انهيار الليرة التركية مقابل الدولار لم يكن مجرد أزمة عابرة.. الأزمة كشفت الكثير من “التفاصيل الخفية” التي أدار بها رجب طيب أردوغان النمو الاقتصادي المثير للحسد في تركيا منذ وصول حزب العدالة والتنمية للحكم.
الدور هذه المرة جاء على أزمة تراكم القروض الرديئة خصوصًا في قطاع الطاقة.
حكومة أردوغان تضغط حاليًا على البنوك لتمرير خطة الإنقاذ التي تستهدف التعامل مع الأزمة، لكن الأمور لا تسير كما تخطط أنقرة حتى الآن.
فلماذا ظهرت مشكلة القروض الرديئة؟ وما خطط الحل؟ لماذا تعطلها البنوك؟ وهل يتحمل الاقتصاد التركي تكاليف تمويل الخطة؟ رويترز رصدت الإجابة عبر مقابلات صحفية أجرتها مع أكثر من عشرة من المصرفيين والمستثمرين والمستشارين والمديرين التنفيذيين للشركات. نلخصها عبر:
في قلب الأزمة الاقتصادية في تركيا، هناك سنوات من الأموال الرخيصة التي أدت إلى طفرة مدفوعة بقطاع البناء في عهد رجب طيب أردوغان.
شركات الطاقة حصلت على نحو 70 مليار دولار في شكل قروض بالعملات الأجنبية خلال العقد الماضي، لم تسدد إلا ثلثها حتى الآن.
القروض مولت مضاعفة الطاقة الإنتاجية من التيار الكهربائي تقريبًا، وكذلك خصخصة الشبكات في تركيا من 2007 إلى 2017، لكن تباطؤ الطلب وانخفاض الأسعار بنسبة 40٪ بالدولار في السنوات الخمس الماضية، ترك العديد من مصانع الغاز والفحم تعمل في أعماق المنطقة الحمراء، حسبما ذكرت المصادر.
وبانهيار الليرة العام الماضي، لم تتمكن الشركات من سداد الديون، لتضع المقرضين بدورهم في أزمة.
وتستمر الليرة التركية في الانخفاض بعدما خسرت نحو 40٪ من قيمتها مقابل الدولار منذ 2017، مما زاد الحاجة الملحة لإنقاذ شركات الغاز والفحم.
وخضع حوالي 16 مليار دولار فقط من إجمالي 400 مليار دولار من القروض في القطاع المصرفي في تركيا لإعادة هيكلة اعتبارًا من مارس/ أذار، بينما يتوقع محللون تضاعف نسبة القروض المتعثرة إلى 8٪ بحلول نهاية العام.
وتصل ديون الشركات التركية إلى نحو 40٪ من إجمالي الناتج المحلي، وهو ما يتجاوز النسب في الأسواق الناشئة العشر الكبرى في أوربا الشرقية وجنوب أفريقيا، والتي بلغ متوسطها مجتمعة 22٪، وفقا لبيانات جمعتها وكالة بلومبرغ.
زاد الأمر سوءًا بالنسبة للمقرضين الاضطرار إلى إعادة ترتيب القروض، ما أدى لانخفاض تقييماتها بأكثر من النصف خلال السنوات الثلاث الماضية.
وتضغط الحكومة التركية على البنوك للموافقة على خطة إنقاذ للتخلص من نحو 13 مليار دولار من القروض الرديئة في قطاع الطاقة، وهي واحدة من أسوأ مخلفات أزمة الليرة العام الماضي، لكن بعض البنوك ما زالت ترفض الرضوخ.
لم تكشف الحكومة حتى الآن سوى القليل عن خطتها، باستثناء خطوط عريضة أعلنها وزير المالية بيرات البيرق الشهر الماضي، عندما قال إن صناديق ستؤسس خارج الموازنة لحل أزمة القروض الرديئة في قطاع الطاقة، وإن 4.9 مليار دولار ستُضخ في بنوك حكومية.
وانبثقت خطة الإنقاذ المقدمة من البيرق الشهر الماضي من أربعة خيارات محتملة عرضها المصرفيون والمسؤولون التنفيذيون في مناقشات جرت في وقت سابق من هذا العام، وفقًا لشخصين مطلعين.
الاقتراحات شملت رفع أسعار الطاقة بشكل كبير، أو ترك القروض معلقة في البنوك، وهو الاقتراح الذي رفضه المقرضون، ونقل ملكية المصانع إلى شركة لإنتاج الكهرباء تابعة للدولة، وهو ما رفضته الحكومة.
والأسبوع الماضي، حدد إبرو إدن، المدير التنفيذي لمصرف جرانتي التركي، قيمة القروض التي تحتاج إعادة هيكلة بحدود 12 إلى 13 مليار دولار، وقال إن صندوقًا قابضًا سيشرف عليها، لكن بعض المصادر تعتقد أن القيمة أعلى من ذلك.
اثنان من المصادر أكدا لرويترز أن بيرات البيرق ومسؤولين آخرين في وزارة الخزانة قدموا خطة عملهم لكبار المصرفيين في اجتماع في أبريل/ نيسان.
كجزء من ذلك، سترفع الحكومة أسعار الكهرباء بفارق ضئيل لا يناسب الزيادة التي طلبتها البنوك.
وستجري هيكلة الصندوق القابض بطريقة تجمع مصانع الغاز والفحم استعدادًا لعملية بيع محتملة بمجرد تعافي الاقتصاد واستعادة الطلب على الطاقة.
المخاطر التي تواجه الاقتصادي التركي حاليًا كبيرة للغاية. يؤكد محللون أن خطة الإنقاذ هي خطوة أولى من خطوات عديدة لازمة للخروج من الركود ووقف عمليات التخلص المتسارع لليرة التركية، بما في ذلك إصلاح القطاعات العقارية والبنائية الضخمة والمضطربة.
ويتوقف استقرار الليرة وتعافي الاقتصاد التركي على سرعة ومصداقية تنفيذ خطة إنقاذ قطاع الطاقة، وسط مخاوف من الفشل في كسب ثقة المستثمرين الذي سيفتح الأبواب أمام أزمة أخرى ستهز بالتبعية الأسواق الناشئة الأخرى.
التشاؤم يعود إلى أن الحكومة لم تقدم إجابات شافية للأسئلة المتعلقة حول مصير القروض وتمويلها وحمايتها قانونًا، فضلًا عن مدى استعداد الحكومة لرفع أسعار الطاقة قبل انتخابات الإعادة في بلدية إسطنبول في 23 يونيو/ حزيران، ومستوى المخاطرة في الأصول الذي تبدو أنقرة مستعدة لتحمله.
مستثمرون أجانب كبار، مثل سيربيروس كابيتال مانجمنت وكولبرج كرافيس روبرتس بعثوا مندوبيهم إلى تركيا بالفعل، في محاولة لشراء القروض الرديئة المتعثرة.
النهج البطيء كان واضحًا كذلك في اجتماع مع بنك جولدمان ساكس ودويتشه بنك ومستثمرين مثل باين وسيربيروس في إسطنبول يوم الخميس، حيث قال ثلاثة من الحاضرين إن المصرفيين الأتراك لم يظهروا أي استعجال باتجاه بيع قروضهم المتعثرة.
أحد المصرفيين المشاركين في مناقشات الخطة قال إن بنكين فقط يمضيان قدمًا في العملية، بينما ترى البنوك الأخرى عوائق خطيرة، وتحاول تجنب التورط فيها.
وترى البنوك أن رفع الأسعار هي الطريقة الوحيدة التي تستطيع بها محطات الغاز والفحم المتعثرة توليد الدخل، وبالتالي إمكانية سداد الديون، بينما قال مصدر إن مسؤولي وزارة الخزانة أجلوا التفكير في رفع أسعار الكهرباء، بواقع 44 دولارًا لكل ميجاوات / ساعة في العام الماضي، حتى الانتهاء من الانتخابات البلدية التي أجريت في 31 مارس/ أذار، والتي مني فيها حزب العدالة والتنمية الحاكم بهزائم في أنقرة وإزمير، بجانب إسطنبول التي ستعاد فيها الانتخابات.
أحد المصادر المطلعة على المحادثات أكد أن البنوك لا ترغب في امتلاك أي محطات كهرباء يصعب بيعها لاحقًا، بينما تحاول الحكومة التملص من تحمل العبء الأكبر من تكاليف الحل.
وزارة الخزانة كانت تأمل في تحديد موعد نهائي هذا الصيف لكشف تفاصيل خطة الإنقاذ الخاصة، لكن العديد من المصادر المشاركة في المناقشات حول الخطة تقول إن الجدول الزمني يبدو طموحًا للغاية.
يقول مصدر مصرفي إن الاجتماعات الأخيرة ناقشت إكمال إجراءات تأسيس الصندوق القابض خلال شهر واحد، لكن البنوك احتاجت إلى لوائح إضافية، تخضع للنقاش حاليًا.
يضيف مصدر آخر إن تركيا لن تتمكن من تنفيذ خطة الإنقاذ في يونيو أو يوليو، بينما يشير آخر إلى محاولة البنوك إطالة أمد العملية حتى لا تلاحقها خسائر القروض في سنة واحدة.
إحدى العقبات التي تواجه خطة الإنقاذ تتمثل في الحاجة المحتملة لإدخال تعديلات قانونية تمكن البنوك من بيع القروض المتعثرة.
وتعمل أنقرة مع المقرضين لصياغة تشريع يحميهم من الخسائر الحادة عبر إزالة الديون من دفاترهم، وتعبئتها بأمان في شكل صناديق، قبل بيعها إلى مستثمرين أجانب ربما خلال بضع سنوات.
ثلاثة مصادر قالت إن التعديلات قيد النظر قد تسمح للمقرضين بحساب شطب الديون مقابل الضرائب، في حين قال اثنان منهم إنه يمكن وضع قانون مماثل بشأن إعادة رسملة الأصول.
وقد تحتاج أنقرة أيضًا إلى النظر في تشريعات أخرى لإجبار الشركات والبنوك على الاعتراف بخسائرها.
وقال مصرفيون ومستشارون لرويترز إن الأمر سيستغرق أكثر من بضعة أشهر لتشريع كل هذه التغييرات.
لا يزال من غير الواضح التأثير الفوري لعملية الإنقاذ على ميزانية تركيا السنوية البالغة 156 مليار دولار، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن العديد من الشركات مملوكة ملكية خاصة.
إدوارد باركر، العضو المنتدب لشركة فيتش راتنجز ورئيس المجموعة التي تغطي تركيا، يقول إن استبعاد القروض المتعثرة من البنوك ليس مأدبة غداء مجانية.
ويرى باركر أن إعادة الرسملة أمر جيد للاقتصاد حتى لو كان يكلف أموالًا، لكنه يحذر من إمكانية تأثير التكلفة الكبيرة على الائتمان السيادي.