شجرة طولها 15 مترا وعرضها رفيع نوعا ما، تنبت في عمق الغابات المطيرة بجبال الأنديز على طول الساحل الغربي لأمريكا الجنوبية. قد لا تكون معروفة حاليًا، لكن المركب المستخرج من لحائها أنقذ الملايين على مدار تاريخ البشرية، ولا يزال يفعل حاليًا. هي شجرة السينشونا.
تقول ناتالي كانيلاس، عالمة الأحياء بمتحف التاريخ الطبيعي في الدنمارك، إن مادة "الكينين" المستخرجة من لحائها كانت أول دواء مضاد للملاريا في العالم.
على مدار قرون، وبسبب البعوض، أصابت الملاريا الناس في جميع أنحاء العالم. أرهقت الإمبراطورية الرومانية. ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية، قتلت ما بين 150 و300 مليون شخص في القرن العشرين، ولا تزال تهدد نصف سكان العالم الذين يعيشون في مناطق المرض.
علاج الملاريا قديمًا كان متخلفًا وقاسيًا. اعتقد العلماء خطأ أن المرض ينتقل عبر الهواء حتى أن "ملاريا" في الإيطالية تعني الهواء السيء، وتراوحت طرق العلاج حينها ما بين بتر الأطراف أو ثقب حفرة في الجمجمة.
لكن في القرن الـ17 قدمت لنا الكونتيسة سينشونا أوفيسيناليس زوجة حاكم بيرو هدية بعد إصابتها بالملاريا.
بعد إصابة الزوجة، قرر حاكم بيرو إعطاء زوجته شرابًا أعده كهنة، الشراب مستخرج من لحاء شجرة الأنديز مخلوطًا بشراب القرنفل وعصير الورد وأعشاب طبيعية أخرى، ليجعل طعمه مستساغًا.
سرعان ما تعافت الكونتيسة، واعتبروها معجزة أطلقوا عليها معجزة "سينشونا". وتخليدًا للواقعة أطلق اسم "سينشونا" على الشجرة المقصودة، وهي الآن الشجرة الوطنية لبيرو.
رغم وجود جدل بين العلماء حول نشأة الدواء، إلا أن جزءًا كبيرًا منها يبقى صحيحًا على أية حال، فـ"الكينين" وهو مركب قلوي قوي ومستخرج من لحاء الشجرة يمكنه أن يقتل الملاريا.
تقول كانيالس: "الكينين كان معروفًا بالفعل لدى شعوب الكيشوا والكاناري والشيمو الأصلية التي عاشت قبل العصور الحديثة في بيرو وبوليفيا والإكوادور وقبل وصول الإسبان. هذه الشعوب هي من عرفت الإسبان على الكينين، لتبدأ ثورة جديدة في تاريخ البشرية..
سحق القساوسة القرفة مع الكينين كي يصبح طعمه مستساغًا، وسميت الوجبة بـ"مسحوق المسيح"، وسرعان ما بدأت أخبارها تنتشر في جميع أنحاء العالم، وأنها علاج معجزة للملاريا، وبحلول 1640، كانت هناك طرقًا تجارية مخصصة لنقل لحاء سينشونا إلى جميع أنحاء العالم.
استخدمها الملك الفرنسي لويس الرابع عشر لعلاج الحمى. وفي روما، استخدمها الطبيب الخاص للبابا ووزعها الكهنة اليسوعيين مجانًا على الجمهور.
لكن البروتستانت قابلوا الأمر ببعض الشكوك ووصفه أطباء البروتستانت بـ"سم البابا".
يُقال إن القائد العسكري والسياسي الإنجليزي البروتستانتي أوليفر كرومويل توفي بمضاعفات الملاريا بعد رفضه "مسحوق المسيح".
وبحلول 1677 أدرج لحاء السينشونا لأول مرة من قبل الكلية الملكية للأطباء في لندن، كدواء رسمي يستخدمه الأطباء لعلاج المرضى. ثم تبدأ رحلة جديد مع قيام الإمبراطوريات.
في القرن التاسع عشر، واجهت الإمبراطوريات الأوروبية أكبر تهديد في مستعمراتها الخارجية، الملاريا. وفقًا لروهان روي مؤلف كتاب "ملاريا سبجكت" أصبح الحصول على الإمداد الكافي من الكينين ميزة استراتيجية في سباق الهيمنة العالمية. من هنا تحولت السينشونا لأحد أهم السلع في العالم وارتفعت قيمتها.
تزايد الطلب عليها خلال القرن الـ19 ولتغطية الطلب المتزايد عليها، استأجر الأوروبيون السكان المحليين للعثور على "شجرة الحمى" الثمينة داخل الغابات المطيرة، وكشط لحائها بمنجل ونقله إلى السفن المنتظرة في موانئ بيرو. ودفع الإسبان لإعلان المنطقة "صيدلية العالم".
يضيف ديب روي أن الكثير من الجنود كانوا يموتون بسبب الملاريا، ومادة الكينين مكنتهم أخيرًا من البقاء في المستعمرات الاستوائية وكسب الحروب والمعارك.
استخدمت أيضًا من قبل الفرنسيين في الجزائر ومن قبل الهولنديين في إندونيسيا، ومن قبل البريطانيين في الهند وجاميكا وجنوب شرق آسيا وغرب أفريقيا. وفي الفترة ما بين عامي 1848 و1816 أنفقت الحكومة البريطانية ما يعادل 6.4 مليون جنيه أسترليني سنويا على لحاء السينشونا وتخزينها لقواتها الاستعمارية.
الكينين بحسب المؤرخين واحد من أهم أدوات الإمبريالية الرئيسية التي دعمت الإمبراطورية البريطانية.
ليس اللحاء فقط ما اكتسب قيمة مهمة، البذور أيضا أصبح الطلب عليها مرتفعا، يقول ديب روي "أرادت الحكومتان البريطانية والهندية زراعة السينشونا في مستعمراتها الخاصة لوقف الاعتماد على أمريكا الجنوبية، لكن اختيار البذور الصحيحة لم يكن سهلا. السينشونا كانت 23 نوعا كل واحد منها يحتوي على مركب كيني مختلف،
لكن بفضل السكان المحليين الذين كان على دراية جيدة بأنواع البذور، أمكن للأوربيين تأمين الأنواع الجيدة وتصديرها إلى الخارج. لتكسب بعدا جديدا.
الجنود والموظفون البريطانيون، خلطوا الكينين مع مشروب "الجن" الكحولي، فأصبح طعمه أكثر استساغة، من هنا جاءت الفكرة الأولى لاختراع أول منشط مائي لا يزال يُستخدم حتى اليوم. أضيفت الكينين أيضا إلى الروم والبراندي والعرق. يقول ونستون تشرشل "الجن والكينين أنقذا حياة وعقول الإنجليز أكثر مما فعل الأطباء في الإمبراطورية البريطانية".
في البيرو، المشروب الأكثر شهرة يسمى "البيسكو" هو الكينين مخلوطًا بالذرة الأرجوانية المستخرجة أيضا من جبال الأنديز، وهو مكون أساسي في المشروب الوطني لاسكتلندا "Irn-Bru" والمشروب المفضل للملكة إليزابيث الثانية. وأضيف أيضا إلى فاتح الشهية " الجين ودوبونيت" ووزع على القوات الفرنسية المتمركزة في شمال أفريقيا.
الكينين ظل العلاج الوحيد للملاريا حتى نهاية السبعينيات بعد اختراع مادة تسمى "الأرتيميسينين"، دواء مشتق من نبات الشيح الحلو، استخدمت كعلاج للملاريا.
بعد قرون من الطلب المستمر على "سينشونا" في 1805 وثق العلماء وجود 25 ألف شجرة فقط باقية في جبال الأنديز الإكوادورية. المنطقة الآن جزء من حديقة Podocarpus الوطنية وتضم 29 شجرة فقط.
استهداف الأنواع الغنية بالكينين في جبال الإنديز غير البنية التحتية لشجرة السينشوانا، كما تقول كانليس، الشجرة أصبحت قدرتها على التطور والتغيير أقل. جزء من عمل كاناليس بالتعاون مع الحدائق النباتية الملكية خارج لندن، هو فهم كيف يمكن للسلوك البشري أن يغير النبات، وهي الطريقة التي طورت بها السينشوانا كميات أقل من الكينين، السبب هو الإفراط في الحصاد.
تبادر مجموعات محلية حاليا وبمساعدة علماء، مثل المنظمة البيئية سيميلا، بمحاولات لحماية الشجرة من الانقراض، وتخطط لزراعة 2021 بذرة سينشوانا بمناسبة الذكرى 200 لاستقلال بيرو العام المقبل 2021. يأمل العلماء أن تحافظ مثل تلك الجهود على حمايتها من الانقراض.
العلاقة هنا ليست مباشرة.. سينشونا ليست علاجًا مباشرًا لفيروس كورونا. منشورات فيسبوك انتشرت حول هذا الأمر. تحمل بعض الحقيقة، لكنها ليست دقيقة بشكل كامل.
الهيدروكسي كلوروكين - الذي يستخدم حاليًا على نطاق واسع عالميًا - هو نسخة من الكينيين المستخرج من السينشوانا، لكنها مطورة صناعيًا بشكل كامل. هو دواء صناعي طوره العلماء بناءً على التركيب الكيميائي للكينين، وإن لم يكن يحتوي الكينين ضمن تركيبته.
آلان أرمسترونج، أستاذ التركيب العضوي في امبريال كوليدج لندن قال لـ "رويترز" إن هيدروكسي كلوروكين مادة كيميائية مختلفة تماما عن الكينين. لكن، تاريخيًا، اكتشفنا هيدروكسي كلوروكين خلال الجهود المبذولة لتجميع بدائل الكينين كمضادات للملاريا".
رغم احتلال الأرتيميسينين مكان الكينين في علاج الملاريا، إلا أن إرث الكينين لا يزال محفورا اليوم في عمق الشعوب في جميع أنحاء العالم. كان السبب في أن تصبح بان دونغ في إندونيسيا ميناءً عالميًا رئيسيًا حين حولها الهولنديين إلى أكبر مركز لتداول الكينين في العالم. وبفضله باتت الشعوب تتحدث لغات أجنبية، الإنجليزية في الهند وهونج كونج وسيراليون وكينيا وسريلانكا الساحلية، والفرنسية في المغرب وتونس والجزائر.
في اللغة الإسبانية لا يزال هناك تعبير "ser más malo que la quina"، "أسوأ من الكينين" ، في إشارة إلى أي طعم مر.
بيرو وبوليفيا أيضا استفادو باحتكار صادرات لحاء السينشونا المربحة للغاية. شكلت 15% من إجمالي الإيرادات البوليفية، وخصصت منها بناء جزء كبير من كاتدرائية لاباز الكلاسيكية الجديدة ورصف مسارات لاباز السياحية حاليا بالحصى.
الأهم في قصة الكينين هو أن التنوع البيولوجي وصحة الإنسان يسيران جنباً إلى جنب. النباتات ليست طبا بديلا دائما، النباتات حققت اختراقات طبية رئيسية في تاريخ البشرية، كما تقول باتريشيا شلغينهاوف، أستاذة طب السفر بجامعة زيورخ.