لسنوات طويلة، اعتمدت أوروبا بشكل رئيسي على الحماية الأمريكية في مواجهة الاتحاد السوفيتي. ومع سقوط الأخير، توقع كثيرون اختفاء الناتو بانتهاء مهمته، لكن الحلف نجح في البقاء مع تجديد أهدافه بحماية النظام الليبرالي الدولي، والتدخل عسكريًا لفرض القيم الديمقراطية أو حماية حقوق الإنسان.
يمر الحلف اليوم بمنعطف جديد على أثر التحول في التوجهات الأمريكية، وخلاف الإدارة الأمريكية مع مبادئ “النظام العالمي الجديد”، لتجد أوروبا نفسها في موقف يتطلب التحرك بعيدًا عن المصالح الأمريكية، ما قد يصل إلى إنشاء جيش مستقل.
لم يبدأ الأمر خلال الأسابيع القليلة الماضية. سبق دعوة ماكرون لإنشاء جيش موحد تصريحات لرئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر في مايو 2015، دعا خلالها دول الاتحاد إلى استحداث جيش أوروبي؛ لردع روسيا، وإظهار أن دول القارة مستعدة للدفاع عن نفسها بنفسها.
ومثل خروج بريطانيا لحظة فارقة في اتخاذ الأوروبيين الأمر بجدية؛ فقد ينفرط الاتحاد دولة وراء الأخرى في ظل صعود اليمين القومي، ولن تسمح أوروبا لنفسها بالوقوف في العراء بانتظار المظلة الأمريكية.
بدأت ألمانيا في شحذ جهودها الدفاعية، واتخاذ إجراءات تدعيمية لجيشها المتأخر نسبيًا بين القوى الدولية، وارتفع الإنفاق العسكري الألماني بنسبة 4.2% في 2016، ثم 8% في 2017، مقارنة بما قبل البريكست، وكان الجيش الألماني قد وصل إلى حالة يُرثى لها بعد تراجع عدد طائراته إلى 18 فقط قابلة للاستخدام.
ارتفع عدد العاملين بالخدمة العسكرية الفعلية في ألمانيا إلى 178 ألف جندي مقابل 176 ألفًا في صيف 2016. وامتدت الجهود الألمانية إلى محاولة دمج قواتها مع بعض دول الاتحاد الأوروبي الصغيرة عسكريًا، إذ ضمت قوات التدخل الألمانية لصفوفها أربعة لواءات خارجية، بواقع لواءين من هولندا ولواء من كل من التشيك ورومانيا.
س/ج في دقائق: ما البريكست وماذا يحدث في بريطانيا؟
ومع وصول ترامب ورفضه الدفاع عن أوروبا في ظل عدم إنفاق دولها ما يكفي، طالبت واشنطن بزيادة إنفاق الدول الأوروبية على الناتو، بعدما وصل الإنفاق الأمريكي إلى 75% من إجمالي النفقات، بينما تتقسم النسبة الباقية على بقية الأعضاء (27 دولة). أوباما أيضًا طالب في 2016 بزيادة نسبة إنفاق دول الحلف إلى 2% من إجمالي الإنتاج المحلي، لكنه لم يتخذ خطوات عملية.
لا يتعلق الأمر بالتكلفة المالية فقط، إذ يروج ترامب لعدم جدوى التحالف استراتيجيًا بالنسبة للمصالح الأمريكية بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وتضاؤل التهديد الروسي، مع وضع ترامب الاتحاد الأوروبي ضمن خصوم الولايات المتحدة، بجوار الصين وروسيا.
ظهرت الاستجابة الأوروبية سريعًا، لا سيما من جانب ألمانيا وفرنسا، وتسارعت الوتيرة في محاولة الاستعداد لمرحلة ما بعد الحماية الأمريكية، وقررت دول الاتحاد الأوروبي في يونيو/ حزيران 2017 تأسيس صندوق مشترك لتسليح وتمويل المهام العسكرية للاتحاد بقيمة تمويل سنوي تتخطى الـ 5.5 مليار دولار في 2020، كخطوة أولى لتفعيل خطة الدفاع الأوروبية المشتركة، ودعت لإنشاء قوة دفاع مستقلة، كما دعا الرئيس الفرنسي الدول الأوروبية في نوفمبر/تشرين الثاني 2018 لإنشاء جيش مستقل يدافع عن أوروبا في مواجهة الصين وروسيا و”الولايات المتحدة”.
س/ج في دقائق: ألغاز الـ GRU تتواصل.. ماذا نعرف عن استخبارات روسيا العسكرية؟
بخلاف توتر العلاقات مع ترامب، يمكن الإشارة إلى عوامل رئيسية تقود دول الاتحاد لتأسيس جيش أوروبي موحد:
تايم لاين في دقائق: كعكعة إدلب على مائدة بوتين – أردوغان
هل تعتقد أن الديمقراطية مجرد إجراءات وقرارات يمكن اتخاذها وتنفيذها بجرة قلم؟ تاريخ الديمقراطية في بريطانيا ربما يعطيك فكرة أخرى #دقائق
Posted by دقائق on Thursday, June 28, 2018
تجدر الإشارة إلى أنه حال وصول الانفاق العسكري الأوروبي إلى 2% من إجمالي الناتج المحلي، فإن الميزانية ستقفز إلى 385 مليار دولار، مقارنة بــ 270 مليار دولار حاليًا، ما يجعلها تقارب ضعف الإنفاق العسكري الروسي.
لذا يمكن القول إن هذه المساعي مجرد مقدمة لمحاولة تعظيم النفوذ الأوروبي داخل الناتو بما يسمح بتحقيق المصالح الأوروبية، وتوفير مرونة أكبر للتحرك الخارجي عسكريًا.
وفي حال فشل تلك المحاولة، فلن يكون أمام أوروبا سوى تأسيس جيش مستقل خلال الأعوام المقبلة، أو تعرض الاتحاد للتفكك، خصوصًا حال استمرار صعود تيار اليمين القومي في أوروبا