يظن الكثير من القراء – وحتى بعض المثقفين العلميين – أن مجال نظرية التطور يقتصر على نشأة الأحياء وتفاعلها وتنوعها فحسب، لكن بنيتها المعرفية تنطوي على العديد من الأدوات التي يدرك المطالع الحصيف أنها قابلة للتعميم على مجالات أخرى، كتاريخ الفكر وعلم النفس، فضلا عن السياسة والاقتصاد.
أذكر فيما يلي بعض الأدوات التي استفدت منها شخصيًا خلال رحلتي الفكرية، وأعانتني على ربط أفكار متباعدة بطرق غير متوقعة، والتوصل لنتائج مستبعدة تستند مع ذلك لمنهج وثيق.
يفاجأ المختص في التطور (أو أي من تفرعاته) حين ينظر إلىالعلوم الإنسانية بشدة تشتتها وتضاربها، فهي تخلو من الاتفاق أو الإذعان لحقائق رئيسة أو مبادئ مؤسسة تنطلق منها المباحث كلٌ في اتجاه، كما تعاني من غياب الانسجام في النتائج والانعزال في المناهج، لدرجة يعلق معها التطوري الرائد إدوارد أو. ويلسون:
“إن البرج العاجي يصلح أكثر أن يسمى بالأرخبيل العاجي. فهو يتكون من مئات الموضوعات المنعزلة، ينقسم كل منها إلى موضوعات أصغر في تتابع ربما لا يتناهى. لا يُدرس الناس فيه بالمجهر، بل بما يشبه مرآة بعدة أوجه – علم النفس، علم الإنسان، علم الاقتصاد، العلوم السياسية، علم الاجتماع، التاريخ، الفنون، الآداب، الفلسفة، أبحاث الجندر، أبحاث القومية. ولكل منظور منها تاريخه وافتراضاته الخاصة. وما يعد زندقة عند شخص هو الشائع عند آخر”.
اقرأ أيضا: ما نفهمه خطأ عن نظرية التطور (1)
قارن ذلك بحالة التعاضد في البحث العلمي، ولنأخذ متحجرات الديناصورات مثالًا. فلتكوين صورة كاملة عن أي متحجرة يعثر عليها، نحتاج إلى الجيولوجي ليحدد الحقبة التي تنتمي إليها، المؤرخ الطبيعي ليصنّفها من بين كائنات تلك الحقبة، التشريحي ليعرّف موقعها الفعلي من جسم الكائن قبل التحجر ويقدّر عمره أيضا، والفسيولوجي ليصف لنا وظيفتها والعبء الذي تحملته.
ولو كان هناك أدنى تضارب بين النتائج التي يتوصل إليها هؤلاء العلماء، لما استطاع العالم الغربي إنتاج فيلم مثل Jurassic Park، فضلًا عن التوصل إلى الأنساب الجينية التي أثبتت تحدر الطيور المعاصرة من ديناصورات الأمس البعيد.
ولهذا صرنا نسمع أصواتًا متصاعدة من أطراف العالم الأكاديمي تنادي بضرورة التفاهم بين العلوم الإنسانية ونظرية التطور، متحاشية التصريح بضرورة إقامة علوم جديدة عليها (في البداية على الأقل)، مكتفية بما قاله روبن دنبار:
إن التوجه التطوري ليس بديلًا لمجالات العلوم الاجتماعية المتنوعة، بل مكمل لها، والأهم أنه مكمل يوفر لها فرصة دمج العلوم الاجتماعية المتباعدة في إطار فكري واحد.
وما التطور الثقافي وعلم النفس التطوري إلا نماذج موفقة لهذه الأطروحة.
اقرأ أيضا: ديناصورات سبيلبرج بدون طفرات في “جوراسيك وورلد: فولين كينجدم”
يمكنك استمداد بصائر جديدة من النظر إلى نشوء الفرق الإسلامية المبكرة، الانشقاقات الإيديولوجية في تاريخ الاشتراكية، أو حتى الضروب المختلفة لموسيقى الروك وما نتج عنها، عبر نافذة تطورية.
ولن يضر اختلاف المجالات التي أخذنا منها الأمثلة بتطبيق أدوات التطور، لأنها غير مقيدة بتوجّه كما أوضحنا أعلاه.
سيريك ذلك كيف أنها تخضع لنفس قوانين نشوء الأنواع وانفصالها، بما فيها التفرع السريع الذي يستغل موئلًا جديدًا خاليًا، الوقوع تحت طائلة نمط ما من الانتقاء، وميل بعضها للغلبة على بعض أو دحره حتى.
وهكذا يستطيع العقل النابه أن يخرج من دراستها في هذا الضوء ببصائر وإشارات إلى معالم الرسالة الناجحة، أو التيار الرائد، أو الرأي المسيطر – وهو ما اصطلح الباحثون على تسميته بـ”علم الميمات“.
يمتاز التفسير التطوري للحياة والعالم بتعامله الاختزالي والتدريجي مع مستويات مختلفة في التعقيد، ومذهلة في تباين وبراعة وظائفها، لدرجة تبعث في الكثير من غير المطلعين شعورًا بضرورة تدخل “يد سماوية” في مسيرته الطويلة.
كما أن الأنماط الأبرز التي تسود ساحة البيولوجيا (كالنمط الشجري في الأعصاب، التشابك في نسيج العظام، والخطة البدنية في الزواحف والثدييات) تلهم الكثير من التطبيقات التقنية والتصاميم المستقبلية، كشبكات الاتصال الذكية ومسارات الطرق المناسبة، البنى والهياكل التي تجمع بين خفة الوزن والتماسك، والروبوتات ذات الوظائف الحركية المتطورة.
كما أن نفس هذه الآليات يسهل توظيفها على الصعيد الاجتماعي والثقافي، كالبحث في شبكات الصداقة وكيف تتقوى أو تضعف، ونشأة البنية الاعتقادية في العقل وكيف تترسخ بعض الأفكار أو تنبذ، وصياغة أساليب تدريس أو كتابة أقرب إلى النفس البشرية وأنسب لدوافعها.
اقرأ أيضا: نظرية داروين .. يوم أن أدرك الإنسان علة وجوده
يقصد بالظاهرة المنبثقة تلك التي تكون أكبر من مجموع أجزائها، وتستمد تلك الأهمية المضافة من العلاقات الناشئة بين تلك الأجزاء أو نمط التركيب ذاته.
وأبرز مستويات التكامل التي ينبثق بعضها عن بعض، أو “الطبقات” كما يسميها الفيلسوف الألماني نيكولاي هارتمان، هي (المادة – الحياة – العقل – المجتمع).
فكل مستوى من هذه المستويات يبدو لأول وهلة وكأنه يملك جوهرًا متميزًا وماهية متفردة عما دونه، فضلًا عما فوقه، لدرجة تبعث على التساؤل إن كانت هذه الظاهرة العليا تنطوي على ما هو أكثر من تناسق الأجزاء أو ترابط المكونات.
ويصل الأمر حد المفارقة حين نتعامل مع مشكلات بجدية الوعي البشري ومحاولة تفسيره، يصدق معها قول الفيزيائي البريطاني إمرسون باغ: “لو كان الدماغ بسيطًا لدرجة يسهل معها فهمه، لكنا نحن بسطاء لدرجة تعجزنا عن ذلك”.
ومن ميزات الظواهر البازغة أننا لا نعود نتعامل معها من حيث مكوناتها الأدنى: فلا أحد يفكر في التعامل مع الدنا بالنظر لقواعده المفردة، ولا مع الحياة الواعية بالنظر لأعضاء أو مناطق دماغية منفصلة، ولا حتى مع المجتمع بالنظر لأفراده كلًا على حده.
ومن هنا يمكن الاستفادة من هذا المبدأ لتطوير نظرية الأنظمة: فالعلوم تستقل عن بعضها حين تصل إلى قدر من التماسك والتمايز الذي يصح عنده القول بأن منهجها وموضوعها منفصل عن الأصل، والمجتمعات تُدرس من حيث التفاعل بين قطاعات وطبقات تتسم بخصائص واضحة، كما أن الفلكيين لا ينظرون إلى النجوم والمجرات كمركبات كيماوية فائقة التعقيد، بل ككيانات قابلة للتصنيف بحسب حجمها ومظهرها وطيفها الضوئي.