First Man.. إنجاز شكلي وتعثر درامي

First Man.. إنجاز شكلي وتعثر درامي

22 Oct 2018

أمجد جمال

ناقد فني

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

عوامل كثيرة جعلت First Man من أكثر الأفلام المنتظرة هذا العام. منها موضوعه الجذاب عن صعود أول بشري إلى القمر، وبطولة الكندي الموهوب “ريان جوزلينج”، الأقرب لمفهوم فتى هوليوود الذهبي على الساحة حاليًا، والذي من النادر قراءة اسمه على ملصقات فيلم ليس جديرًا بالاهتمام.

المخرج الظاهرة

العامل الأهم كونه الفيلم الجديد للمخرج “داميان شازيل”، الذي أبهرنا بأعماله القليلة السابقة، وحصد أوسكار أفضل مخرج قبل أن يتخطى 31 عامًا، ليكون الأصغر سنًا في تاريخ الجائزة.

شازيل أثبت بأفلامه السابقة أنه ظاهرة سينمائية؛ لأنه لم يقدم أفلامًا عادية، بل قدم Whiplash وأتبعه بـ La La Land؛ فيلمين تحولا سريعًا إلى أيقونات في عالم الأفلام الموسيقية، في وقت كان هذا النوع من الأفلام اختفى.

ولادة نجمة A STAR IS BORN .. هوليوود تفتش في دفاتر عصرها الذهبي

تيمات تستهوي شازيل

وضع شازيل في فيلميه السابقين خلاصة تجربته الشخصية، وما يعرفه عن الحب والنجاح والفشل والهوس المهني، والصراع بين الحلم والسراب، وغلفه بتقنيات وجماليات تُعلن عن صانع أفلام له أسلوب وشخصية، تجعلنا ننتظر جديده بشغف.

لعل ما سبق كان سببًا في دخوله التجربة، وإخراج أول فيلم لم يؤلف قصته، فالسيناريو الذي كتبه “جوش سينجر” والمبني على كتاب يحكي وقائع من حياة “نيل أرمسترونج”، لا يخلو من التيمات التي تستهويه؛ فهي الأخرى قصة عن النجاح والفشل، وبها خط تصادم مع الحياة العاطفية، ولكي يقرر شخص السفر عبر الفضاء إلى بقعة لم يسبقه إليها بشري، فهذا يحتاج لدافع غير عادي. إذًا، فهناك أيضًا نوع من الهوس المهني، وهناك حلم يتعشم بطله ألا يصبح سرابًا.

سينما المؤلف والمخرج.. الفن يتسع للجميع

معادلة ناقصة

ما الذي ينقص المعادلة الشازيلية في “أول رجل”؟ غياب الموسيقى كان محبطًا وقت الإعلان عن الفيلم؛ لابتعاد المخرج عن ملعبه الرئيسي، لكننا نسلم بالأمر مبكرًا، ونشاهد الفيلم ونحن نعي أنه ليس موسيقيًا. إذًا، فإحباط غياب الموسيقى غير متحقق أثناء المشاهدة، بل المحبط حقًا كان غياب الدراما، أو لنقل ضعفها.

حياة أرمسترونج في الفيلم لم تحتو على شيء خارق سوى الرحلة للقمر، الرحلة التي فضّل الفيلم ألا يجعلها بطلًا للأحداث، بل اهتم أكثر بقائدها. قد غلبت على “أرمسترونج” سمات الشخصية الطبيعية. لم تحتو حياته على منعطفات حادة. ليس إلا الرحلة. ينطبق نفس الأمر على زوجته، التي ظهرت بانفعالات مكررة تتلخص في القلق على زوجها.

البطل في بداية الفيلم يفقد طفلته المريضة، وهي مأساة بالقطع، لكنها بدت مبتورة الصلة بما يحدث بعدها؛ فقد تم توظيفها بشكل ملتبس في علاقته ببنية الدراما والشخصيات. لم يؤكد لنا الفيلم إن كان ذلك هو الحدث المحفز، ولم يقف عنده كنقطة تحول للشخصية؛ لأن ردود فعل الشخصية لم تتحول بشكل محوري بعدها، فهي مستمرة في طموحها المهني بنفس الدرجة التي كانت عليها قبل الحدث المأساوي.

نهاية معلومة.. وهدف مجهول

من الأسباب الأخرى لضعف الدراما عدم جدوى الترقب، فالفيلم يحكي قصة تاريخية ذائعة الشهرة. نعلم نهايتها، نعلم أن المغامرة قُدر لها النجاح، وأن بطلها سيعبرها بسلام. ذلك ما يقوّض عوامل الإثارة وأدوات الإنذار الكاذب؛ كأن تتعطل السفينة في منتصف الرحلة، وتعلو معها الموسيقى، وتتسع حدقات الأعين لتوحي بأن هناك كارثة في طريقها للحدوث، لكننا نعلم عن يقين أن البطل لن يصاب بمكروه.

وإن كانت هذه النقطة خارجة عن إرادة الصناع، فيظل يُعاب عليهم عدم تحديد هدف واضح من الفيلم، فلا نستطيع الخروج باستنتاج صلب حول إذا ما كانت بوصلته تذهب نحو محاكاة تاريخية بهدف تعليمي أم وطني أم تشويقي أم عاطفي.

ناسا تنشر 19 ألف ساعة منسية من تسجيلات رحلة أبولو 11 للقمر

أمثلة توضح الفارق

في مشهد المقابلة الشخصية لأرمسترونج مع إدارة ناسا، يُسئل عن السبب الذي يجعله يرى فائدة من الهبوط على القمر، فيجيب: “لعلنا نرى أشياء لم نتخيل أنها موجودة”. إجابة لا بأس بها، لكن نوعية هذه المشاهد تتطلب المزيد، تحتاج لردود أقوى في إثارتها الذهنية، وإقناعنا بإيمان الشخصية بما تفعله. المشهد بحواره يرسلنا إلى مشاهد مشابهة في أفلام شازيل السابقة، كمشهد في Whiplash يُسئل فيه البطل من حبيبته عن سبب رغبته في الانفصال، فيجيب بأنه يعتبرها عقبة في طريقه نحو العظمة، ومشهد اختبار الأداء في La La Land، حيث تنفجر مشاعر البطلة لتأخذنا إلى عوالم أخرى وهي تحكي قصة عمتها التي علمتها حب الفن.

الأمثلة توضح الفارق بين فيلم يكتبه شازيل لنفسه، وفيلم يستعين فيه بكاتب آخر. حتى وإن كان ما قاله أرمسترونج هو الحقيقة التاريخية، فإنه ليس بالمادة الخام التي تثير تحديًا فنيًا لدى شازيل.

تجربة أقل إثارة تثبت براعة المخرج!

وإن كانت التجربة أقل في إثارتها، إلا إنها لا تُعد انتكاسة في مشوار شازيل، بل تأخذه لمنطقة يثبت خلالها تفوقه كمخرج تقني بارع في استخدام أدوات السينما لدرجة نجاحه في بث بعض الروح في سيناريو ميّت. يتضح ذلك عبر خيارات بصرية، أبرزها كثرة استخدام اللقطات المقربة (close up) من وجوه الشخصيات، التي يأخذها البعض ضد الفيلم، لكنها من أفضل ما فيه؛ فهي تؤكد ضيق الرؤية والعتمة، وهو نفس المعنى الذي عبّر عنه أرمسترونج في العبارة السابقة، ففي فيلم يستهدف بطله أن “يرى المزيد”، يكون الخيار الأنسب لطريقة التصوير هو الرؤية المنقوصة، ونلاحظ أن أكثر اللقطات اتساعًا هي التي تصوّر عملية الهبوط بعد نجاحها، وكأن باتساع اللقطة تحقيق لهدف البطل نفسه في رؤية المزيد.

الطريف أن نشطاء اليمين الأمريكي انتقدوا اللقطات الواسعة، متهمينه بتعمد تهميش العلم الأمريكي، ومن ثم تهميش الإنجاز الأمريكي نفسه؛ فهو بذلك ينبذ الفكرة الوطنية الشوفينية، ويروج للفكرة الإنسانية. وأيًا كان التفسير، فكلاهما في صالح شازيل. يكفي أن خياراته البصرية قادرة على خلق كل هذا الجدل.

واقعية الصورة

نلاحظ أيضًا تقديم الفيلم بصورة ذات ألوان باهتة تعطي إيحاء بالعراقة، لتتناسب مع الحقبة الزمنية للأحداث. وعكس غالبية الأفلام التي درت أحداثها في ناسا، نلاحظ هنا حالة التقشف التي تعتري مباني الوكالة، ونراها في اتساخ دورات المياه، وأماكن التدريبات، والقاعات التي تحتوي أجهزة المحاكاة الحركية، وحتى أدوات الطعام والشراب. نراى ناسا عادية، تجمع تناقضات الجنس البشري بقوته وضعفه، ما يضيف لمفهوم الإنجاز.


مرشح لـ 4 جوائز أوسكار 2019 (مؤثرات بصرية – مونتاج صوتي – مزج صوتي – تصميم إنتاج). 


 

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك