باحث في جماعات الإسلام السياسي والتراث الإسلامي
في منتصف القرن التاسع عشر، شهدت الهند سلسلة من الثورات والحروب الطائفية بين المسلمين وغير المسلمين، وبين المسلمين أنفسهم، كان أشهرها ثورة الداعية أحمد بن عرفان السلفية الوهابية، التي انتشرت فيها فتاوى الجهاد والتكفير وإعلان الهند دار حرب.
انتهت الثورة بهزيمة أتباع ابن عرفان، وإنهاء حكم أسرة المغول المسلمين للهند، التي انتقلت لتبعية التاج البريطاني، وعلو شأن الطوائف غير المسلمة.
مع وصول المحتل البريطاني، شهدت الهند صدمة حضارية شبيهة بصدمة المصريين الحضارية مع وصول الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابارت.
هنا أدرك المصلح الهندي السيد أحمد خان (1817- 1879) جذور المشكلة، فدعا إلى إبطال المفهوم العبثي الفوضوي للجهاد، وإعادة النظر في كثير من المفاهيم الراسخة بين المسلمين، خصوصًا المتعلقة بالنظرة للحياة والعلاقة مع الآخر، وإلى ضرورة التعلم من الإنجليز والحوار معهم والاستفادة من علومهم وثقافتهم بدلًا من معاداتهم.
أفخاخ الإسلاميين: ٤- فخ الجهاد
دعا خان كذلك إلى تعلم العلوم العصرية والفلسفات الأوروبية، وكان لديه ميل للفلسفة المادية، وأسس جامعة عليكرة؛ أولى الجامعات الإسلامية في الهند، والتي كان لها دور رائد تمكين المسلمين هناك من اللحاق بالثقافة الحديثة.
أراء خان الدينية أغضبت بعض رجال الدين، خصوصًا ما يتعلق برؤيته لإعادة النظر في تفسير القرآن، التي غلب عليها التأويل والبعد عن الحرفية والتعامل مع روح النص، بنفس طريقة الشيخ محمد عبده في مصر، وكذلك تحفظه في التعامل مع الأحاديث؛ حيث كان يرى الاقتصار على الضروري منها مما لا يخالف العقل، وهو ما مهد لاحقا لظهور جماعة أهل القرآن في الهند وباكستان.
شيخ الأزهر، أحمد الطيب، أعاد في كلمته آراء هؤلاء الغاضبين.
في احتفال المولد النبوي، واصل شيخ الأزهر أحمد الطيب هجومه على دعاة تجديد الخطاب الديني، وإعادة النظر في نصوص السنة والأحاديث. الطيب متخصص في الفلسفة الإسلامية ودارس بجامعة السوربون، لكن خطابه خرج بلغة التيارات السلفية، وشمل نفس مغالطاتهم الشعبوية.
بدأ شيخ الأزهر خطابه بحديث تقليدي في مدح النبي، ثم قفز فجأة لغرضه الأساسي، معتبرًا أن الحفاظ على الأحاديث من لوازم محبة النبي، متبوعًا بهجوم استباقي على التيار القرآني، الذي يرى الاقتصار التشريعي على القرآن، ويشكك في حجية السنة، وهو ما ينسحب لدى المستمع – غير المميِز عادة- على كل دعاة تجديد الخطاب الديني. (كأنه يحول معركة التجديد الديني إلى معركة حول إثبات السنة أو إنكارها).
الحكاية في دقائق: أين يقف الطيب في المسافة بين السيسي والجماعات الدينية
واستمرارًا لنفس الخلط، أرخ الطيب لنشأة الهند في القرن التاسع عشر، مهاجمًا من وصفهم بـ “عملاء للاستعمار”، منتقدًا مناداتهم بـ “إبطال الجهاد”، قاصدًا – دون تسمية- حركة المصلح الهندي السيد أحمد خان.
في هذا الفيديو لمحة من خطابه.
خطاب شيح الأزهر نقل رواية الإسلاميين التقليدية الموازية التآمرية في تأريخ أحداث الهند في القرنين الماضيين، والمذكورة في كتب أبو الأعلى المودودي وأنور الجندي وغيرهما.
وبنفس الخلط المتعمد، اعتبر الطيب المتنبئ القادياني ميرزا غلام، مؤسس الديانة القاديانية، أحد نتائج هذه الدعوات.
والواقع أن ميرزا غلام لم يبدأ دعوته بإنكار السنة، بل كان واعظًا دينيًا صوفيًا، بنى دعوته على ما شاع في تلك الفترة لدى الوعاظ التقليديين نتيجة الحروب والفوضى من اقتراب ظهور المهدي، ثم حاول إظهار نفسه كإصلاحي معتدل وداعية للعقلانية، فاعتمد على بعض أفكار خان بعد وفاة الأخير.
وبعكس ما ذكره الطيب من اتهامه بالعمالة ومعاداة الدين، كان كثيرون ينظرون إلى خان في مصر حينها كونه زعيمًا قوميًا هنديًا مسلمًا عظيمًا، وباعث نهضة علمية وثقافية بين مسلمي الهند، أخرجتهم من طور العزلة والخرافة.
محمد رشيد رضا كتب يرثيه في مجلة المنار:
عظُم قدر الرجل في نفوس قومه بعد فقده، ولا يزال يعظم وينمو بنمو تعاليمه وانتشارها. ولا يعرف أقدار الرجال العظام في حياتهم إلا الأمم العالمة الراقية أعلى مراقي التمدن
ووصفه أحمد أمين في كتابه “زعماء الإصلاح، بقوله:
هو أشبه شيء في الهند بالشيخ محمد عبده. الإصلاح عندهما إصلاح التثقيف والتهذيب.
وحتى أبو الحسن الندوي، الداعية الهندي المقرب من الإسلاميين، مدحه وأشاد به، رغم لنتقاده لبعض أرائه الدينية، فيقول:
كان جمال الدين الأفغاني، المعروف بولائه للعثمانيين، من أوائل من أطلقوا ذلك الاتهام على خان وأتباعه، وأفضل من فند هذا الاتهام كان رشيد رضا، فيقول:
ويعلل أحمد أمين موقف خان من الإنجليز، رابطًا إياه بموقف الشيخ محمد عبده قائلًا:
“أما السيد أحمد خان ومحمد عبده فيريان أن الإنجليز خصوم شرفاء معقولون يمكن التفاهم معهم”.
ربما كان هذا هو السبب – السياسي – الذي جعل المقربين من فكرة الخلافة الإسلامية يتشددون نحوهما. كثير من الخلافات الدينية لدى النخبة هي في أصلها خلاف ولاءات سياسية.