باحث بجامعة لوزان - سويسرا
قبل المقاطعة بشهر، دعاني صديق لزيارة قطر لبحث إيجاد فرص استيراد لصالح شركته. وصلت البروة، نصف ساعة من مطار الدوحة، لأجد نشاطًا دؤوبًا في مجال الإلكترونيات، لكنني لاحظت غياب الحاويات والمخازن.
أخبرني صديقي الباكستاني رحيم أن الحاويات والبضائع تخزن في منطقتي عجمان وجبل علي بالإمارات، وأن البضاعة تصل قطر منهما في أقل من يوم.
أخذني رحيم للميناء، وهناك كانت الحاويات تُفرغ رأسًا، لتقسمها سيارات النقل الخاصة بالموردين وتنطلق، فلا مورد قادر على حمل حاوية؛ لأنه لا يوجد مخزن لها.
قال رحيم إن الأمر ليس بهذه البساطة. هناك أيضًا خط إمداد بري يعبر الشريط الحدودي المحدود مع السعودية ويفرغ في البروة. كما تأتي السيارات (الونيت) أيضًا من جبل علي.
أسهب في لومه للمصريين على عدم صبرهم على محمد مرسي، وكيف أن البدائل أيًا كانت براقة ليست أفضل من رجل “تقي مثله”. عندما عدت من قطر كانت المقاطعة قد أُعلنت. تذكرت سوق البروة! هاتفني رحيم وكأنه تذكر كلامي. قال بثقةٍ إن الأمر “زوبعة فنجان لن تطول”، لكنه أبلغني كذلك أن الفرصة سانحة للكسب أكثر؛ فالأسعار تتضاعف و”من يستطيع التوريد الآن سيكسب ذهبًا”. هذا ما يسميه الإنجليز بـ “Monkey Business”؛ أي استغلال المواقف بشكل غير محسوب.
أبلغته بضرورة الصبر انتظارًا لمصير الأمور. كان ضروريًا أن أعرف ما الوضع في الإمارات. اتصلت بشريكي الذي يتولى مخزن الشركة في المنطقة الحرة بجبل علي.
أبلغني عزيز أن حركة السوق لم تتأثر، باستثناء الحضور الكويتي الواضح للشراء. كان الأمر مفهومًا في ضوء الوساطة الكويتية، لكنه لم يوفر حلًا للوضع الخطير في الأيام الأولى.
في مجال الإضاءة مثلًا، يستخدم سعر لمبة الـ 9 وات كوحدة لقياس الأسعار في السوق. مع بداية الأزمة كان أقصى سعر لها في قطر حوالي 12 ريالًا، أي حوالي ثلاثة دولارات. مع نشوب الأزمة بات السعر 22 ريالًا، أي ما يقارب الضعف.
تزداد الأزمة تفاقمًا في الصيف؛ لعدم احتمال مصابيح الـ LED درجات الحرارة القياسية. وبالفعل، أرسل لي رحيم صورًا لكشافات إضاءة منصهرة. حينما علم عزيز قال ساخرًا: “يبدو أن قطر ستدخل في ظلامٍ دامس قريبًا”.
كلمات عزيز حملت قدرًا من المبالغة؛ قطر لم تصل تلك المرحلة، لأنها – كما فهمت – أنفقت أرقامًا كبيرة لجمع المخزون في عمان والكويت لإنقاذ السوق. الأسعار التي قدمها رجال الأعمال في الدولتين كانت خرافية، ولا ضير لأنه بيزنس.
أخذت قطر في القفز من حلٍ مؤقت لآخر؛ فضغط الطلب على تكنولوجيا الإضاءة والإلكترونيات كان كبيرًا لإيفاء وعود منشآت كأس العالم، والمتاح في الدول غير المقاطعة لم يكن كافيًا على المدى البعيد.
كان اللجوء للمنبع حتميًا. في شينزهن، حيث سوق الإلكترونيات الصيني، قدم المستوردون القطريون مبالغ كبيرة لحل أزمةٍ أخرى، هي توفير حاويات تنقل البضائع من الصين خصيصًا، ولا تتوقف في موانئ الإمارات. الحل الوحيد كان التشارك الصيني القطري في تكلفة النقل المباشر.
كان طبيعيًا أن يضيف ذلك تحميلًا زائدًا على السعر، فالتهب سوق البروة، وبلغت الأسعار حدًا لا يناسب دخل المستهلك. وأمام الاحتقان اللوجستي، فشلت قطر في خلق حلول.
كيف مررت قطر رشوة كأس العالم؟ كشف جديد بالوثائق. ومعلومات تنشر لأول مرة | س/ج في دقائق
أمام عدم واقعية الحلول المؤقتة، وتهديد أسواق كاملة كالبروة، كان على الدولة إيجاد حل يحفظ آمالها في الإبقاء على الإمدادات بأسعار واقعية، إن كانت بالفعل تأمل لاستضافة كأس العالم.
لم يمضِ وقت، كدت أسمع فيه أنين رحيم من مكتبي في لندن، حتى ظهر أمير قطر متحدثًا عن “الانتصار على دول الحصار” بمشروعات بنية تحتية خلقت سوقًا قويًا، بالإضافة إلى كلام من نوعية خطابات الاتحاد الاشتراكي في مصر الستينيات.
بعدها بأيام، اتصل بي رحيم من هاتف عماني ليبلغني ببارقة أمل قد تشجعني على التعاون بشأن قطر. قال إن جيشًا من رجال الأعمال وممثلي الدولة يغرقون منطقةً صُحار الحرة في عمان بمبالغ طائلة لتجهيزها لوجستيًا؛ ليس فقط للحفاظ على الإمدادات القطرية، بل كبديل لجبل علي؛ كونها تسبق الأخيرة على خط الملاحة من الصين.
هنا تساءلت: هل بات من المستحيل على قطر بناء منطقة جاذبة للاستثمار بقوانين تملك للأجنبي كالتي حققتها أصغر مناطق الإمارات الحرة الخمسة؟ هل ترسل قطر قطاع الأعمال الخاص – ليصير تحت رحمة وأسعار المنافسة المحدودة في صُحار – قربانًا للحفاظ على “حيادية” عمان بدلًا من إيجاد حل على أرضهم؟
ماذا قد يحدث لو اضطرت عمان لإيقاف العملية حفاظًا على توازنات المنطقة؟ ألن تكون نسخة أسوأ من مأساة قطع الإمدادات من جبل علي؟
الملاحة الجوية باتت في يد مطارات الكويت، والشحن البحري جنوبًا في صحار. وبين الاثنتين، لا حلول لقطاع الأعمال البائس، ورواده الممزقين بين تلك البدائل غير المنطقية.
مضت الأيام وعلمت أن رحيم ما عاد قادرًا على الإبقاء على منفذه في البروة، فانتقل إلى عجمان التي توفر ملكية بنسبة 100% في منطقتها الحرة (AFZ).
في نفس الوقت، زاد إصرار قطر على الزهو ببقائها الذي لم يحاول أحد أن يمسه؛ فاستراتيجية الإمارات كما بدت لي من خلال سياساتها اللوجستية في جبل علي ومناطقها الحرة بخصوص قطر لم تكن عدائية.
الإمارات – التي تملك خيوط الإستيراد والتصدير في مناطقها الحرة – كان يمكنها إجبار المورد الصيني على عزل قطر، لكنها ببساطة تركت لقطر حبلًا تشنق به نفسها.. تركها لرعونتها، وقطر لم تخيب الظن.
ليس الغرض الهجوم على قطر أو التغني بالإمارات، لكنني أردت تسليط الضوء على أن مقياس النجاح الحقيقي ليس البيانات وليس استنزاف الأصول والممتلكات في أوروبا للإبقاء على سعر الصرف والعملة الصعبة في البنك المركزي، وإنما القطاع الخاص الذي يتولى مهام البنية التحتية للسوق.
في الإمارات كان خيار الدولة المزيد من حرية السوق وليس مجرد الإنفاق على وسائل المكايدة، بينما استثمرت قطر أصولها في شراء ذمم (أو باللغة السياسية المهذبة خلق لوبيات) في الغرب.
باتت الإمارات تملك مناطق حرة داخل أراضيها وليس فقط حول الموانئ.. النتيجة أن رحيم قرر الإنتقال إلى عجمان.
لا أتخيل بقاء القطاع الخاص في قطر حيًا مع الوصول لكأس العالم، إلا بحلول جذرية تركز فيها قطر على بناء سوق حقيقي وليس المكايدة الإعلامية التي لن تدفع رحيم إلى العودة.
كيف تؤثر قطر على القرار الأمريكي … وكيف تأمن العقاب على ترويج الإرهاب؟ | س/ج في دقائق