أردنا أن نبحث للفيلم عن إشارة إلى بيوت الثمانينيات في مصر تختلف عن صورة “الولد اللي بيعيط”. هذه الصورة استخدمت كثيرا. وقتلت بحثا عن دلالتها وسبب انتشارها بهذه الكثافة. كما أنها لن تفيدنا بصريا، إذ تحمل مشاعرها الذاتية وستفرضها على المشهد. كلما ظهرت ظن المشاهدون أن هناك إشارة مقصودة إلى الحزن، حتى لو لم نكن نريدها.
الصورة الأخرى التي فكرنا – فكرت – فيها متحررةٌ من هذه الحمولة الشعورية. مجرد فاكهة في طبق. لا سعيدة ولا حزينة. وهي أيضا كانت معلقة في بيوت الثمانينيات. “طبق الفاكهة” باللهجة المصرية، كانت الاسم الذي أطلقه المصريون على اللوحة.
هذه اللوحة لم تكن فقط معلقة على الجدران، بل كانت أسلوب حياة، أو إن شئنا الدقة نقول إنها كانت “ديكور حياة”.
“طبق الفاكهة” صورة على الحائط.
“طبق الفاكهة” البلاستيك على ترابيزة الصالة.
شجر فاكهة بلاستيكي يستخدم للزينة حول الصالة، و في غرفة الصالون.
ورد بلاستيك معمر في الفازات، ينال من الغبار ما يناله بقية الأثاث، وعلاقته بالماء تقتصر على تغطيسه في حوض مملوء به لتنظيفه.
من أين أتى كل هذا البلاستيك إلى حياتنا؟!!!
لو عشت قبل ألف عام لكان موقعك من المجتمع معلوما لك بوضوح. طبقة حاكمة، حولها طبقة من النبلاء فالفرسان، فرجال الدين الكبار، وشريحة محدودة من التجار، هذا هرم المجتمع، ثم هوة كبيرة، فعامة الشعب.
والأهم من ذلك، كنت غالبا ستموت في الطبقة التي ولدت فيها. إلا لو عشت في حدوتة.
حسن مثلا كان شاطرا، اجتاز سبعة بحور وسبعة جبال وأتى بالترياق من عرين الغول. وعاد وتزوج الأميرة فصار أميرا.
علي بابا وجد مغارة سمارت. كلمة سرها ليست أليكسا ولا سيري. كلمة سرها سمسم. وداخلها دهب ياقوت مرجان. أحمدك يا رب. صار ثريا.
أما علاء الدين فوجد مصباحا وحكه، فخرج له مارد منحه ثلاث أمنيات. ما استهوتني في طفولتي رغبة قدر رغبتي في الحصول على مصباح شبيه. وحين كبرت اكتشفت أن أمما بحالها لا تزال تتملكها نفس الرغبة، وهي خطتها إلى التطور.
كان حسن وعلي بابا وعلاء الدين من سعداء الحظ الذين “ارتقوا اجتماعيا”. وكانت تلك وسائل ارتقائهم.
عامة الشعب يعملون في الزراعة، أو تقطيع الأخشاب، أو سقاء الماء، أو الحدادة. مجموعة بسيطة ومحدودة من الأنشطة الاقتصادية. وظيفتها غالبا سد الرمق، لا مراكمة الثروة. وكان مسار الترقي محدودا للغاية، ويكاد يقتصر على فرصة ضئيلة في إثبات مهارة استثئنائية في حمل السلاح. وهي مهارة تناقصية: قد تموت مباشرة، أو قد تغنم مرات ثم تموت، العدد القليل الذي يتبقى من هؤلاء المهرة، ولم يقتل في المرة الأولى ولا الثانية ولا العاشرة، قد يرتقي اجتماعيا.
عبر القرون تغير المجتمع تغيرا كبيرا حتى وصلنا إلى ما نحن عليه، وما نعرفه من ذاكرتنا المعاصرة.
لم يكن التغير بسبب النظم السياسية، ولا بسبب الأفكار “الأكثر إنسانية”. المسار كان عكسيا: بسبب تغير المجتمع تغيرت النظم السياسية، وتغيرت الأفكار. حين نقول تغير المجتمع أي تغير نشاطه الاقتصادي، تغيرت المهن التي يؤديها الناس، وتغيرت البيئة المناسبة لممارسة هذه المهن، فتغير نمط السكن. سكان الحضر زادوا تدريجيا عن سكان الريف. من يعيشون إلى جوار غرباء تزايدوا عددا على حساب من يعيشون في ظل أرحامهم، سواء في عائلة أو قبيلة أو عشيرة.
تغيُّرُ النشاطِ الاقتصادي بتوسع رقعة التجارة عبر الطرق البرية، وبصورة أكبر عبر توسع النقل البحري، وسَّعَ فرص الترقي. التجارة نقلت البضائع ونقلت الخبرات ووسعت مجال الخيارات المهنية. الآن تستطيع أن تترقى بحارا، وتاجرا، وطالب علم.
ثم، باتساع رقعة الترقي اتسعت رقعة حيازة المال، أي تحقق الشق الثاني من معادلة السوق – الطلب (زادت قدرة الفرد على الشراء). لم يعد يكتفي بالتعبير عن أنه “يحتاج” اقتصاديا، صار قادرا على أن “يطلب”.
تحتاج إلى بيت؟ معك الآن أموال. تطلب بيتا إذن. تطلب معماريين. يعمل مزيد من الناس معماريين. ويصير المعمار فرصة للترقي.
تحتاج إلى صحة؟ معك الآن أموال. تحولت الحاجة إلى طلب إذن. تطلب أطباء.
تحتاج أن توسع تجارتك؟ معك أموال. تحولت الحاجة إلى طلب. تطلب سفنا وبحارة وناقلي بضائع، أو تطلب حانوتا، أو مصنعا، على حسب نوع تجارتك.
سباكين، دهانين، نجارين، خياطين، قزازين.
ثم ظهر ما هو أكبر. الشركة. صار بالإمكان أن يلتئم بعض من صغار بناة الثروة – الرأسماليين – لكي يصنعوا كيانا ذا رأسمال أكبر.
كل ما بعد ذلك جاء نتيجة له: حركة فكرية واقتصادية ضخمة. تعددُ مراكز النفوذ. حاجةٌ إلى توزيع السلطة. تطورٌ سياسي. قصة طويلة كُتبت فيها مجلدات، ما يعنينا منها هنا ظهور ما يعرف بالطبقة الوسطى. الطبقة الوسطى هم هؤلاء التجار وأصحاب المهن المربحة الأخرى. لم يجمعوا ثرواتهم لأنهم من عائلات ثرية، بل جمعوها بتميزهم وجدهم واجتهادهم وحبهم للمغامرة. صعد منهم كثيرون، وفشل مقابلهم كثيرون. لكن بقي أن المجتمع مفتوح الأبواب لمحاولات متجددة. نجاحات متجددة. وانتكاسات متجددة.
طبقة من نبت المجتمع،
من بذره وتربته وزرعه،
أثمرها المجتمع بحركة طبيعية تحاكي ما يحدث مع نمو النبات في الطبيعة، ونمو الجسم في المملكة الحيوانية. حتى أن مجمل المنتج البشري لهذا المجتمع في اللغات الأوروبية الكبرى اسمه culture أو تنويعا من نفس الأصل. من cultivate أي يزرع.
يزرع.
يزرع.
التغيرات التي أشير إليها انحصرت عالميا في رقعات جغرافية متناثرة.
وهنا برزت المشكلة الثانية. مشكلة المسافات الزمنية. نحن في نفس السنة على نفس التقويم. في سنة ١٩٥٠ ميلادية مثلا. لكننا لسنا على نفس السنة بمعيار التطور. بعض البقع الجغرافية زرعت ونما زرعها وحصدت ثمرا، وبعضها الآخر لم يفعل. وإن أراد فعليه أن يبذر ويبدأ العمل.
طيب عادي. وإيه المشكلة؟
فعلا، عادي. ومن الطبيعي أن ينمو كل مجتمع بإيقاعه الخاص، فيخرج ثماره الخاصة، بعد أن تستوي على عودها. وهناك مجتمعات سعيدة وهي لا تزال تعيش حياة الجمع والالتقاط، لأنها ظلت معزولة عن العالم بغابات استوائية ولم تدر ما يحدث فيه، ولا يهمها.
لكن في حالتنا كان هناك تطور آخر جديد لم تعرفه البشرية من قبل، ثورة الاتصالات. حتى مع تقدم وسائل النقل في القرون من الـ ١٦ إلى ال١٩، ظل السفر البعيد محصورا في فئات محدودة للغاية من أي مجتمع. ركوب البحر من ساحل البحر المتوسط الجنوبي إلى الشمالي، وهي مسافة قصيرة نسبيا، باهظ الثمن. القطارات محدودة بالجغرافيا. لكي تطلع على ما في مجتمعات الآخرين ليس أمامك إلا كتب زائريها، وخيالك. أو أن تستعمرك دولة متقدمة فتطلع على ما عندها وتكتشف الفارق الشاسع بينه وبين ما عندك.
أما في القرن العشرين، مع الطائرات، ثم مع الراديو والسينما، صار الناس قادرين على رؤية المجتمعات الأخرى. صار حتى المزارع أو حارس البناية أو أو جامع القمامة لديه فكرة ما عن أحوال الناس في المجتمعات الأخرى. من صورة في جريدة، من فيلم في السينما، من مسلسل إذاعي.
اطلعت العيون على “جنان” الآخرين. فأعجبها زرعهم ونباتهم. وأرادت أن يكون لديها مثل ما لديهم. نفس الثمر. الآن. حالا. فورا.
هذا لن يحدث أبدا. هذا مخالف للقانون الطبيعي الذي يحكم الحياة الطبيعية ونراه في أنفسنا. أنا اليوم طفل، ومهما فعلت لن أكون غدا شابا، أحتاج إلى أن أمر بمراحل متصلة حتى أبلغ مبلغا معينا. بذرة شجرة زيتون تنمو وتثمر في ١٥ سنة لن تثمر غدا ولا بعد غد. قد تحفزها، لكنك لا تستطيع القفز على مراحلها.
و لو انفجرت خزائن الأرض والسماء ونزلت عليك الثروة من حيث لم تحتسب، فستتمكن من الحصول على ثمرة التقدم التكنولوجي: أحدث سيارات، أحدث غسالات، أحدث أجهزة كمبيوتر. لكن نبات البشر، البيولوجي، يحتاج إلى وقت. الثروة لن تعجل به. وفي بعض الأحيان تؤخره.
طيب والحل؟
“التقدميون”، مهندسو العالم، كان لديهم حل إلهي الطابع لا ينقصه سوى “ونفخنا فيه من روحنا”:
هيا نخلق طبقة وسطى في المعمل.
هيا نخلق طبقة من بلاستيك كالثمار.
هيا ننفخ فيها من قوانيننا.
هيا نقنعها أننا خلقناها في أحسن تقويم.
هيا نخلق جمهورية “كأنه”.
لا يقتصر الفارق بين الثمار الطبيعية والبلاستيكية على كون الأولى لها طعم والثانية عديمة الطعم والرائحة. هناك فروق عديدة أخرى:
١- الحياة: وهي تعني هزيمة الموت. كونك حيا يعني أنك واجهت الموت دون أن تدري. لكنك تغلبت عليه. هذا يعني أنك انتخبت طبيعيا لكي تبقى. أنك قاومت عوامل كثيرة للموت. انتصرت على أمراض، وعلى معوقات.
٢- الفناء. الثمر الطبيعي ثمر متجدد. يمكنك أن تحفظه بالتجميد أو التجفيف. لكنه في الأحوال الطبيعية له عمر افتراضي يعطب بعده. هذا يعني لزوم الطزاجة، وأن ما لا يستخدم منه يعطب.
٣- نفضل بعضها على بعض في الأكل. لا يدعي أحد في الحياة الطبيعية أن النبات متساو في الجودة. ربما لكل أهميته. لكن حتى النوع الواحد ينتج درجات مختلفة من الجاذبية وزكاء الطعم. ونحصل عليه بأثمان مختلفة.
٤- السوق هو المحدد الوحيد لقيمة الثمرة. القيمة الكامنة في الثمرة، غذائية كانت أو متعلقة بالطعم، لا يحدد قيمتها إلا مدى توافرها في السوق وحجم الطلب عليها. هذا يجعل البرتقال رخيصا في مصر وباهظ الثمن في دول أخرى. لأن الناس لا تدفع فيه قيمة محددة موازية للقيمة الغذائية لفيتامين سي ولا الألياف ولا القشر. بل حسب الطلب عليه، ومدى ندرته في السوق أو وفرته. وهكذا التفاح، والأناناس. والحمرا ومجنونة يا قوطة. وغير ذلك من الثمار. نفس الثمرة يختلف السعر المطلوب فيها حسب الموسم.
النبت الإنساني أيضا له قيمته السوقية حسب وفرته وندرته. لكن مؤلهي الإنسان يعتقدون أنه معفي من هذا القانون الطبيعية.
الطبقة الوسطى الطبيعية خضعت لما سبق. وصعدت من دوري الدرجة الرابعة إلى الثالثة إلى الممتازة. أما الطبقة البلاستيكية فلا.
مصر الثمانينيات لم تكن حزينة. كانت بلاستيكية. كانت موسم طرح الفاكهة البلاستيكية. هكذا أوجزت حجتي في النقاش، وأنا أدافع عن استخدام طبق البلاستيك رمزا لتراجع مصر مجتمعيا.
اتفقنا جميعا على أن عقد الثمانينيات كان عقد التحول إلى مصر الأخرى، ولهذا قررنا أن نسجل مفرداته. لكن يبدو أن هذا كان اتفاقا ظاهريا، الخلاف بيننا كان أكبر من الاتفاق.
من وجهة نظري عقد الثمانينيات هو “الثمرة الطبيعية” للبذرة البلاستيكية التي زرعتها رؤية ١٩٥٢ في مصر. الطبقة الواسعة التي سكنت الشقق في الخمسينيات والستينيات كانت أطباق فاكهة بلاستيكية مكانها شقق الحضر. أما النبت الطبيعي، في البيئة التي خلقها ناصر، فهو ما أثمر في الثمانينيات. مع العمر الطبيعي لتحول الأجيال – ٣٠ سنة تقريبا.
زملاء العمل لمحوا البعد الأيديولوجي في كلامي. لم يحبوا أن يمتد شريط مفردات السيناريو إلى عناصر أخرى تؤكد على نفس الفكرة. كان غرضنا أن نسجل مفردات حياة الثمانينيات، ونتركها للجمهور.
حين تناقشنا أدركنا أن الموضوع لم يكن فقط خلافا حول “صورة الولد اللي بيعيط” أم “طبق الفاكهة البلاستيكي”. بل كان خلافا بين رؤيتين لتاريخ مصر الحديثة. الولد الذي يبكي، في الثمانينيات، يرضي البكاة على أطلال الستينيات. على من يعتقدون أن مصر كانت بحال جيدة أيام ناصر ثم تحولت فجأة. بما يستلزم الشجن، والرثاء على الحال.
لكن المجتمعات لا تتحول فجأة. لا شيء في الحياة الطبيعية يتحول فجأة. حتى النيزك الذي يضرب الأرض لا يتحرك فجأة. يصطدم بنا ونحن في غفلة – نعم – لكنه يقطع المسافة إلينا بنفس التواصل “الجغرافي” الذي تقطعه دراجة طفل في الرابعة من عمره يتعلم القيادة.
مشكلة طبقة عبد الناصر أنه أراد لها أن تخالف المسار الجغرافي الاجتماعي. أن يجعل من شريحة كبيرة فائزين بجائزة اليانصيب، ولكن بالتقسيط. معدل انتقال من الريف إلى الحضر غير مسبوق، بشهادة زكريا محيي الدين نفسه، وكان وقتها الرجل الثالث في مجلس قيادة الثورة. وتكلفة منخفضة للغاية لهذا الانتقال.
ثمار الريف غادرت بيئتها. بكثافة لا تسمح بالتأقلم على البيئة الجديدة. ولا يتحملها سوق الحضر ولا يحتاجها. وفي هذه الحالة كان أمامها مساران: أن تذبل، أو تتحول إلى ثمار بلاستيكية لا تتأثر.
وثمارا بلاستيكية صارت.
ترتدي ملابس المتعلمين، لكنها ليست متعلمة.
تتوارث شققا، لم تدفع قيمتها ولا بذلت ما يكفي لتملكها.
تحصل على رواتب، لوظائف لا يحتاج إليها أحد.
تريد أن تكسب، دون أن تغامر بالخسارة.
كأنها، وهي ليست.
بلغني أن أحد أفراد الطاقم قال عني للزملاء إنني أساسا ابن أقاليم، ورغم ذلك أحاول أن أتمثل موقع الأغنياء فكريا. هذا الزميل، على العادة الجارية، يخلط بين كلمة رأسمالي وكلمة ثري. أو ربما يخلط بين الرأسمالية وبين الإقطاع، لا يدري أن الرأسمالية هي التي حجمت الإقطاع، ليس بتوزيع أملاكه على بقية الشعب قسرا كما فعلت الاشتراكية، بل بمنعه من احتكار مصادر الثروة، وبخلق مهن وأنشطة (مصادر ثروة)، وبالتالي إعادة توزيع “الحظوظ” بين المجتمع حسب مهارات أفراده.
وأنا ابن أقاليم فعلا. من محافظة سوهاج وعشت في أسيوط. وجدي الذي سمي أبي على اسمه مات في حفر قناة السويس، مما يعني أنه عامل تراحيل مصري قح. وجدي والد أبي المباشر كان عامل ميزان بسيطا، لكنه كافح حتى صار صاحب أعمال، ثريا، بنى ممتلكاته بنفسه. لكنه لم يرحل عن عالمنا إلا وقد علم أن أبناء المستأجرين من الطبقة البلاستيكية التي صنعها ناصر سيتوارثون الشقق التي بناها لأبنائه، حصيلة كده وشقائه ومغامرته وخساراته وقلقه وقرارته وحيرته ومكاسبه، التي لم يشاركوه في أي منها، إلا الأخيرة.
فكوني من أبناء الأقاليم، ولست من أبناء إقطاع، وكون جدي المولود في عام ١٩١٩ رجلا عصاميا، لم تحمه عصاميته حين استولت دولة عبد الناصر على ممتلكاته البسيطة جدا بمنحها لأكثر من عشرين أسرة لم تغامر كما غامر، ولم تتحد العوامل الطبيعية كما تحدى. كون هذا تاريخي الشخصي يجعلني أفهم ما وراء الشعارات. يجعلني أفخر بكفاح عائلتي وأستلهمه.
الطبقة البلاستيكية حتى وإن كان نصيبها الأخير ضئيلا إلا أنه أكثر مما تستحق. الشقة التي يورثونها لأبنائهم بخمسة جنيهات شهريا أكثر مما تستحق. أعيش في لندن منذ عشرين عاما، ولا أزال حتى يومي هذا أسدد ثمن شقة متواضعة اشتريتها منذ ١٢ عاما، ولم أسدد إلا ثلث قيمتها. قبل أن أشتري تلك الشقة كنت أدفع نصف راتبي إيجارا لشقة مساحتها ستون مترا. من الذي حدد قيمة الشقة؟ العرض والطلب. لم تتدخل الحكومة لتتصرف في ملك المالك لصالحي.
الراتب الضئيل لو كان على وظيفة لا تؤدَى، أو مختلقة، أكثر مما تستحق. والاختلاق – كالفاكهة البلاستيكية – لا سقف له. الراتب الضئيل للعدد الكثيف يحتاج إلى ثروة يدفعها بقية المجتمع..
تعليم من لا يحب التعليم، على حساب الآخرين، أكثر مما تستحق.
وأهم من ذلك كله الأمان. السلعة الثمينة التي باعها لهم إله الفاكهة البلاستيكية بثمن بخس، مقابل الولاء.
الأمان المطلق ليس من سمات الحياة الطبيعية. يحتاج أي تجمع طبيعي إلى قدر من التحديات لكي يحسن مهاراته. الأمان الوظيفي المطلق يقتل الرغبة في التنافس، ويقتل معادلة الإحسان والإساءة، والثواب والعقاب. في الحياة الطبيعية التفاح الفاسد يفسد السلة.
لكن في الحياة البلاستيكية يتكوم الجميع. الجميع بلا فائدة. الجميع مجرد منظر.
الفيلم لم يكتمل بالطريقة التي أردت. الطاقم اقتنع بوجهة النظر الأخرى، أن هذا فيلم، ولا نريد تحميله برسائل معقدة. قالوا لي حتى لو اخترنا صورة طبق الفاكهة البلاستيكي فكل هذه الأفكار المرتبطة بها في عقلك وحدك، لن تصل إلى الناس. الفيلم القصير ليس لوحة في متحف الفن الحديث ولا تيت مودرن، يتوقف أمامها محبو الفنون ليكتشفوا أبعادها الثقافية.
إلا، والكلام لهم، إلا لو كنت تريد أيضا أن تحول لنا الفيلم القصير إلى محاضرة ومتحدثين مملين.
الفيلم القصير، بعد تنحيتي عنه، أذيع وحقق نجاحا كبيرا، وشعبية لم أتوقعها. كنت لا أزال في فترة بلا عمل. بلا عمل مربح. تمنيت لو كان لأصحاب الأفكار مساجد أو كنائس، إذن لاشتغلت واعظا فكريا. هههههه. أيها الناس، إن الحياة قصيرة، والمتع ليست دائمة، فخذوا منها ما يرضيكم ويسعدكم.
حتى مقابلاتي الشخصية للحصول على عمل كانت تتحول إلى جدل حول أفكار، لا خطط عمل. أُرفض، فأعزي نفسي بأنني على ما يبدو “أملك مؤهلات أكثر مما تتطلب الوظيفة”.
في المساء، بعد مباراة ألمانيا والبرازيل ٧-١ أرسلت رسالة إلى فتاة أحاول التعرف عليها. سألتها “سينما؟”
بعد ثلاثة أيام ردت علي، “لقد شاهدت كل ما في السينما حاليا”.
احترت في تفسير الرسالة، هل تقترح شيئا آخر؟ أم أنها قضت الأيام الثلاثة السابقة تلف على السينمات حتى لا تترك فيلما أقترح عليها الذهاب إليه إلا وتكون الإجابة لقد شاهدته.
قلت إن الاحتمالين قائمان. ومن باب التأكيد سأقترح خروجة أخرى. اقترحت عليها مطعما جيدا للسمك.
بعد أسبوع ردت. لا تحب السمك.
اقترحت عليها أن نذهب إلى سيتي ستارز ونختار المطعم الذي نريد. ولم ترد حتى الآن.
جلست أشاهد الفيلم التسجيلي مرة أخرى، رأيت فيه مقاطع من أفلام الباطنية والعار والكيت كات والكيف. تذكرت أن أبي وأمي وضيوفنا في الثمانينيات لم يكونوا راضين عن الوضع. لو كانت السينما مقياسا لمجتمع فإن الثمانينيات كانت فترة رائعة سينمائيا.
كل جيل يقول لأبنائه إن حياتنا كانت أجمل من حياتكم يدين نفسه. لا يدري أنه في الحقيقة يقول لهم “لقد سلَّمنا السابقون حياة جميلة .. وضيعناها”.
الحياة الجميلة بسيطة للغاية. حرية، غرائز أساسية مؤمًَّنة، وطموح متحقق. الجحيم آخرون يمنعونك من هذا. وقد تكون أنت الآخرين “في رواية أحدهم”.
آه. سنعود إلى التنظير مرة أخرى. أقول قولي هذا ومع السلامة.