لعبة الأرقام ستظل ممتعة.. أغرب ما توحي به أن مطربًا بحجم عمرو دياب لم يكن يومًا بين الفائقين بنسب المشاهدة منذ تأسيس يوتيوب، ما يدفع البعض في كثير من الظروف للتشكيك في كونه الأكثر شعبية، اللقب الذي توارثه الهضبة على مدار 30 عامًا وتؤكده ثقافتنا الجمعية، لكن معيار اليوتيوب يرفضه.
خمسة أيام مرت على صدور ألبوم عمرو دياب الجديد “سهران” بعدما طرحته شركة اتصالات تتربح برسوم رمزية من استماعه. أثق أنني – ضمن فئة جماهيرية هي الأكبر في العالم العربي – استمعنا للألبوم مرارًا منذ ليلة صدوره. تداولناه بكل الوسائل الشرعية وغير الشرعية. تلقفنا الأغاني واحدة بعد الأخرى من هنا وهناك، نتراسلها فيما بيننا كما السوق السوداء والتجارة الممنوعة. نستمع وندقق ونقيم ونفرح ونحزن، نندهش أو لا نكترث، لكننا نلهث وراء المزيد. نريد الخمس أغنيات أن يصيروا عشرًا، والعشر أن يصيروا مئة.
ليلة نزول ألبوم عمرو دياب ما زالت الليلة المرتقبة التي يقف معها الزمن، ويعاد كتابة تاريخ الموسيقى المصرية، وإن انتقل مسرح تلك الليلة من أمام متاجر الكاسيت إلى أدغال الإنترنت وجوانبه المظلمة، غير الخاضعة للإحصاءات والأرقام.
منا من كان يسمع ليتذوق ويفهم ويمتع أذنيه وحواسه ويربط ما يسمع بذكرياته ليلة كل ألبوم، أو من يستغل الحالة لينتقد ويصول ويجول متسائلًا: “أين عمرو دياب بتاع زمان؟” ويعلن استياءه من تكرار الكلمات والألحان والتوزيعات تلك المرة وفي كل مرة.
إجمالًا، كنا جحافل مليونية في تلك الليلة، التي لا يحظى بمثل زخمها الجماهيري أي مطرب في العالم. لكننا جميعًا استيقظنا بعد أيام من التوحد مع الألبوم لنتفاجأ بحقيقة عجيبة، وهي أن صدى تلك الليالي الأولى من جديد الهضبة قد “ضاع” ولم يوثقه يوتيوب وساوند كلاود. وبالتالي لن نراه ضمن قائمة ينشرها إيلون ماسك ولن يسمع به أحد، وسيستغله الكارهون في التشكيك في شعبية الهضبة. ولن تكذب “الأرقام” كلامهم!
النتيجة أن تعاقد عمرو دياب مع شركة الاتصالات يجرده سنويًا من نيشان يوتيوب لنسب المشاهدة الأعلى؛ بسبب تأخر إتاحة الأغنيات عليه، بعكس كل المطربين الذين تبدأ أغنياتهم رحلتها من تلك المنصة فتوثق كل ذرة من نجاحاتهم.
حتى وإن صدرت أغنيات عمرو بعد فترة على يوتيوب تكون قد حُرقت بالفعل، واحتفظ بها المستمع على هاتفه أو اشترى الاسطوانة الأصلية.
لكن، مع ذلك، تظل أغنيات الهضبة تحقق نسب مشاهدة معقولة على يوتيوب رغم حرمانها من الأسبوع الأول من صدور أي عمل موسيقي أو سينمائي، والذي يستحوذ على النسب الأكبر من نجاحه ويمثل الدفعة الأولى لانتشاره.
ذلك السر هو ما أبعد عمرو دياب لسنوات عن قمم يوتيوب المحتكرة حاليا بواسطة أغاني المهرجانات والأغاني الشعبية. فيظل حسن شاكوش متربعًا بصاروخه الغنائي “بنت الجيران”، وهي بالفعل أغنية أخاذة، وقد تكون بالفعل الأعلى مشاهدة على الإطلاق في فترة زمنية معينة، وشرحنا في مقال سابق سبب نجاحها، لكن مثلها مثل “لولاكي”، و “3 دقات”، وغيرهم من الأغاني مذهلة النجاح لمطربين بلا مشروعات أو نفس طويل.
بنت الجيران.. أغاني المهرجانات تكسب شوطًا فنيًا جديدًا | أمجد جمال
إن كنت لا تزال تقرأ المقال فعلى الأغلب أنت من جمهور عمرو دياب وصرت تقرأ السطور الأخيرة باستياء لمجرد وضع اسم عمرو دياب بجوار اسم حسن شاكوش.
لكن على العكس تمامًا، كلامي يؤكد أن المعادلة منذ نهاية عقد الثمانينيات وحتى اللحظة تتكون مما يلي: عمرو دياب + مطرب ناجح يثير الضجة الأكبر بآخر أعماله.
هذا المطرب الآخر في فترة كان محمد فؤاد، ثم كان راغب علامة ثم كاظم الساهر ثم حكيم ثم شعبان عبد الرحيم، ثم تامر وشيرين، ثم أوكا وأورتيجا. ما تغير أنه الآن أصبح حسن شاكوش.. كلهم كانوا عناصر متغيرة في المعادلة.
تستطيع التأكد من نظرية طرف المعادلة الثابت من خلال تلك المانشيتات الصحفية المأخوذة في فترات زمنية مختلفة، وستعرف أن هوس المقارنات الظالمة قديم ولم يولد الآن. المدهش أن الصحافة المصرية وأصحاب الأقلام والأرقام عندما فشلوا في إيجاد مطرب ليقارنوا نجاح شرائطه بشرائط عمرو دياب انتقلوا إلى شرائط الدعاة الدينيين. وكأن خط عمرو دياب هو المعيار الذي يقاس به وعليه كل شيء!
سالمونيلا.. هل أصبحت الأغاني أذكى من الجمهور؟ | أمجد جمال
الهضبة نفسه لا يبدو منشغلًا بمسألة أرقام المشاهدة أو بصناعة الأغنية “الهيت”، رغم أنه عرف مذاق نجاح هذه النوعية أيام “نور العين” و”ميال”، لكنه أكثر اهتمامًا بالأغنية التي تعيش، وباستمرار الكيان نفسه. يريد الانتشار بمبدأ أن نسمع عمرو دياب لا أن نسمع أغنية معينة لعمرو دياب.
لذا، لم يصب بالذعر من الحرق المتواصل لأغنياته قبل توزيعها بواسطة شركة الاتصالات، أو يلغي تعاقده معهم. والمثير للتوقف ما ذكره في لقاء إعلامي أخير، حين أكد أنه ما زال يحمل على عاتقه ثقافة الألبوم لا ثقافة الأغنية المنفردة، يريد تقديم الوجبة كاملة الدسم للمستمع، والوجبات الدسمة لا تُهضم سريعًا، ولا تهضم بسهولة.
عمرو ليس الأعلى على يوتيوب لأسباب شرحناها، لكنه الأعلى بأرقام متاجر الأسطوانات وأيتونز ووفق أرقام منصات الاستماع المدفوعة، ذلك لأن ما يقدمه قيّم، ولأنه قيّم تسعى الشركات لاحتكاره لبضعة أيام، بينما لا تأبه نفس الشركات باحتكار أغنيات غيره من المطربين، وأغنيات عمرو دياب يسعى خلفها المتلقي على مراحل: مرة لسماعها بجودة الصوت السيئة، ومرة بجودة الصوت الأصلية، ومرة أخيرة لاقتنائها. وهو مثل أي فنان مغرم بالنجاح، لكن شتان الفارق بين النجاح والترند.
عمرو دياب.. الحُب وَحدهُ يَكفي جدًا
سهران (2) | تحليل شامل لأغنيات ألبوم عمرو دياب الجديد.. هل يكرر نفسه؟| أمجد جمال