الجبن الأخلاقي.. لغة جسد هشام عشماوي تذكرنا بمحاكمة ضباط هتلر | مينا منير

الجبن الأخلاقي.. لغة جسد هشام عشماوي تذكرنا بمحاكمة ضباط هتلر | مينا منير

24 May 2020
مينا منير دقائق

مينا منير

باحث بجامعة لوزان - سويسرا

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

انتهى مسلسل الاختيار بعدما قدم كمًا غزيرًا من المعلومات الموثقة بمواد فيلمية أو تقارير أمنية تكشف عن هوية ووحشية الإرهابيين في سيناء. التسجيل الأهم في رأيي كان اللقطة الأخيرة التي يقف فيها ممثل الاختيار الخاطئ هشام عشماوي أمام القضاء العسكري ليُتلى عليه حكم الإعدام شنقًا.

بعيدًا عن عواطف التشفي التي قد تكون اجتاحت صدور الجماهير، كان يهمني فهم هذه الشخصية المركبة: من هو؟ ولماذا هو ما هو عليه؟

ولأننا لا نملك مثلًا مقاطع فيديو مطولة، كانت لغة جسده بالنسبة لي ملفتة جدًا، وذات دلالات. لاحظتها منذ تسجيل القبض عليه في ليبيا، مرورًا بوصوله في الطائرة العسكرية التي أقلته بصحبة قوات المخابرات العامة GIS.

هشام عشماوي بينما تظهر علامات الرعب على وجهه أثناء مخاطبة ضابط المخابرات العامة له

لغة الجسد.. الفارق بين الأصل والتمثيل

كل ظهور له كان يؤكد الانطباع الذي وصلني من الظهورات التي تسبقه: هشام عشماوي.. ضابط الصاعقة السابق و”الجهادي” المرعب الذي تسبب في قتل الكثيرين، وتدمير منشآت عسكرية، يظهر في خنوع شديد يحتاج إلى تفسير.

يظهر في طائرة المخابرات، ويخاطبه الإعلامي خالد أبو بكر: “أنت في مصر يا هشام”، فيومئ هشام عشماوي بخضوع شديد، وكأنه يقول له: “تمام يا فندم”. حينما شاهدت ذلك أول مرة قلت لنفسي: “لماذا يبدو أليفًا لهذه الدرجة”.

 لتر الفارق بين الحقيقة والصورة التي تخيلناها، قارنها بلغة جسد الفنان أحمد العوضي في المشهد التمثيلي الذي أداه في دراما الاختيار. ستجده الرد المتوقع من رجل بسمعة هشام عشماوي.

يستمر الاختلاف بين الحقيقة والتصور في حركته بينما يُقاد من الطائرة إلى سيارة المخابرات: هشام عشماوي يهز رأسه ويستجيب للأوامر بشكل يستحيل تصوره من رجل طالما ردد أنه يستعلي بالإيمان على غيره، وأنه يحب الموت بقدر حب “الطواغيت” للحياة. في المقابل، يظهر ثبات ضابط الصاعقة وأمير جماعة المرابطين المتوقع في حركة جسد أحمد العوضي.

دفعني الفضول للبحث في كل مادة مرئية ومسموعة لعشماوي، فوجدت نفس الانطباع تقريبًا في تسجيلات ليبيا بعد القبض عليه. لا أبالغ إن قلت أن الرجل بدا مرتعبًا بينما يتوسل لمعتقليه ألا يضربوه، ويذكرهم أنه لم يقتل ليبيًا أو يجاهد ضدهم، تمامًا كما تتوقع من مشهد لحرامي غسيل “عكشه” الناس بينما يبرر وجوده على السطح ليشم الهواء، لا محاربًا مقدامًا أو أمير جماعة.

الإنكار.. لغة هشام عشماوي

ملامح الفزع على هشام عشماوي في تسجيله لم تكن الملمح المهم الوحيد. حواراته أظهرت ملمحًا آخر لا يقل أهمية؛ إنكاره لما فعل، ومحاولة إعادة تفسيره بطريقة تحيِّد مسؤول التحقيق.

في ليبيا، ذكرهم بأنه لم يقاتلهم وأنهم ليسوا أعداءه (وهو أمر مثير للسخرية، لأنه بالتأكيد لم يكن في درنة لممارسة الباليه المائي)، قبل أن يظهر في تسجيل آخر ساردًا بتفصيلٍ شديد، يصاحبه تجنب واضح لتلاقي الأعين (Eye contact)، خطة محاولة اغتيال وزير الداخلية، أمام محققه الذي يمكن استنتاج وجود مقعده على يسار الكاميرا.

مرة أخرى يظهر في صورةٍ لو أداها أحمد العوضي في دراما الاختيار لما صدقه أحد، بل كان من الممكن أن يفسد بها العمل.

نصل أخيرًا إلى مشهد تنفيذ الإعدام. في هذا المشهد نرى رجلًا منحني الرأس يمينًا ثم يسارًا، وبعد النطق بالحكم يُسئل إن كان يريد أن يقول شيئًا، فيرد بصوتٍ بائس: “مبقاش ينفع خلاص”.

لا شك أن تلك الجملة استوقفت الكثيرين واستدعت تفسيراتٍ عدة، فما هو الذي “مبقاش ينفع”؟ هل مثلًا كان سينصحهم بالعدول عن “الضلال” الذي هم فيه مثلًا؟ هذا لا يفسر توقيتها بعد النطق عليه بالحكم: فإعدامه من عدمه لا يجب أن يغير من جدوى النصيحة، أو حتى التهديد.

ما لا يمكن الرجوع فيه بعد النطق بالحكم هو تبرير فعلته. هشام عشماوي ما عاد يستطيع رد حكم المحكمة، وبالتالي يمكننا الاستنتاج بشيء من اليقين أن الرجل كان يحاول تبرئة نفسه مما فعل، تمامًا كما فعل في ليبيا.

مرة أخرى، لو ظهر هذا المشهد تمثليًا في مسلسل الاختيار لانتقده المتابعون بعنف، ولنسج الإخوان ورعاة الإرهاب الأحاديث الأسطورية عن رد الفعل “الحقيقية” التي سيتخيلون فيه الرجل ساخرًا من الحكم، مذكرًا بأنه شهيد، مهددًا القضاة ومتوعدًا بأنهم في النار، إلخ، تمامًا كما نسج خيالهم كلمات سيد قطب الأخيرة، ولكن تأتي لقطته وهو بمنتهى اليأس يقول تلك الكلمات كمن يلقي المأ البارد على رأس أتباعه.

فارق العنف والقوة

يبدو أن أحدهم كان من الفطنة ليتوقع الأمر، فبادر بكتابة مقالٍ يمجد فيه هشام عشماوي على موقع الجزيرة، وفيه يبرئ الرجل، ويحاول أن ينصّله من تاريخه الجهادي.

هشام عشماوي الوجه الآخر من الاختيار الجزيرة

“الوجه الآخر من الاختيار”.. المقال الذي نشرته الجزيرة تمجيدًا في هشام عشماوي

وفي سياق ذلك، نجد المؤلف ينسج رواية ساذجة عن تردد هشام عشماوي في استخدام حزامه الناسف لحظة القبض عليه خشية أن يقتل أرواحًا بريئة معه، إلا أن كل من تابع التسجيلات المتاحة لن يجد بُدًا من أن يستنتج صحة رواية مسلسل الاختيار التي تراجع فيها عشماوي عن استخدام الحزام طواعيةً.

لكن يظل التساؤل: كيف لرجل على هذا القدر من الاهتزاز والرِعدة أن يقود أكثر العمليات الإرهابية شراسة؟ هنا تكمن إشكالية في تناول مجتمعاتنا لمسألة العنف.

العنف يعني في منطقتنا القدرة. والقدرة عندنا تعني الشجاعة. فممارسة العنف تعكس بالضرورة قدرًا من البأس والقوة النفسية.

لكن هذا غير حقيقي بالضرورة، فالقوة شيء واللجوء للعنف تجاه من نستطيع تعنيفهم أمر آخر.

لا أتكلم هنا عن الذين غُسلت عقولهم فتحولوا إلى “زومبيز” يذهبون إلى الموت طواعيةً، لكنني أتكلم عن عينة هشام عشماوي الذي كان يدرك ما يفعله، ويتخذ خياراتٍ حرة نحوها.

الجُبن الأخلاقي

في هذا الصدد أتذكر حالتين يسجلهما لنا تاريخ تحقيقات ضباط الحلفاء مع القادة النازيين. ففي 1946، اكتشف الإنجليز بمحض الصدفة أن أحد الأسرى الذي ادعى أنه مجرد مجند في قوات الفيرماخت، كان في الحقيقة أكثر ضباط التاريخ الحديث شرًا ودموية، هاينريخ هيملر (Heinrich Himmler).

ضابط التحقيق (إريك براون) واجهه بأفعاله، وحاول أن يعرف منه إن كان يؤمن بما يقوم به، إلا أن هيملر تنصل من أفعاله وبدى عليه الخوف، مكررًا: “ماذا ستفعلون بي؟ أرجوك؟” مرارًا. لم يصدق إريك أن الرجل الذي تسبب في أبشع مجازر التاريخ الحديث بهذا القدر من الجبن ودراية خطأ الأفعال التي قام بها، فواجهه في آخر حديث بينهما بالحقيقة: You are nothing but a moral coward.

مفهوم “الجُبن الأخلاقي” يعني أن الشخص على دراية بما هو صحيح وما هو خاطئ، إلا أنه يختار الخطأ لأنه لم يتحمل فكرة الصحيح، ولما واجهه فرد أقوى منه بأفعاله: 1- خاف، و2- لم يستطع تبريرَها، وفي النهاية 3- قرر عدم المواجهة.

محاكمة نورمبرج.. مأساة هشام عشماوي

بشكلٍ مستقل، درس ضابط التحقيقات وعالم النفس جوستاف جيلبرت، نفسية قادة النازية أثناء محاكمتهم في نورمبرج. أحد هؤلاء كان هيرمان جورينج، الرجل الثاني بعد هتلر، المنتفخ، المنتشي بنفسه، صاحب السجل العنيف جدًا، قائد أشرس المعارك الجوية في الحرب (معركة بريطانيا – Blitz). جورينج بدت عليه نفس أعراض هشام عشماوي في محاكمة نورمبرج: كان يخشى محققيه ويرفض أن تتلاقى الأعين، ورفض أن يرى صور معسكرات الهولوكوست حينما وُضعت في وجهه، مرتديًا نظارة شمس.

هيرمان جورينج قبل المواجهة بالصور

هيرمان جورينج قبل المواجهة بالصور

هيرمان جورينج أثناء المواجهة - إلى جانبه رودلف هيس الذي رفض أن ينظر أيضًا

هيرمان جورينج أثناء المواجهة – إلى جانبه رودلف هيس الذي رفض أن ينظر أيضًا

كان الخوف والتوسل بل وعرض التعاون هو ما قدمه جورينج لقاضي التحقيقات، الذي شخص حالته بـ “الجبن الأخلاقي” (Moral cowardice).

في جبنه، لم يكن هشام عشماوي أكثر من إرهابي بائس آخر أفرخته جماعة الإخوان، لكنه كان أكثر قدرةً على تمييز الخير من الشر، مما خلق فيه على الأرجح قدرًا عدم اليقين الذي جعله يتردد في استخدام حزامه الناسف، وأن يغسل يده من أفعاله مقابل ألا يُلطم على وجهه أو يهان، وأن يكون أليفًا مستأنسًا سهلًا في إعطاء المعلومات، وأخيرًا فاشلًا حتى في ترك لقطة تثلج صدر أعوانه وترفع رأس أسرته رغم يقينه بحتمية إعدامه. كان مأساةً إنسانية عرف الشر طريقه إليها فجعلت منه Moral Coward.


رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك