باحث في جماعات الإسلام السياسي والتراث الإسلامي
ترصد كتب التاريخ ما يعرف بـ “محنة الإمام مالك”، وتقول إن سببها كان رأيه بعدم جواز طلاق المكره.
في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، يقول أبو نعيم الأصفهاني:
وقال الفضل بن زياد القطان:
وينقل الذهبي في تاريخ الإسلام عن الإمام مالك قوله:
الحلقة المفقودة أكملتها قصة وردت في تاريخ الواقدي. تربط محنة الإمام مالك بالصراع العلوي العباسي وثورة محمد النفس الزكية العلوي ضد أبناء عمومته العباسيين.
تبدأ القصة بنجاح الثورة العلوية العباسية ضد الدولة الأموية، ثم وثوب العباسيين وحدهم على السلطة، فيعلن النفس الزكية نفسه خليفة للمسلمين، ويدعي أنه المهدي المنتظر.
يرسل النفس الزكية إلى الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور يطالبه بالبيعة، ثم يبعث لولاة الأمصار، فيرد كثيرون بأن في رقبتهم بيعة لأبي جعفر، فيرد النفس الزكية: إنما بايعتم مكرهين. وليس على مكره يمين.
بالتزامن، يطلق الإمام مالك فتواه بعدم وقوع طلاق المكره عملًا بالحديث موقوف على ابن عباس علقه البخاري في كتاب الطلاق: “ليس لمكره ولا لمضطهد طلاق”.
يذهب الواقدي – الذي عاصر الإمام مالك وكان مقربًا من العباسيين ما يتيح له الاطلاع على خلفيات الأحداث – إلى أن بعض الوشاة ربطوا فتوى طلاق المكره بقول النفس الزكية بعدم وقوع بيعة المكره. يقول:
“لما ولي جعفر بن سليمان المدينة سعوا به إليه، وكثروا عليه عنده، وقالوا: لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء، وهو يأخذ بحديث رواه عن ثابت بن الأحنف في طلاق المكره: أنه لا يجوز عنده. فغضب جعفر، فدعا بمالك، فاحتج عليه بما رُفع إليه عنه، فأمر بتجريده، وضربه بالسياط”
وبسبب هذه الرواية، وارتباط قصة طلاق المكره بأبعاد سياسية، يقول مذهب الإمام أبو حنيفة وأغلب فقهاء العراق بوقوع طلاق المكره وعدم الاعتداد بدعوى الاكراه، بينما استمر أهل المدينة على مذهب الإمام مالك بعدم وقوعه.
يظهر من قصة الواقدي أن العباسيين استوعبوا الإسقاطات السياسية لمسألة البيعة والاستعاضة عنها بالطلاق؛ كونهم بالأساس كانوا حركة سرية وصلت للسلطة بالدعاية والتحرك تحت الأرض، استخدمت فكرة الرموز والإسقاطات بالفعل.
هذا أهل العباسيين للربط بين طلاق المكره وبيعته باعتبار أنهما يصنفان في خانة “اليمين”؛ ما يعني أن عدم وقوع طلاق المكره يعني عدم وقوع يمينه، وبالتالي إحلال المكره من بيعته بالقياس؛ فكلاهما يمين لفظي.
الأمر انعكس بالتبعية على مسائل الطلاق في الفقه السني عمومًا والحنفي خصوصًا؛ كونه المذهب الرسمي للعباسيين وأكبر الممالك الاسلامية اللاحقة مثل مغول الهند والدولة العثمانية.
العلاقة الأخرى الأكثر جدلًا تتعلق بمسألة التشدد في اللفظ. بمعنى أن أي لفظ يتلفظ به المرء هو بمثابة ميثاق.
والبعد السياسي هنا يتعلق بجدل الصراع بين السلطة والمعارضة في مسألة التقية والإكراه؛ أي التلفظ بنية مخالفة لما يضمره القلب.
سبب التشدد في إلزام اللفظ هو كذلك مسألة البيعة والولاء والقسم، حيث تنعقد لفظًا. وفتح الباب لعدم الاعتداد باللفظ بلا نية أو ادعاء الاكراه سيمنح ذريعة دينية للتنصل من البيعة.
لهذا، يتشدد الفقه السني كفقه مرتبط بالسلطة في مسائل ألفاظ الطلاق، والعكس بالعكس عند التيارات المعارضة كالشيعة والخوارج. فيما يلي نورد أمثلة لمسائل الطلاق ينطبق عليها نفس الإسقاط:
في آيات سورة الطلاق، يتناول القرآن بعض أحكام الطلاق. ومنها “وأشهدوا ذوي عدل منكم” بما يعني توثيق وإشهار الطلاق بحضور شاهدي عدل.
غير أن الفقه السني لا يلتزم بالشرط القرآني، فيقول بوقوع الطلاق بلفظة “انت طالق” بمشتقاتها. وهو ما ذهبت إليه هيئة كبار علماء الأزهر في فتواها الصادرة في 2017، وقالت إن المسلمين استقروا عليها منذ عهد النبي محمد دون اشتراط إشهاد أو توثيق.
على العكس، يذهب الشيعة إلى عدم وقوع الطلاق إلا بحضور شاهدي عدل. وهو الأقرب لنص القرآن.
يقول جمهور أهل السنة بوقوع الطلاق المعلق – التلفظ بالطلاق على شرط معين، كأن يقول الرجل لزوجته “أنتِ طالق إن فعلت كذا” – وعلى هذه المسألة تحديدًا تفريعات كثيرة في الفقه السني اختلف الفقهاء حول تفاصيلها.
أما الشيعة فلا يعتدون بالطلاق المعلق؛ لأن أساس الطلاق عندهم شاهدا عدل لا مجرد التلفظ.
يقول الأحناف بوقوع طلاق السكران. رغم تعدد الأدلة التي ساقتها المذاهب الأخرى. والربط هنا هو “الإكراه” نفسه مجددًا.
وبين الأدلة التي ساقها الشافعية والحنبلية مثلًا آية “لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون” التي فهموا منها أن قول السكران غير معتبر. وحديث ورد في صحيح مسلم أن رجلًا أتى النبي محمد يقر بالزنا فسأل: أشرب خمرًا، بما يدل على عدم قبول إقراره إن كان سكرانًا، وإلى قول ابن عباس: “طلاق السكران والمستكره ليس بجائز”.
لكن الأحناف حاولوا سد ذريعة السكر أو عدم الإدراك للتنصل من البيعة.
محنة الإمام مالك في مسألة طلاق المكره وقياسه على البيعة لم تقتصر على تلك المسألة بعينها، وإنما امتد تأثيرها لعموم مسائل الطلاق. حيث ألزم أهل السنة المطلق بما وقع منه شفاهة أو سكرًا أو تعليقًا أو هزلًا أو حتى ثلاثًا؛ لتعظيم قيمة اليمين، وسد الذرائع أمام نقضه. أما المذاهب المعارضة فلم تعتد بتلك الأمور، والتزمت بالنص القرآني “شاهدي عدل”.
الحكاية في دقائق: أين يقف الطيب في المسافة بين السيسي والجماعات الدينية
س/ج في دقائق: المرأة والدين والدولة في تونس .. ما سبب الجدل؟