مافي فاتان عقيدة راسخة في العسكرية التركية. في عام 2006، الأدميرال جيم جوردينيز قال في ندوة للبحرية التركية إن الدفاع عن حدود الوطن الأزرق لا يقل أهمية عن تأمين تركيا نفسها.
مافي فاتان بالمعنى الذي تحدث عنه جوردينيز هو عقيدة تزعم أن البحر المتوسط وبحر إيجه والبحر الأسود ما هو إلا نطاق للنفوذ التركي وإرثًا للإمبراطورية العثمانية. لكن قسمًا آخر أضيف إلى طموح الوطن الأزرق. يشمل البحر الأحمر وبحر قزوين والخليج العربي وبحر العرب، وفق المعهد الدولي لدراسات الأمن والهجرة.
وتسعى العقيدة التركية تعويض خيبات الأمل التي أصابت الإمبراطورية العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى، واضطرارها لتوقيع معاهدة لوزان في 1923، والتي تنازلت بموجبها عن مستعمراتها الخارجية في مصر والسودان وقبرص وسوريا والعراق وجزر دوديكانيسيا، والتنازل عن امتيازاتها في ليبيا.
المعاهدة وضعت تركيا تحت الرعاية الغربية خلال المائة عام التي تلي توقيعها، مقابل حمايتها من الخطر الشيوعي. لكن تركيا الآن وقد زال الخطر الشيوعي، ترى فرصة إعادة توطيد أقدامها في مناطق نفوذها القديمة مجددًا. لتظهر عقيدة الوطن الأزرق كمحاولة لإلغاء آثار اتفاقية لوزان، وتحويل تركيا إلى قوة إقليمية ودولية تستطيع إجبار القوى الأخرى كروسيا وأوروبا وأمريكا ليس فقط على وضع مصالح أنقرة في الاعتبار، بل اعتبارها شريكا رئيسيا.
وتقول ريل كلير وورلد إن مفهوم الوطن الأزرق يحظى بشعبية بين العثمانيين الجدد في حزب العدالة والتنمية، كونه يعود إلى ذروة القوة الجيوسياسية للإمبراطورية.
حلم مافي فاتان يعتمد في معظمه على القوة البحرية. ومع بدء مشروع “ميلجيم” طورت تركيا وبنت
أربع طرادات مضادة للغواصات،
وأربع فرقيطات،
وأربع فرقاطات متعددة المهام،
إضافة إلى أربعة طرادات حديثة وردتها لباكستان خلال السنوات الأخيرة،
وبنت حوالي 33 سفينة بحرية صممت لإنزال قوات المشاة والمدرعات على السواحل البرية.
وتبني تركيا أحواض بناء سفن محلية بمساعدة ألمانية، أنتجت من خلالها ست غواصات ألمانية من طراز U-2014 ستنضم إلى أسطول مكون من 10 غواصات أخرى في الفترة ما بين 2021 و2027.
كما تطور حاليًا حاملة طائرات من المفترض أن تدخل الخدمة العام المقبل في البحر المتوسط.
وخلال السنوات المقبلة، من المتوقع أن تشغل البحرية التركيةحوالي 16 طائرة استطلاع، و40 طائرة هليكوبتر، و16 غواصة، و21 فرقاطة، و18 طرادًا، و35 زورق صواريخ، و32 كاسحة ألغام، وسفينة لوجيستية، وعشرات السفن العامة.
ويخدم في البحرية التركية حاليًا حوالي 260 ألف جندي، بما فيهم وحدات الكوماندوز والقوات البحرية، التي يتدرب عناصرها في الولايات المتحدة بانتظام.
في 2019، نفذت تركيا مناورة بحرية هي الأكبر على الإطلاق سميت بـ”Mavi Vatan 2019″، شرق البحر المتوسط وبحر إيجه والبحر الأسود. ووفقًا لمجلة البحرية التركية، ركز التدريب العسكري على تحويل العقيدة التركية إلى مذهب لدى أفرادها، وإرسال رسالة إلى تحالف دول شرق المتوسط الذي يخطط لإقصاء تركيا من تقسيم الغاز.
ما يحدث يفسر رفض تركيا اتفاقية خط أنابيب شرق المتوسط “ميد إيست” التي وقعتها قبرص واليونان وإسرائيل، وتهدف لجعل الدول الثلاث حلقة وصل مهمة في سلسلة إمدادات أوروبا بالطاقة؛ لأنه يعيق محاولتها بسط سيطرتها على موارد الطاقة شرق المتوسط والتي ترى أنها تخضع لنفوذها وفقًا لرؤية “الوطن الأزرق”.
وسعت في سبيل إفشال ذلك إلى بناء مناطق تحجز بين المناطق الاقتصادية الخالصة لقبرص واليونان من جهة، ومصر وقبرص واليونان مجتمعين من جهة أخرى، متجاهلة التهديدات بزيادة العقوبات، والمزيد من العزلة الدبلوماسية. كما رفضت كذلك التوقيع على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار.
وضمنها اتجه أردوغان إلى ليبيا. وقع اتفاقًا مع حكومة فايز السراج، بموجبه يتم تعيين الحدود البحرية في البحر المتوسط، بما يسمح لتركيا عمليًا بالسيطرة على مياه ليبيا، وإنشاء ممر بحري شرق المتوسط.
وفي سوريا، طور الأتراك قدراتهم على خوض الحروب بالوكالة والتدخل بشكل مباشر، مثل تقديم الدعم للجيش السوري الحر؛ باعتبار سوريا مدخلًا للسيطرة على الساحل الشرقي للمتوسط، ويفسر أيضًا دعمها لحماس في فلسطين.
وفي البحر الأسود. بدأت تركيا إرساء وجودها بالمنطقة عبر إرساء أسس ومعاهدات تجارية، ونشر أسطول بحري وفقًا لاتفاقية أمنية موقعة في 2001، لكن الأمور أعقد من قدرة تركيا. وهي مشكلة سنتطرق إليها لاحقًا. حيث تتضارب مصالحها مع مصالح روسيا وحلف الناتو.
في البحر الأحمر يعتمد أردوغان في مروره هناك على استغلال الأزمات، وتقديم مبادرات إنسانية ومساعدات ثم إنشاء قواعد عسكرية.
في الصومال مثلًا، بدأ تدخله باستغلال المجاعة التي فتكت بالبلاد في 2011، وكان أول رئيس تركي يزور الصومال، أعقبها تنفيذ مشروعات إنسانية وتنموية، انتهت بافتتاح أكبر قاعدة عسكرية تركية في الخارج بالصومال، وبحسب الأهداف المعلنة فإن مهمتها تدريب الجيش الصومالي. لكن من أهدافها الأهم تعزيز النفوذ التركي في منطقة القرن الأفريقي.
ما يؤكد تلك الرؤية، زيارته الأخرى إلى السودان في 2017 ولقائه بالرئيس حينها عمر البشير، وبعدها استئجار جزيرة سواكن والتخطيط لإنشاء قاعد عسكرية تفتح منفذا تركيًا على سواحل البحر الأحمر، والسيطرة على ممرات التجارة الدولية من الهند إلى أوروبا. سواكن أيضًا كانت إحدى الجزر التي استولت عليها الإمبراطورية العثمانية.
وأعادت تركيا إحياء علاقتها بباكستان والتي بنت لها 4 طرادات بحرية حديثة ودربت 1,500 ضابط باكستاني؛ ضمن خطة لإبقاء انتشار تركي دائم في بحر العرب والخليج الهندي، فضلًا عن قواتها التي دخلت قطر إبان الأزمة بين الدوحة ودول التحالف الرباعي، وتوجد تلك القوات في قاعدة طارق بن زياد بموجب اتفاقية أمنية بين قطر وتركيا.
نيويورك تايمز تقول إن هدف تركيا الأول من دعم قطر هو خوفها من خضوع قطر للضغوط العربية وبالتالي إعادة تقييم علاقتها مع تركيا، ما يعيق خططها بشأن منطقة الخليج بحسب تفسير آخر لصحيفة “جيروزاليم بوست”.
تحاول تركيا الاستقواء بالناتو – رغم اعتقادها أن انتشار الحلف هناك يقلل دورها وفق معهد الشرق الأوسط – لكنها طالبت الحلفاء الغربيين خلال مؤتمر أمني بالبلقان في 2016، باتخاذ مزيد من الجهود لمنع موسكو من تحويل البحر الأسود إلى بحيرة روسية، ودعمت المطالب الأرمينية بنشر أسطول دائم للناتو هناك، كما دعمت الدول الموالية للغرب مثل أوكرانيا وجورجيا.
لكن حلف الناتو بدوره يرى تركيا حليفًا مزعجًا وغير موثوق فيه، خاصة بعد توسيع دورها العسكري في ليبيا، والاستحواذ على حقوق دول أخرى أعضاء في الناتو، مثل اليونان،
لكن وفقًا لـ”دويتشه فيله” فإن هناك انقساما أوروبيا بشأن ما تفعله تركيا، و أمريكا مترددة إلى حد بعيد.
إضافة إلى أزمة الصواريخ S-400 الروسية، والتي حصلت عليها تركيا بموجب صفقة مع روسيا. الناتو متخوف من أن استخدام دولة بالحلف للمنظومة يوفر لروسيا معلومات مهمة عن قدرات الناتو ويشجع دولا شرق أوسطية أخرى على شراء الصواريخ والاعتماد على التدريب العسكري الروسي، خاصة وأن منظومة الصواريخ الروسية مصنفة كأخطر سلاح ضد الناتو.
إسرائيل أيضًا بدت قلقة أكثر من تركيا بعد توقيع الاتفاق الليبي.
الصحف الإسرائيلية بدأت تتحدث عن أن ما تقوم به تركيا لا يقف عند مجرد تنقيب عن غاز أو نفط، بل هي محاولة لـ”خلط الأوراق واللعب باستخدام بطاقة صراع الغاز في شرق البحر المتوسط، والتي تعد جزءًا من خطة توسيع أكبر وتراكم للقوة البحرية التركية، مما يشكل تحديا لإسرائيل“
تقول “هآرتس” بغض النظر عما إذا استطاعت أنقرة الحصول على النفط والغاز من المنطقة الاقتصادية التي أعطاها لها الاتفاق الليبي، إلا أنها حققت بالفعل هدفها الدبلوماسي الأكبر الموجود ضمن خطتها “الوطن الأزرق”.
تركيا أصبحت الآن لاعبا رئيسيا في البحر المتوسط، والسؤال الذي يواجه أردوغان الآن “كيفية تحويل هذا الإنجاز الدبلوماسي إلى رأس مال سياسي”.