الجدل حول الإسراء والمعراج قديم. أثار خلافًا كبيرًا بين المفسرين القدماء أنفسهم.
وإذا كان يمكن الخروج بدلالة من الخلاف حوله، فهي على الأقل القبول بالتنوع، والتخلص من فكرة الحقيقة المطلقة الوحيدة الجاهزة في الأمور الدينية.
اختلف المفسرون في تحديد تاريخ الإسراء والمعراج. يقول القرطبي في الجزء 10 من تفسيره: “في تاريخ الإسراء قد اختلف العلماء في ذلك أيضًا. فقال ابن شهاب: كان ذلك بعد مبعث النبي بسبعة أعوام. ورَوى عن الوقاصي قال: أسري به بعد مبعثه بخمس سنين“.
وفي البخاري حديث رقم 7079 عن أنس بن مالك. يقول: “ليلة أسري برسول الله من مسجد الكعبة، إنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه“.
حاول البعض الخروج من هذا الاختلاف ففتحوا خلافًا آخر حول تكرار الإسراء أكثر من مرة. منهم من قال إن هناك إسراء قبل البعثة وآخر بعدها مثل ابن كثير وابن حجر. ومنهم من قال إن النبي محمد أُسري به أكثر من أربع وثلاثين مرة. منها ما ورد في موطأ الإمام مالك، بقوله: “أسري برسول الله فرأى عفريتًا من الجن يطلبه بشعلة من نار، كلما التفت النبي رآه. فقال جبريل: ألا معلمك كلمات تقولهن إذا قلتهن طفئت شعلته وخر لفيه؟ فقال رسول الله: بلى، قال جبريل: فقل: أعوذ بوجه الله الكريم وبكلمات الله التامات”.
ألغاز تراثية (3): بين معراج النبي محمد و معراج النبي موسي.. لغز ليلة 27 رجب | هاني عمارة
الخلاف قائم حول المكان الذي بدأ منه الإسراء والمعراج. بيت النبي أم بيت أم هانئ أم الحرم؟ والخلاف أكبر حول منتهى الإسراء. المشهور أنها كانت إلى المسجد الأقصى في فلسطين. لكن روايات غير مشهورة تقول إنها حدثت داخل مكة نفسها من المسجد الحرام إلى مسجد بمنطقة الجعرانة في الطائف اسمه المسجد الأقصى تحدث عنه الواقدي في “المغازي” فقال: “وانتهى رسول الله إلى الجعرانة ليلة الخميس لخمس ليالٍ خلون من ذي القعدة؛ فأحرم من المسجد الأقصى الذي تحت الوادي بالعدوة القصوى. وكان مصلى رسول الله إذا كان بالجعرانة”.
هذه الرواية يعتمد عليها من يقولون إن المسجد الأقصى الموجود في فلسطين لم يكن موجودًا في زمن النبي، وأن عمر بن الخطاب هو من وضع قواعده محل مكب للقمامة سنة 14هـ، ولم يفكر خليفة بعده في إعطاء المكان قدسية حتى بناه عبد الملك بن مروان أثناء حربه مع عبد الله بن الزبير؛ لصرف الشاميين عن الحج إلى مكة حتى لا يبايعوا ابن الزبير بالخلافة.
الرواية ذكرها ابن تيمية وهو في الجزء 27 من مجموع الفتاوى: “لما تولى عبد الملك الشام ووقع بينه وبين ابن الزبير الفتنة كان الناس يحجون فيجتمعون بابن الزبير، فأراد عبد الملك أن يصرف الناس عن ابن الزبير فبنى القبة على الصخرة وكساها في الشتاء والصيف ليرغب الناس في زيارة بيت المقدس ويشتغلوا بذلك عن اجتماعهم بابن الزبير”.
يرد البعض بأن المسجد الأقصى الحالي بناه النبي سليمان كما جاء عند النسائي. وأنه حتى لو كان المسجد مهدمًا وقت الإسراء فالمقصود به المكان ذاته لا مجرد البناء. فيرد غيرهم بأن رواية الإسراء والمعراج تتضمن حديث النبي: “انطلق بي جبريل حتى دخلنا المدينة من بابها اليماني فأتى قبلة المسجد فربط فيه دابته ودخلنا المسجد من باب فيه تميل الشمس والقمر”. أي أن الحديث يدور عن باب وجدران، لا مجرد قطعة أرض.
ما زاد من السجال أن تعبير المسجد الأقصى المذكور قرآنيًا جاء بصيغة العموم، بدون تحديد دقيقة لمكانه الجغرافي.
القدس والمسجد الأقصى بين التدوين الشيعي والدعاية السياسية | هاني عمارة
أما طبيعة الإسراء نفسه فتثير خلافًا شهيرًا. هل كان رؤية وحلما بروح النبي فقط؟ أم حدثا على اليقظة والحقيقة بروح النبي وجسده؟
القرطبي ذكر في تفسيره: “هل كان إسراء بروحه أو جسده؟ اختلف في ذلك السلف والخلف، فذهبت طائفة إلى أنه إسراء بالروح، ولم يفارق شخصه مضجعه، وأنها كانت رؤيا رأى فيها الحقائق، ورؤيا الأنبياء حق. ذهب إلى هذا معاوية وعائشة. وقالت طائفة: كان الإسراء بالجسد يقظة إلى بيت المقدس، وإلى السماء بالروح“.
وفي تفسير الطبري، ورد أن “معاوية بن أبي سفيان كان إذا سئل عن مسرى رسول الله قال: كانت رؤيا من الله صادقة. وأن عائشة كانت تقول: ما فقد جسد رسول الله، ولكن الله أسرى بروحه“.
وقال الطبري أيضًا: “لا معنى لقول من قال: أسري بروحه دون جسده. إن الله إنما أخبر في كتابه أنه أسرى بعبده، ولم يخبرنا بأنه أسرى بروح عبده، وليس جائزًا لأحد أن يتعدى ما قاله الله إلى غيره”.
وفي كتاب “الشفا” للقاضي عياض: “اختلف السلف والعلماء: هل كان إسراءٌ بروحه أو جسده؟ على ثلاث مقالات: فذهبت طائفة إلى أنه إسراء بالروح، وأنه رؤيا منام، وبرهانهم قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ. وما حكوا عن عائشة: ما فقد جسد رسول الله. وقوله: بينا أنا نائم. وقول أنس: وهو نائم في المسجد الحرام، ثم قال في آخرها: فاستيقظت وأنا بالمسجد الحرام”.
حتى الوسيلة المستخدمة في الرحلة دار حولها خلاف. تقول روايات إنها دابة بيضاء بين الحمار وبين البغل في فخذيها جناحان. ومن صفاتها أن خفها ينتهي حيث ينتهي طرفها.
وهناك رواية في سنن أبي داود تحكي عن مشهد بعد الهجرة – أي بعد واقعة الإسراء – تشير إلى أن النبي لم يعرف من قبل حيوان له جناحان. تقول الرواية: “كانت عائشة تلعب بفرس له جناحان. فقال النبي: ما هذا الذي أرى؟ قالت: فرس. قال: وما هذا الذي عليه؟ قالت: جناحان. قال: فرس له جناحان! قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلًا لها أجنحة؟ قالت: فضحك حتى رأيت نواجذه”.
ومن المثير أيضًا رواية تقول إن الحيوان المستخدم في الرحلة رفض أن يركبه النبي في البداية!
في تفسير ابن كثير: “لما جاء جبريل إلى رسول الله بالبراق فكأنها حركت ذنبها، فقال لها جبريل مه يا براق الله فو الله ما ركبك مثله”. ثم بعد ذلك ربطه النبي حتى لا يتركه ويرحل. “فلما انتهى إلى باب المسجد ربط الدابة عند الباب”.
روايات أخرى تقول إن النبي لم يستخدم دابة في العروج، وإنما صعد في معراج تعرج فيه الأرواح ويشبه السلم. في سيرة ابن هشام: “لما فرغت مما كان في بيت المقدس، أتي بالمعراج، ولم أر شيئًا قط أحسن منه، وهو الذي يمد إليه ميتكم عينيه إذا حُضر، فأصعدني صاحبي فيه، حتى انتهى بي إلى باب من أبواب السماء”.
ألغاز تراثية.. كيف أثرت الثقافات المختلفة على تحديد تاريخ ميلاد الرسول
حتى تفاصيل الرحلة دار حولها جدل. تبدأ بقصة شق صدر النبي للمرة الثالثة – وهو ما يعتبره البعض تشكيكًا في عدم فاعلية ما حدث من شق للصدر فيما سبق – بالإضافة إلى من يرفضون حدوث مسألة شق الصدر من الأصل!
جدل آخر دار حول مسألة صلاة النبي بالأنبياء في السماء أم في المسجد الأقصى على الأرض قبل أن يصعد إلى السماء وقبل فرض الصلاة نفسها!
وهناك خلاف أيضًا حول دخوله الجنة والنار ورؤية عذاب ونعيم الناس بهما. هناك من قال إنه شاهد تلك الأحداث من الخارج دون دخول، وهناك من رفض المسألة تمامًا بحجة أنه كيف يحدث ذلك قبل أن يأتي يوم القيامة وقبل أن يحاسب الناس من الأصل!
فضلا عن الخلاف والجدل الأكبر حول رؤية النبي لربه في نهاية الرحلة. فهناك من يثبت ذلك كابن عباس الذي يقول: “رآه سبحانه بعين رأسه”. وخالفه ربيع بن أنس بقوله إن النبي سئل: “هل رأيت ربك؟ قال: رأيته بفؤادي ولم أره بعيني”.
وجاء في البخاري ومسلم عن مسروق: “قلت لعائشة: يا أمتاه. هل رأى محمد ربه؟ قالت: لقد وقف شعري مما قلت، أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب: من حدثك أن محمدًا رأى ربه، فقد كذب. ثم قرأت: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)”.
عاشوراء السني.. ولغز انتصار موسى على فرعون
قيل إن الهدف من رحلة الإسراء والمعراج كلها مجرد تسرية عن النبي بعد وفاة عمه وزوجته. وقيل فرض الصلوات الخمس، التي ذكرت قصة المعراج أن الله فرض فيها على الناس خمسين صلاة في اليوم، حتى أضطر النبي أن يراجع الله ليخفف ذلك أكثر من مرة بنصيحة من النبي موسى، حتى استحى في النهاية أن يخففها أكثر من خمس صلوات. وهو ما يراه البعض مستحيلًا، انطلاقًا من رفضهم لعقيدة “البداء” التي تقول إن الله يمكن أن يحكم بشيء ثم يبدو له شيء أفضل منه، فيرجع عنه، ما يتناقض مع آية: “مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ”.
ومن مبررات رفضهم أيضًا استحالة فرض الله عدد صلوات لا يوجد في اليوم عدد ساعات كافية للقيام بها حتى لو ترك المسلم عمله وأكله وشربه وتفرغ لها تمامًا، كما يتعجبون من العدد الذي كان يمكن أن يصل إليه عدد الصلوات للمسلمين إن لم يستح النبي محمد من مراجعة الله مرة إضافية، تعليقًا على ما نسب للنبي من قوله: “قد سألت ربي حتى استحييتُ”.