كانت الأزمة التي تعرضت لها الليرة التركية في أغسطس الماضي من الضربات القاصمة التي تلقاها الاقتصاد التركي، تاركة أصداء سلبية على الاقتصاد العالمي، والأوروبي على وجه التحديد؛ إذ عكست هشاشة الأوضاع الاقتصادية التركية على مستوى التضخم والقدرة الشرائية للعملة المحلية وضعف القطاعات الإنتاجية للاقتصاد.
لكن، على ما يبدو فإن فصولًا جديدة من هذه الأزمة لم تظهر بعد، رغم تراجع حالة انهيار الليرة التركية، وسيطرة الحكومة إلى حدٍ ما على ارتفاع أسعار المستهلك.
الأنظار الآن تتجه إلى الليرة التركية بشكل أكثر تركيزا. بعد أن ظهرت مع انتكاسة حزب إردوغان في انتخابات البلديات الكبرى أولى النتائج السياسية للحالة الاقتصادية.
هل تقود نتائج البلديات إردوغان إلى اتخاذ إجراءات تؤثر سلبا على الليرة. نستعرض العوامل المختلفة في
رغم جهود السلطات النقدية، لا تزال فرص أنقرة في تحقيق استقرار الأسعار ضئيلة لأسباب خارجة عن نطاق الاقتصاد، وعوامل تخرج من أروقة النظام السياسي.
مؤخرًا، ظهرت توقعات بأن يفتح الرئيس رجب طيب إردوغان النار على البنك المركزي، مطالبًا بخفض معدل الفائدة رغم ارتفاع التضخم.
تزايد احتمالات ضغط إردوغان على البنك المركزي يضع علامات استفهام حول استقلالية السلطات النقدية في البلاد، في اتجاه بدء جولة جديدة من التيسير الكمي التي تتضمن في المقام الأول خفض معدل الفائدة، وسط توقعات باضطراب معدل التضخم وميله إلى الارتفاع في الفترة المقبلة.
قد يبدو الأمر محيرا لغير المتخصصين. حيث تخفيض الفائدة – عادة – يغري المدخرين بإخراج نقودهم من البنوك، وتوجيهها إلى الشراء. كما يغري المستثمرين بمزيد من الاقتراض دون خوف من ارتفاع تكلفة فوائد الدين. كما يشجع الحكومة نفسها على مزيد من الاستدانة لإنجاز مشاريع تشغل اليد العاملة.
هذا في الحالة الطبيعية. لكن المشكلة في تركيا أن العملة المحلية فقدت قيمتها، وبالتالي يتخوف اقتصاديون من أن تخفيض الفائدة في هذه الحالة سيشجع مزيدا من الاقتراض، لكنه لن يغير كثيرا في إقبال المواطنين الذين يمتلكون العملة المحلية على الاستهلاك. كما يخشون من زيادة الإنفاق الحكومي الذي سيزاحم القطاع الخاص وبالتالي يقضي على ميزة تشجيع الاستثمار.
النتيجة هنا لا تعتمد على الاقتصاد فقط، بل على عوامل سياسية من الصعب التكهن بمسارها. ربما ينجح المسار الإردوغاني من الناحية الاقتصادية. لكن – وهذه لكن كبيرة – ربما تؤدي أزمات تركيا السياسية المتلاحقة، وتدهور علاقاتها مع شركاء اقتصاديين مهمين، إلى مزيد من التدهور في سعر العملة يجعل خطة إردوغان الاقتصادية تعمق الأزمة.
هذا موطن الحيرة في إدارة الاقتصاد، أن الحالة الاقتصادية ليست معادلة رياضية مباشرة، بل هي خليط من عوامل كثيرة، ربما تظل مجهولة لمتخذي القرار، وتسفر عن نتيجة مختلفة للمعادلة الرياضية. وهو ما ينقلنا إلى السؤال التالي عن العوامل – المعلومة للاقتصاديين – التي تسببت في الأزمة.
ودخل الاقتصاد التركي في حالة من الركود للمرة الأولى خلال عشر سنوات في الربع الأخير من 2018. في البداية سجلت القراءة الفعلية للناتج المحلي الإجمالي 3.00% لكنها هبطت إلى 2.4% فقط بعد صدور القراءة المراجعة، وهو ما يرجع بصفة أساسية لانهيار العملة المحلية التي فقدت حوالي 40% من قيمتها العام الماضي بسبب الأزمة التي تعرضت لها تركيا في ربع السنة المنتهي في ديسمبر الماضي.
تعرض الناتج المحلي الإجمالي التركي للهبوط لعدة عوامل بخلاف انهيار العملة، الذي كان عرضًا أكثر من كونه سببًا للأزمة.
العوامل تضمنت تراجع نشاط الائتمان بواقع 7.2% في ربع السنة الأخير من 2018، وتدهور أداء قطاع الصناعة إلى أدنى مستوياته في تسع سنوات، وتراجع الثقة في الاقتصاد التركي إلى أدنى مستوى منذ 2009، علاوة على وصول إجمالي إعادة هيكلة الدين لأكبر الشركات التركية إلى حوالي 24 مليار دولار.
يفضل إردوغان استخدام النمو الاقتصادي كأداة سياسية في المقام الأول من أجل الترويج لحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، ما يجعل تدهور النمو التركي من العوامل التي تدفع الرئيس للضغط على البنك المركزي باتجاه خفض الفائدة خلال أبريل الجاري.
وتزيد نتائج الانتخابات البدلية من احتمالات أن يفتح النظام السياسي في تركيا النار على البنك المركزي، حيث أثبتت النتائج تراجع شعبية حزب الرئيس وتضاؤل مقاعده.
وحال زيادة الضغوط على البنك المركزي، قد يلجأ مسؤولو السلطات النقدية إلى التضحية باستقرار الأسعار لصالح النمو؛ عبر توفير ائتمانات وسيولة في الأسواق مقابل معدلات فائدة أقل، مما يشجع على الاقتراض، ومن ثَمَ الإسراع من الوتيرة التي تسير عليها عجلة النمو.
نتيجة مسح أجرته شبكة بلومبرج الاقتصادية أشارت إلى أنه من المتوقع أن يخفض البنك المركزي التركي الفائدة بواقع 450 نقطة أساس، في إطار رحلة التيسير النقدي التي يرجح أن يبدأها البنك في 25 أبريل بواقع 50 نقطة أساس.
واستخدمت السلطات النقدية في تركيا عدة وسائل غير تقليدية في مواجهة تضخم أسعار المستهلك، أبرزها رفع الفائدة، وخفض معدل الواردات، وبيع المنتجات الغذائية بأسعار مخفضة لتفادي ارتفاع أسعار الاستهلاك، مما ساعد البنك المركزي على الارتقاء بالمعدل السنوي للائتمانات الشهر الماضي، وهو ما حدث للمرة الأولى منذ أغسطس 2018.
استفادت الدولة التركية اقتصاديا من انهيار الليرة وأزمة ارتفاع التضخم، إذ أدت إلى تراجع في الطلب المحلي، ومن ثَمَ انخفاض ملحوظ في الواردات، والذي أحدث بدوره تراجعًا لعجز الحساب الجاري، الذي تحول إلى فائض عند حسابه باستثناء منتجات الطاقة والذهب.
كما ارتفعت احتياطات النقد الأجنبي بحوالي 3.5 مليار دولار، بما ساعد الاقتصاد على التعافي النسبي من أزمة الليرة، وأزال مخاوف مسؤولي النقد والاقتصاد في أنقرة حيال إمكانية تعرض البلاد لفجوات تمويلية واسعة بتجاوز الالتزامات الخارجية للحكومة حجم العائدات الدولارية.
لكن – كما أشرنا سابقا – يأتي هذا على حساب جودة عيش المواطن التركي. وهو العامل السياسي الذي يخشاه إردوغان. ويجعل السؤال التالي سؤال الساعة.
لا يزال التضخم قريبًا من 20%. ولم يحقق الاقتصاد التركي التعافي الكامل من أزمة أغسطس الماضي، وهي الأوضاع التي تحتاج لتمهل البنك المركزي قبل التحرك بمعدل الفائدة في الاتجاه الهابط.
لكن الإدارة التركية قد يكون لها رأي آخر في إجراءات البنك المركزي، وما يمكن أن يتعرض له معدل الفائدة من ارتفاع قد يؤدي إلى المزيد من تراجع النمو الاقتصادي، وهو الرأي الذي يتوقع أن يعارضه إردوغان بقوة لتعارضه مع مصالحه السياسية هو وحزبه الحاكم.
وقد نرى في الأيام القليلة المقبلة انتقادات من قبل الرئيس التركي للسياسة النقدية علاوة على المطالبة بخفض الفائدة من أجل دعم السيولة في الأسواق بتكلفة منخفضة واستمرار تعافي النمو في البلاد، أملًا في استعادة شعبية الرئيس وحزبه الحاكم.