الجدل المطول والنقاشات المستفيضة، والصاخبة أحياناً، التي رافقت إعلان وزير التعليم الدكتور طارق شوقي عن مشروع تطوير التعليم واللغة العربية، أعادت إلى السطح نقاطاً أخرى هي المحرك الحقيقي لحدة الخلافات وتباين وجهات النظر، وهي في الأساس مشكلة هوية مصر وليست مشكلة التعليم فيها فقط. وإن كانت المشكلتان مرتبطتين بالتأكيد.
أثير وقتها أن الغرض من التحديث هو تعريب العلوم
مواد الهوية عموماً هي ثلاث مواد : مادة اللغة الأساسية، ومادة التاريخ ، ومادة التربية القومية، وبالطبع فإن نظام التعليم المصري يضيف مادة رابعة وهي الدين، وكأنه لا يمكن أن تكون مصرياً مالم تكن مسلماً أو مسيحياً، وكأنه من الطبيعي في نظام تعليمي في دولة حديثة أن يكون تعلم الدين إلزامياً.
ولكن في الواقع وبعيداً عن مادة الدين، فإن المواد الثلاث الأخرى لا تقل التباساً في مصر عن مادة الدين.
فمادة اللغة الأساسية يفترض فيها أن تقوم بتعليم الطفل لغته الأم التي يتكلم بها في المنزل، وكثير من الدراسات تشير إلى أن تعلم الطفل بلغته الأم في السن الأصغر مفيد لتحقيق درجة أعلى من الفهم والاستيعاب.
اليونسكو: إتقان اللغة الأم يساعد، على اكتساب المهارات الأساسيّة في القراءة والكتابة والحساب
ولكن، في الواقع، لا يمكن اعتبار اللغة العربية هي اللغة الأم للطفل المصري، فالطفل المصري يتكلم لغة غير مكتوبة هي اللغة المصرية، ورغم تأثرها باللغة العربية بشكل مباشر أكثر من تأثرها باللغات الأخرى (المصرية القديمة أو النوبية أو اليونانية أوالتركية أو غيرها)، إلا أنها تظل في النهاية لغة منفصلة.
لا توجد روابط واضحة بين تعبير (ماتروحش) و (لا تذهب) ، (ازيك) و (كيف حالك)، ومعظم التعبيرات الأكثر شيوعا في أي لغة مختلفة بين المصرية والعربية، ناهيك عن أن حتى أسماء كثير من الحيوانات مختلفة سواء كان الاختلاف تاماً أو في طريقة النطق: قطة تكتب بالمصرية (أُطة)، الدعسوقة أو الخنفساء هي (خُنفسة)، وفرس النهر هو (سيد قشطة) الخ، وببساطة فإن أي طفل مصري يشاهد الرسوم المتحركة بالعربية لا يفهمها إلا بعد شرح كثير من الكلمات، وربما يكون هذا أحد أسباب تمصير الكثير من حلقات الرسوم المتحركة بدلاً من تعريبها حتى تكاد تكون مصر الوحيدة في المنطقة التي تضع دوبلاج مصري لأفلام الكرتون.
من جهة أخري فإن اللغة العربية وإن كانت ليست لغة المصريين المتكلمة، لكنها كذلك لغة الجزء الأكبر من إبداعهم المكتوب في العصر الحديث وفي القرون الأخيرة، ربما لا يشمل ذلك معظم الأغاني والأفلام والمسلسلات وكتابات شعراء المصرية العظام كصلاح جاهين وعبدالرحمن الأبنودي وفؤاد حداد أو الأعمال الشعبية كالسيرة الهلالية، ولكنه من جهة أخري يشمل كتابات نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس وطه حسين ويوسف السباعي وكل الروايات والقصص الأدبية والكتب والسير الذاتية والترجمات التي نشرها الأعلام المصريون في المجالات الأدبية على مدى عقود.
وبالتالي فإن الحديث عن اللغة العربية من منظور (قومي مصري) باعتبارها لغة (الغزاة العرب) لا يبدو صحيحاً بنظرة متعمقة، فرغم أن غزو العرب لمصر تم قبل مئات السنين فإن العربية لم تكن لغة مستخدمة من قبل طائفة أو فئة معينة ولكنها تحولت عبر القرون إلى لغة يستخدمها المصريون للتعبير عن أنفسهم كتابةً على الأقل، ويعنى الانفصال عنها انفصالاً عن لغة مصرية بالضبط كما هي حالة اللغات المصرية الأخرى التي انفصلنا عنها سواء المصرية القديمة بنسخها المختلفة أو القبطية.
وعلى ذلك فإنه لا يوجد رابط بين الإقرار بكوننا نتكلم المصرية لا العربية، وبين الإقرار بأن العربية هي أيضاً اللغة المصرية الثانية الآن بحق، ولا يوجد رابط بين الإقرار بأن دخول العرب إلى مصر هو غزو سياسي وبين الإقرار بأن المصريين اكتسبوا اللغة العربية وغيروا فيها الكثير لتلائمهم، ولا يوجد رابط بين الإقرار بأن استخدام منطق (العربية لغة القرآن) لفرض منطق تدريسها بالقوة هو منطق باطل لوجود عشرات الشعوب المسلمة لا تتكلم العربية أساسا، والإقرار بأن اللغة العربية مهمة في قراءة إبداع المصريين أساساً ناهيك عن إبداعات بقية من يكتبون بالعربية من شعوب المنطقة، ولا يوجد رابط بين إقرار ضرورة الاهتمام بدراسة المصرية الحديثة، والمصرية القديمة والقبطية والنوبية والسيوية كلغات قومية مصرية سواء بشكل عام أو في نطاق جغرافي ضيق والاهتمام بطرق كتابتها وحروفها الهيروغليفية والهيراطيقية والديموطيقية والحروف القبطية أو وضع قواعد كتابة لغير المكتوب منها وبين الإقرار أيضاً أن العربية هي أيضاً لغة قومية للمصريين، كما أنه لا يوجد رابط بين الإقرار بأن اللغة الإنجليزية هي لغة العلوم والتواصل الحديثة بلا منازع وأن الفرنسية هي لغة مهمة للتواصل مع الدول الفرانكفونية وبالذات في افريقيا، والإقرار بأن كلتا اللغتين ليستا لغة أساسية يتكلمها المصريون.
ما يمكن أن نناقشه فعلا هو هل من المفيد أن نضع قواعد كتابة اللغة المصرية الحديثة ونعلمها للأطفال في السن الأصغر لتسهيل استيعابهم مع تعلمهم العربية في وقت لاحق(بدءا من الصف الأول الابتدائي)، و متى يكون من المفيد للطفل البدء في تعلم اللغات الإنجليزية أو الفرنسية وكيف يتعلم بحيث يتقنها في الوقت المناسب الذي لا يجب أن يتجاوز نهاية المرحلة الإعدادية بأي حال.
إذن فإن غالبية النقاشات التي تسخر من استخدام اللغة العربية، هي في الواقع نقاشات منفصلة عن الواقع، فلا يزال من الطبيعي ومن المطلوب لأي مسؤول رسمي في مصر أن يجيد اللغة العربية، وكلنا نذكر كيف كانت درجة الإجادة المنخفضة للغة العربية التي أظهرها الرئيس السيسي في بداية عهده مثار انتقادات كبيرة، رغم أنه طورها وحسنها لاحقاً بشكل واضح وهو ما ظهر بوضوح في كلمته بمناسبة ذكرى تحرير سيناء في 2018.
اقرأ أيضا: تجديد اللغة العربية: أي نهجيك تنهج؟
وفي مسألة التاريخ فإن الأمر لا يزال يحمل نفس التعقيد، فتاريخ مصر وهي الدولة الأقدم في التاريخ مرتبط بالتأكيد بالحضارة المصرية القديمة، ولكنه أيضاً مرتبط بالتأثير اليوناني والروماني والعربي، فضلاً عن التأثير الأوروبي المتأخر الإنجليزي والفرنسي.
والمصريون يحملون نسخاً مختلفة من التاريخ، فالتاريخ المصري ينظر إلى كثير من المسائل بوجهات نظر تتباين فيها رؤية القوميين المصريين مع العروبيين مع رؤية الكنيسة المصرية ناهيك عن رؤية التيارات الإسلامية، ولا يزال هناك من يعتبرون قطز وبيبرس مماليك أجانب غزاة احتلوا مصر ومن يعتبرونهم أبطالاً مصريين حموا مصر في مواجهة العدو، ناهيك عن الموقف من يوليو 52 أو من الجنرال يعقوب أو من الحملة الفرنسية أو الغزو العربي أو موقف الشيعة المصريين من صلاح الدين الأيوبي، أو الموقف من ولاء مصطفي كامل للباب العالي، نحن إذن أمام نسخ مختلفة ومؤدلجة للتاريخ المصري لا يجدي معها اعتماد رواية رسمية واحدة، بل الأفضل أن نعيد دراسة التاريخ المصري ككل ودراسة شخصياته على ميزان العيوب والمميزات بشكل منطقي ويصلح لتوحيد المصريين ككل والطلبة على وجه الخصوص على رؤى أكثر موضوعية تفتح المجال لاعتبار التاريخ مادة للبحث والاستقصاء وليس مادة للحفظ والإلقاء.
وارتباطاً بالمادتين السابقتين، تأتي مادة التربية القومية متأثرة بكل مشاكلهما، فهل هذه التربية القومية تربية قومية عربية أم قومية مصرية أم وطنية مصرية، وهل يتم التعامل مع مصر فيها ككيان وطني مستقل أم كجزء من دولة عربية واحدة أو دولة إسلامية أكبر إلخ.
ثم تأتي أخيراً مادة الدين لتضيف المزيد من التمييز بين الطلبة في المدارس والتمييز بين المواطنين لاحقاً، و لتفتح الباب لتحويل التعليم المدني إلى تعليم له شق ديني، ومن غير المفهوم لماذا يتم الإصرار على تدريس الدين بدلاً من تدريس مكارم الأخلاق بشكل عام مع ترك تعليم الدين اختيارياً لكل أسرة كما تشاء.
في الواقع إذن، إن كثيراً من مشاكل منظومة التعليم المصرية التي انفجرت في وجوهنا مؤخراً دعماً أو رفضاً لخطة الوزير ليست أزمة تعليم، بل هي أزمة هوية كامنة لدى المصريين ولم يتم حلها بهذا النظام أو بغيره حتى الآن.