يسعفك الوقت لتقييمه بشكل كامل، حتى أن تجربته الفنية نفسها خادعة؛ فشيء ما يتردد فى صدر الملاحظ أن هذا الشاب ليس ممثلًا، ولن يبقى على مسرح الفن طويلًا.. هو إنسان عادي يعرض نفسه أمامك بصفته الحياتية المنعكسة على وجهه. شخص دوره هو تذكيرك بأبيه. لكنك لا تنتبه لهذا الصدى بداخلك، ولا ترغب تصديقه.. تظل مترددًا معه. لا تدرك أهو ممثل حقًا، أم وارث لمهنته. وتتساءل باستمرار لماذا فرضه أبوه على الفن؟!

في أبرز أدواره وأقواها قام بدور شرير متجبر “عاكف الجبلاوي” ضمن مسلسل “كلبش 2” على عكس المألوف عن حياته. هنا نجح في أن يكون ممثلًا؛ ليس لأنه أجاد التمثيل، لكن لأنه نجح في إقناعك أنه ممثل، وليس إنسانًا عابرًا في قصة ليس هو بطلها.

والغريب أنه على قدر شر الدور الذي أداه، وجد البعض نفسه متلبسًا بتعاطف ما مع شخص الفنان أثناء أداء دوره، وأيضًا، لم يتوقف أحد لتصديق هذا الشعور، وتم نبذه فورًا.

لدينا جميعًا حساسية تجاه فكرة التوريث المهني، حتى وإن انتهجها الكثير منا. ولهذا التوريث دور في موقفك الحائر أو الرافض.

لعبة القدر

يبدو أن أحمد زكي – بحسه الفنى والإنساني – كان يريد إكمال سيرته الإنسانية – كمأساة لا فرار منها – خارج شاشات السينما. قصة جامعة لشخصياته المتعددة التي أداها بإبداع وتفرد وتفرغ، أو أن تستمر قصته هو في العرض لا يوقفها الرحيل.. قصة تضم حياته الأم. أراد بها خلودًا على نحو أكبر. أراد أن يكمل قصته الخاصة.

أتذكر تصريحًا له أغضبنى في بداية الألفية: “هيثم أحمد زكي أفضل ممثل في الدنيا”!! بأي أمارة؟!

الرجل كان يسبح في فضاء آخر. يبدو أنه قدم ابنه قربانًا على مذبح الفن.. الفن بمعناه الشامل. أدمجه مع شخصه على نحو لا يقاس. مهد له ليكمل المأساة الأم.. يندمج معه كممثل وكإنسان، فى فضاء شامل، لم ألاحظه حينها. اليوم أفهم جملته على نحو أفضل. هو سيستكمل معي تلك الحالة، لكن لا بد أن يبقى على السطح ظاهرًا للعيان. لا يمكن أن يكون مغمورًا – وإلا فسدت التجربة – حتى يصل لقمة المأساة، فيسهل أن تكتمل الصورة أمام المتفرجين.. اليوم تكتمل اللوحة.

الابن فيما بدا لم يسع للأمر. هكذا شأن الضيوف. لكن الأقدار اختارته مبكرًا. شارك في المأساة بآلام طفل فاقد الأم، وشاب فاقد الأب، وإنسان فاقد للعائلة والرفيق كما تردد.. تمامًا كما اختار أبوه العيش في فندق بدلًا من منزل خاص، وكما اختار الحياة وحيدًا، وكما رحل مبكرًا نسبيًا.. ربما لو أتيج لنا مشاهدة باقي اللوحة لكان للجد أيضًا دور في هذه التراجيديا.. ربما!!

كان يمكن لأقدار هيثم أن تكتب على نحو مغاير، وأن ينال خيرًا ممتدًا وحياة طبيعية، وعطاءً من الحياة موروثًا من جهد أبيه وسيرته، لكنه فيما يبدو كان يحمل بذرة فنية حقة بأعماقه، جعلته يمارس دور حياته باقتدار وتقمص شديد، ونجح فى إقناعنا بوجوده كفنان، ومارس تمثيله لدوره في الحياة، والذى انطلى علينا، حتى أتم دوره ودور أبيه بالموت.. تمثيله الحقيقي كان دوره بالحياة لا على الشاشات..

السيناريو الإلهي

سمى نجيب محفوظ روايته بداية ونهاية – بلا أي تعريف – فقط بداية ونهاية. بداية بموت، ونهاية بموت.. مفاجئة نعم، مفجعة نعم، منطقية أيضًا نعم على خلاف المظنون.. الفن تكمن عبقريته ليس في الاندفاع نحو تلبية عواطف المتلقي، قدر ما تكمن فى توجييهم نحو أفق جديد عبقري في تكوينه وسرده.

أقدار الإله أيضًا سارت على نفس المنوال.. أو العكس! محفوظ – لأنه يتماهى مع الحياة لا يعارضها – سار على منوال الأقدار.. ولا فنان هنا أكبر من الإله الذي أرانا بعضًا من فنه في قصة عابرة بمقاييس الزمان!

فغاية ما في الأمر أن الإله أراد أن يكتب إحدى قصصه..

وكما فعلها محفوظ.. بداية ونهاية، وبينهما تتسارع الأحداث، دون أن تقذفك لمسار مختلف.. دون مكافأة.. دون راحة.. دون استقرار.

عند هيثم تموت الأم، وفى رواية محفوظ يموت الأب العائل، فتبدأ المأساة للإنسان على الأرض دون ظهير – أرض الترقب والقلق، يتقلب الجميع في أتون المأساة..

فقد في البداية. إن كنت قويًا قد تستطيع مجابهة الأمواج، وإن كنت ضعيفًا فليرحمنا الله جميعًا، وفقد أيضًا في النهاية.. موت وموت.

قصة الشاب المتوفي الكلية أقرب لقصص المواعظ. من حسن حظ المشاهد أن يتلقاها في حياته رأي العين دون نقل أو سند.. هي المثال الذى يعطى للبشر، وهي أقصاها تطرفًا وأقساها ألمًا.. لكن لا تخف.. ليس الأمر هو المعتاد. هو مجرد سيناريو إلهي للعرض على عموم الناس. فالأمر ليس مخصصًا لك بشخصك، لكنه قد يلفت نظرك لأن ترى حياتك الخاصة بعين الرمزية، إذ ربما تلمح بها بعض المقصود الموجه لك أنت أيضًا.

كل ما سبق قد يثير أفكارك حول وفاة الشاب. ولعل الكثيرين قد التفتوا وأشاروا لمأساة الأب والابن وتباحثوا أسباب الموت.. لكن قد تزول دهشتك كثيرًا إذا ما قدمت لك نفيسة الإجابة فى آخر عباراتها قبيل الانتحار في “بداية ونهاية”: إن ما ورائي في الحياة أفظع من الموت..


أحمد زكي.. كيف استحق اعتذار روبرت دينيرو عن “زوجة رجل مهم”؟ | أمجد جمال


رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك