تسلم الرئيس الشاذلي بن جديد، السلطة في الجزائر عام 1979. ركز خططه على بناء نظام اقتصادي حر أملًا في النهوض بالاقتصاد المتردي، لكنه اصطدم بمعارضة القبائل والمفرنسين ضد التعريب، كما أضرب الأمازيغ للمطالبة بحقوق ثقافية وإعلامية.
الإسلاميون تلقفوا طلبات الأمازيغ واعتبروها تنازلات تهدد الهوية القومية للجزائر، وبرز التيار الديني بشكل كبير، معتبرًا أن التخلف والضعف الاقتصاي سببه ليس إلا الابتعاد عن الدين والشريعة.
هذا التيار تأثر بثورة الخميني في إيران، فقام بحملات ضد محلات بيع الخمور ومارس الضغط لارتداء السيدات الحجاب، وعندما قويت شوكته طالب عام 1982 علنًا بإقامة حكومة إسلامية، فاعتقلت الدولة 400 ناشط من التيار الإسلامي، لكنها سرعان ما أخرجتهم من السجون لتهدئة الأجواء العامة والمظاهرات، واسترضتهم بافتتاح جامعة إسلامية في ولاية قسنطينة عام 1984، وعدلت قوانين الأسرة لتتماشى مع الشريعة الإسلامية.
في منتصف الثمانينيات، تحديدًا عام 1984 انخفض سعر البترول من 30 دولار إلى 10 دولارات، فتأثر الاقتصاد الجزائري، وازدادت البطالة، فتصاعد حدة الغضب في الشارع.
في أكتوبر 1988 انطلقت الإضرابات الطلابية والعمالية، وانتشرت أعمال التخريب، فأعلنت الدولة الطوارئ، وأدت الأحداث العنيفة لمقتل 500 شخص وإصابة 3500 آخرين. سميت الأحداث بأكتوبر الأسود أو انتفاضة أكتوبر.
وبناء عليه اضطر الرئيس الشاذلي بن جديد لإجراء تعديلات وإصلاحات، وكان من ضمنها إطلاق التعددية الحزبية.
بعد التعديل الدستوري، أسس المحارب السابق بحرب التحرير عباسي مدني، والقيادي الإسلامي علي بلحاج، الجبهة الإسلامية للإنقاذ "الفيس" في مارس 1989.
وفي 1990، نظمت الجزائر أول انتخابات للمجالس البلدية الولائية، وأفرزت نتائجها فوزًا ساحقًا للجبهة الإسلامية للإنقاذ على حساب عدة أحزاب، منها الحزب التاريخي جبهة التحرير الوطني "الأفلان"، إذ حصل "الفيس" على أكثر من 950 مجلسًا بلديًا من أصل 1539 بلدية و32 مجلسًا ولائيًا من أصل 48.
بوصولهم لحكم البلديات، قدم الإسلاميون أنفسهم باعتبارهم أكثر عدالة وفضيلة من أسلافهم "الفاشلين والفاسدين"، لكنهم شكلوا مصدر إزعاج للطبقة التي تلقت تعليمًا فرنسيًا؛ إذ فرضوا الحجاب على الموظفات، وضيقوا على متاجر الخمور وأفلام الفيديو والمؤسسات غير الإسلامية، ومنعوا الاختلاط في أماكن الاستحمام، بحسب كتابي محاكمة الإسلام السياسي الصادر عن جامعة هارفارد، والحرب الأهلية الجزائرية الصادر عن جامعة كولومبيا.
وفي 1990، أعلن بلحاج عزمه قطع يد فرنسا من الجزائر أيديولوجيًا وفكريًا "مرة وإلى الأبد"، مهاجمًا من "أرضعتهم فرنسا بحليبها المسموم"، شاملًا تعريب التعليم.
بالتزامن، تزايد نشاط المتدينين في إزالة أطباق التقاط الفضائي الأوروبي.
ذروة الصدام ظهرت في يناير 1991، حين قادت الجبهة الإسلامية مظاهرات عملاقة لدعم صدام حسين، إحداها أمام وزارة الدفاع، حيث ألقى بلحاج خطابًا ناريًا يطالب الجيش بإرسال متطوعين للقتال في العراق، ما اعتبره الجيش إهانة مباشرة.
أعادت الدولة تنظيم الدوائر الانتخابية في مايو، فدعت الجبهة لإضراب عام تبعه أعمال عنف، لتُعلن حالة الطوارئ، وتؤجل الانتخابات التشريعية إلى ديسمبر. خلال شهرين، اعتقل زعيمان من الجبهة وحوكما بالسجن 12 عامًا، لتبدأ فكرة "الكفاح المسلح" بين قدامى الجهاد الأفغاني، ليتصاعد في 28 نوفمبر بأول عملية ضد موقع حدودي شهدت قطع رأس مجندين بالجيش.
رغم كل ذلك، شاركت جبهة الإنقاذ في انتخابات ديسمبر 1991. فازت بـ 118 مقعدًا في الجولة الأولى مقابل 16 نائبا فقط لجبهة التحرير. تراجعت أصواتها عن انتخابات 1990 بمليون صوت، لكن بدا أنها بالطريق لحسم الأغلبية المطلقة في الجولة الثانية.
بين الجولتين، وجهت جبهة الإنقاذ تهديدات مفتوحة ضد النخبة الحاكمة التي اتهمتها بالفساد وانعدام الوطنية والولاء لفرنسا، وأظهر قادتها انقسامًا حول مدى استصواب الديمقراطية، لتظهر مخاوف "انتخابات واحدة وللأبد"، على حد تعبير مساعد وزير الخارجية الأمريكي إدوارد جيريجان: "رجل واحد، صوت واحد، مرة واحدة".
وسط تلك المخاوف، ألغى الجيش الانتخابات في 11 يناير 1992، وطلب من الرئيس الشاذلي من جديد الاستقالة، وشكل المجلس الأعلى للدولة برئاسة المحارب القديم في حرب تحرير الجزائر محمد بوضياف، وعضوية الجنرال خالد نزار (وزير الدفاع) وعلي كافي وعلي هارون والتيجاني هدام.
أعلن الإسلاميون الثورة المضادة فتم اعتقال 5 ألاف منهم بسحب الرواية الحكومية، و30 ألف بحسب روايتهم، وتم إيداعهم في السجون.
في 4 مارس 1992، حلت الحكومة الجبهة الإسلامية للإنقاذ كحزب سياسي مرخص، فاعتبر الإسلاميون أن الدولة أعلنت الحرب عليهم، وبدأوا في إطلاق أعمال عنف ضدها انطلاقا من المناطق الجبلية في شمال الجزائر.
تم اغتيال رئيس المجلس بوضياف من طرف أحد حراسه بو معرافي لمبارك، الذي وصف بأنه متعاطف مع الإسلاميين، في 29 يونيو 1992 ليحل محله علي كافي، إلى أن تم استبدال اليمين زروال به في 31 يناير 1994 واستمر حتى 27 أبريل 1999
تأزم الوضع أكثر بعد اغتيال بوضياف، وتم الحكم على عباسي مدني وعلي بلحاج بالسجن لمدة 12 عاما.
في 26 أغسطس 1992، بدأ الإسلاميون (التكفير والهجرة والحركة الإسلامية المسلحة والجبهة الإسلامية) بالدعوة للجهاد المسلح، وتم استهداف مطار الجزائر، ولم تستطع الجبهة الإسلامية للإنقاذ إدارة هذه التنظيمات كلها، فكان هناك عدم مركزية بينها.
بدأ الإسلاميون في مواجهة عنف استهدفت مدنيين كالمعلمين والمدرسين والموظفين والإعلاميين والمفكرين والأجانب بحجة إنهم متعاونون مع السلطة، وكانت الجماعة الإسلامية المسلحة برئاسة عنتر الزوابري وراء الكثير من هذه العمليات.
استمرت أعمال العنف طيلة عام 1994 ولكن الاقتصاد الجزائري بدأ بالتحسن نوعا ما بعد قدرة الحكومة على تمديد فترة دفع بعض الديون وحصولها على مساعدات مالية عالمية بقيمة 40 مليار دولار، ولم تكن في الأفق بوادر توقف قريب لأعمال العنف.
وفي 31 يناير 1994 تم اختيار اليمين زروال رئيسا للدولة لتسيير شؤون البلاد في المرحلة الانتقالية الذي كان يفضل مبدأ الحوار والتفاوض أكثر مقارنة بالرئيس الذي سبقه علي كافي.
بدأ زروال محادثات مع قياديي الجبهة الإسلامية للإنقاذ المسجونيين وأطلق سراح العديد منهم، وأدى أسلوب زروال إلى حدوث انقسام بين مواقف الجهات المحاربة لفكر الإسلام السياسي فكانت جبهة التحرير الوطني وجبهة القوى الاشتراكية تفضل التفاوض لحل الأزمة بينما كان الاتحاد العام للعمال الجزائريين والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية ومنظمة الشباب الأحرار الجزائرية كانت تفضل تصفية كاملة لظاهرة الإسلام السياسي المسلح.
بدأت منظمة الشباب الأحرار بالفعل باستهداف من اعتبرتهم "متعاطفين مع الإسلاميين".
فأعلنت الجماعة الإسلامية تطبيق قوانين الخلافة الإسلامية، واختارت لقب أمير المؤمنين لزعيمها، فحاول الجبهة الإسلامية إعادة سيطرتها مجددًا على زمام الأمور. لكن منطقة وسط الجزائر ظلت خارج سيطرتها.
في نهاية عام 1994 أعلن اليمين زروال فشل المفاوضات مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وعبر عن نيته في إجراء انتخابات جديدة في مطلع عام 1995، وطرح مشروعه حول تسليح الشعب لمواجهة العنف في المناطق المنكوبة، فتم تدريبهم وتسليحهم من قبل الجيش.
هرب بعض قادة الجبهة الإسلامية من الجزائر إلى روما عام 1995، وتفاوضوا مع أحزاب المعارضة وتوحدت مواقف 5 أحزاب وطالبوا برفض التحكم المطلق للجيش وإطلاق سراح زملائهم في الجبهة. لكن الحكومة لم توقع على هذا الاتفاق واعتبرته تدخلاً خارجيًا.
في 16 نوفمبر 1995 فاز اليمين زروال بالانتخابات بأغلبية 60% ، ثم فاز حزبه في عام 1997 بأغلبية برلمانية. فبدأ عصر جديد ونقل مؤسس الجبهة عباس مدني من السجن إلى الإقامة الجبرية في منزله.
عام 1997 شهد منعطفا خطيرا في الصراع حيث بدأت سلسلة من العمليات التي استهدفت المدنيين وكان الذبح الطريقة الشائعة في هذه المذابح، دون تمييز بين ذكر أو أنثى أو طفل رضيع أو شيخ. واعترفت الجماعة الإسلامية ببعض هذه العمليات بدافع أن كل جزائري لا يحارب الحكومة كافر يجب قتله.
أدت هذه المذابح إلى حدوث انشقاق في صفوف الجماعة الإسلامية المسلحة وانفصل البعض منها بسبب عدم قناعتهم بجدوى تلك الأساليب، فتشكلت الجماعة السلفية للدعوة والقتال بزعامة حسان حطاب.
في 11 سبتمبر 1999 فاجأ اليمين زروال العالم بتقديم استقالته ونظمت انتخابات جديدة في الجزائر وتم اختيار عبد العزيز بوتفليقة رئيسا.
استمر بوتفليقة في الحوار مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ وفي 5 يونيو 1999 حصل على موافقة مبدأية من الجبهة بنزع أسلحتها وأصدر بوتفليقة العفو عن العديد من المعتقلين وعرض ميثاق السلم والمصالحة الوطنية لاستفتاء عام، وفيه عفو عن المسلحين الذين لم يقترفوا أعمال قتل أو اغتصاب إذا ماقرروا العودة ونزع سلاحهم.
تمت الموافقة الشعبية على الميثاق في 16 سبتمبر 1999، وعارضه البعض لاعتبارهم أن المصالحة غير ممكنة دون تحقيق العدالة، وفتح آلاف الأشخاص الذين اختفوا طيلة العشرية وعرف هذا بملف المخطوفين.
قامت الجبهة الإسلامية للإنقاذ بنزع سلاحها بالكامل في 11 يناير 2000. وفي فبراير 2002 قتل عنتر زوابري زعيم الجماعة الإسلامية المسلحة في إحدى المعارك مما أدى إلى تقليل ملحوظ في نشاط الجماعة.
تم الإفراج عن عباسي مدني، وغادر الجزائر إلى قطر حتى وفاته عام 2019، وأفرج عن علي بلحاج وحاول الترشح لانتخابات 2014 لكن ملف تم رفضه.