كاد الجاسوس أن يكون رسولا: أوليج جوردييفسكي كشف استعداد اشتراكيين لخيانة أوطانهم | مينا منير

كاد الجاسوس أن يكون رسولا: أوليج جوردييفسكي كشف استعداد اشتراكيين لخيانة أوطانهم | مينا منير

18 Sep 2019
مينا منير دقائق

مينا منير

باحث بجامعة لوزان - سويسرا

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

هل تظن أن الجاسوس يكون مجبرًا في حركته وخياراته، خاضعًا للجهاز الذي يقوم بتشغيله طوال الوقت؟! هذا غير صحيح! يخرج الجاسوس عن السيطرة فور بدء العمل الميداني في الدولة المعادية، ليتحرك فيما يُسمى بالـ “Twilight Zone”، وتكون الخيارات أمامه متعددة: الأخلاقية، الأيديولوجية وحتى النفعية منها مفتوح.

لهذا السبب، تعمل أجهزة المخابرات على تطوير آليات التأكد من اختيار الجاسوس المناسب مضمون الولاء حين يعبر إلى مسرح العمليات؛ كون الخوف من تغير ولاء العميل مشترك بين أجهزة العالم، وتكون طرق التعامل معه مختلفة بحسب ظروف كل جهاز ومعطياته.

استراتيجية كي جي بي

المخابرات السوفييتية (كي جي بي) اختارت الاعتماد على قاعدة MICE التي تعتمد على ميل الجاسوس إلى أربع خواص: المال (Money)، الأيديولوجية (Ideology)، وجود نقاط ضعف يمكن إجباره من خلالها إذا دعت الحاجة (Coercion)، والكبرياء (Ego).

الإجبار هو العنصر الأساسي في قاموس الكي جي بي؛ للتغلب على إشكالية انكشاف أكاذيب العقيدة السياسية التي نشأ وتدرب عليها – باعتبار الاشتراكية بستانًا يحفظ كرامة وازدهار المجتمع أمام الغرب ورأسماليته المتوحشة – حين يصل دول الغرب نفسها، فيكون أمام مفرق طرق: إما أن يغير ولاءه بعد اهتزاز ركائز أيديولوجيته، أو يبقى على ولائه دون إجادة حقيقية في عمله.

هنا يلعب الإجبار دوره. القاعدة العامة أن يكون العميل متزوجًا، وحبذا لو لديه أطفال، حتى إذا هرب تؤخذ أسرته كرهينة وتتعرض للتعذيب إذا لم يعد.

ولأن “غلطة الشاطر بألف” فإن الأمور تخرج عن السيطرة بشكل مدمر، وهذا هو جوهر كتاب بن ماكنتاير الجديد The Spy and the Traitor عن أخطر عميل مزدوج في الحرب الباردة: أوليج جوردييفسكي (Oleg Gordievsky).

الولاء الكبير

الكتاب الجديد لا يحكي مجرد رواية أخرى لجاسوس تحول إلى عميل مزدوج وبدّل ولاءه، وإنما شهادة أوليج جوردييفسكي نفسه عن التحول الأيديولوجي الذي مر به بعدما عاش العالم الذي نشأ فيه، ثم العالم الذي تربى على شيطنته، فأدرك الصورة كاملةً وقرر بمحض إرادته ألا يعمل لحساب منظومة الأكاذيب التي يخدمها النظام في موسكو. وعليه، فالرواية لها صدى بالغ الأهمية للسياسة اليوم كما سنرى.

وُلد أوليج جوردييفسكي في أسرة تعمل في المخابرات. والده كان رئيس القسم 13 المنوط بعمليات التخريب في الخارج (Misinformation and Sabotage). زرع فيه مفهوم “الخير الأكبر”، القائم على تبرير العمليات القذرة كنشر الدعاية السوداء، القتل، وغسل الأموال؛ لأن خير المجموعة يتقدم على مصلحة الفرد.

أما شقيقه، فقد لقي مصرعه في واحدة من تلك العمليات القذرة في شرق ألمانيا.

وسط تلك الأسرة، كان طبيعيًا أن يكمل أوليج جوردييفسكي المشوار في نفس الجهاز، وبالطبع فقد رحب به الكي جي بي بفضل تلك الخلفية الأسرية اللامعة.

إلا أن أوليج لم يكن مجرد شخص مهني ينفذ الأوامر فقط، إنما كان مثقفًا يتطلع للانضمام إلى جهاز الخدمة السرية حتى يعمل في الخارج ويضرب “الغرب” من داخله.

ولأنه يعرف الشرط الأساسي للقبول، وهو أن يكون متزوجًا (حتى يتم لي ذراعه إذا ما دعت الحاجة) فقد تزوج زميلةً له في قسم ألمانيا الغربية داخل الجهاز.

هنا، ارتكب الكي جي بي خطأه الأول؛ إذ ارتكز على سمعة أسرة أوليج جوردييفسكي وتركه يرحل مع زوجته. المحطة الأولى كانت الدنمارك، حيث عمل ملحقًا في السفارة هناك.

الصدمة

تقول القاعدة العامة إن كل من يعمل في سفارة له نشاط استخباري على الأرجح، إن لم يكن ضابطًا نظاميًا في جهاز الإستخبارات الخاص ببلده. لذلك، حينما يتولى شخص منصبًا في سفارة، تراقبه أعين مخابرات البلد المستضيف على مدار الساعة. فلما وصل أوليج جوردييفسكي وزوجته كان طبيعيًا أن تتابعه أعين المخابرات الدنماركية كجاسوس محتمل، وكان دوره بالفعل هو إدارة جواسيس الكي جي بي في الدنمارك وتجنيد من يمكن تجنيده.

كان اهتمام جوردييفسكي الشخصي هو دراسة وفهم طبيعة الذهنية الغربية اقتصاديًا وثقافيًا واجتماعيًا.

يسجل لنا المؤلف شهادة جوردييفسكي التي وصفها بالصدمة: رأى كيف أن الدنماركيين يتمتعون بحرية على جميع الأصعدة ساعدتهم أن يعيشوا حياة هانئة لم يصلها سكان بستان الاشتراكية. فالدنماركيون يلمون جيدًا بالموسيقى الروسية بالإضافة إلى موسيقى وفنون الغرب في تنوع فكري لا يشوبه صدام، الأمر الذي لا يتوفر في الحياة أحادية اللون في بلده.

أما على مستوى المعيشة، فقد صُدم جوردييفسكي فكريًا حين رأى أن حرية التجارة أنتجت تنوعًا بديعًا في وفرة المنتجات، وارتفاع مستوى معيشة الفرد. لم يكونوا مجرد Capitalist pigs بحد وصف الدعاية اليسارية، وإنما كانوا أكثر سعادة وهناءً وتحكمًا في خياراتهم.

ما الذي يمكن أن تحسنه الاشتراكية في حياة الدنماركي؟ تساءل أوليج جوردييفسكي. لا شيء.. كانت الإجابة؛ فالفقر والجوع وكبت الحريات لم تعبر إلى الغرب، ولا يجب أن يعبر!

كانت التجربة العميقة كفيلةً بإدراكه للزيف الفكري الذي يبثه النظام الاشتراكي في حياة الناس، وتمنى من صميم قلبه أن تتساقط تلك المنظومة عن دول شرق أوروبا تباعًا، إلا أن صدمتين متواليتين حطمتاه من الداخل: بناء سور برلين وتبعاته الاقتصادية المدمرة على الشرق (وهو الآن ينظر من الجانب الغربي السعيد)، وسحق الثورة التشيكية ضد النظام الاشتراكي بمنتهى العنف والقسوة. قال جوردييفسكي في ذلك أن “حلم الاشتراكية ليس أكثر من كابوس مرعب”.

رسالة من لندن

لم يكن تجنيد أوليج جوردييفسكي لصالح المخابرات البريطانية يسيرًا. مر بعملية معقدة لا يسعها المقال، تفوق أكثر روايات “رجل المستحيل” جموحًا.

بالنهاية نجح جوردييفسكي في إقناع الكي جي بي تحويل نشاطه إلى قلب لندن، وهناك حقق مكاسب ضخمة جدًا للغرب.

بالتنسيق مع المخابرات البريطانية، نجح في إزاحة رؤسائه عن العمل حتى صار رئيس محطة الكي جي بي في لندن، والتي تشغل كل النشاط الجاسوسي في غرب أوروبا. يكفي هنا أن نشير إلى ثلاثة أمور نجح الرجل في تحقيقها:

إيقاف هجوم نووي روسي محتمل: 

قام صقور الكي جي بي بتزوير معلومات تفيد بأن الغرب يقوم بإعداد خطة اسمها Able Archer 83 لضرب روسيا نوويًا. كان بريجنيف بالفعل مستعدًا لأخذ زمام المبادرة لضربة مبكرة، إلا أنه بفضل جوردييفسكي تكشف الأمر برمته وأوقفت الكارثة.

كشف الخليفة الحقيقي لرئاسة الاتحاد السوفييتي مطلع الثمانينيات ودعمه: 

كانت محادثات أوليج جوردييفسكي مع رئيسة وزراء إنجلترا مارجرت ثاتشر على خط ساخن (كانت تسميه Mr. Collins في مذكراتها) وراء ترشيح ودعم جورباتشوف.

أما الثالثة والأخطر والأنسب لوقتنا:

كشفه دور الاشتراكيين في التجسس لصالح الاتحاد السوفييتي وخيانة أوطانهم. فقد كشف أن رئيس حزب العمال مايكل فوت ومجموعة من أعضاء الحزب في البرلمان كانوا يتقاضون رواتب من السوفييت للفوز بالانتخابات ومن ثم التأثير على السياسة الخارجية في مصلحة موسكو. الأمر كان كارثيًا حتى أن المخابرات البريطانية كانت تستعد لتسليم رسالة للملكة تبلغها أن وصول حزب العمال للحكم سيهدد الأمن القومي لبريطانيا بشكل كبير.

الخطير في المسألة أن بريطانيا تواجه نفس التحدي اليوم مع جيريمي كوربين (الذي هاجم الكتاب والمؤلف بالمناسبة). فقد تلقى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تحذيرًا رسميًا من إمكانية تسريب معلومات سرية للروس إذا ما وصل كوربين لرئاسة الحكومة، واطلع كوربن على المخاطبات السرية بين الولايات المتحدة وبريطانيا.

الكتاب غزير في معلوماته ومصادره الحساسة، فقد وصل المؤلف لجوردييفسكي ومشغليه داخل المخابرات وحاورهم في أماكن سرية، وهو بالغ الأهمية لفهم دور الأيديولوجية في مسائل أهمية الأمن القومي والسيادة الوطنية.


ملف بستان الاشتراكية في دقائق


بين حكايات الأخوين كيبلر وروايات سلافوي كجيجك.. من صنع بؤس العالم؟ | مينا منير

البوسانوفا .. ثورة البرازيل المغمورة التي شارك فيها فرانك سيناترا فكاد يهزم البيتلز | مينا منير

فنزويلا.. النموذح الأمثل لسياسات إفقار الشعوب

جريتا ثونبرج.. دليل اليسار لإنتاج جماعات الكراهية | مينا منير

خلية تزوير انتخابات في بريطانيا.. كلها من المسلمين .. هل أنجحت مرشحة اليسار؟ | الحكاية في دقائق


رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك